لماذا نعجز نحن المسلمون وعددنا ملياران عن نصرة قضايانا وحماية المستضعفين منّا رغم ما نملكه من مقدرات ضخمة في العدد والمال والقوة؟

لماذا يعجز عالم عربي واسع أرضه متصلة وشعبه فتيٌّ يافع وقدراته هائلة عن إيقاف أطماع أمريكا والغرب وأدواتهم في المنطقة؟

نقاء مصدر التلقّي وصحّة منهج التلقّي

هذا السؤال وأمثاله هو الذي يئنّ اليوم في ضمير كل مسلم وكل عربي، وسأحاول الإجابة عن جزء مركزي منه هنا، وهو أننا فرّطنا في أسس الدين الذي أنزله الله ليكون فيه ذكرُنا وعزّنا، وكل ما نعانيه اليوم هو عرَض لهذا المرض الخطير الذي حلّ بنا.

ولذلك، فمع كل الأسى والعجز الذي يلفّنا من المحيط إلى المحيط، فإنّ الواجب المنوط بالدعاة اليوم كبير جدّا، والدعاة ليسوا مجرّد المشايخ وعلماء الشريعة، بل كل مسلم له ثغره الدعوي، فجزء كبير من عجزنا هو عجز في المفاهيم والقناعات قبل كل شيء، هو تقصير عمّا يقتضيه دين الله.

كان سيد قطب رحمه الله يخبرنا في كتاب “المعالم” بماذا اختلف عنّا الجيل الأول من الصحابة ممّا جعله يصل إلى ما وصل إليه من مجد وعزّ وتمكين، فخلُص إلى أمرين: نقاء مصدر التلقّي وصحّة منهج التلقّي.

فأما المصدر فكان النبع الصافي من الوحي، وأمّا المنهج فكان “التلقّي للتنفيذ” بعبارته، أي للعمل، فلا نتناول الدين كثقافة عامة تُناقَش ولا تُفَعّل، ولا نخوض في مسائل عقائدية وكلامية لا يُبنى عليها عمل، بل غاية الدين تفعيله في الواقع.

الأوبة لشريعتنا وولائنا

وحين أُبصر اليوم كيف تتلاعب بنا المرجعيات المتنوّعة من أيديولوجيات ليبرالية وعلمانية ويسارية ووطنية بل وفلسفية وغيرها، وكيف ترسم لنا مفاهيمنا ومواقفنا واصطفافاتنا بعيدًا عن الشريعة أدرك إلى أي مدى يؤثّر تحديد مصدر التلقّي في تصحيح مواقف البشر وآثارها في الواقع.

والأمر نفسه يقال عن منهج تلقّينا لهذا الدين، ومدى جدّيتنا في الدعوة إلى مفاهيمه الأصيلة ومواجهة المجتمعات بها ومحاولة تغيير المفاهيم الفاسدة وإحلال مفاهيم الدين مكانها، فكثيرا ما نتناول الدين “شعارات” دون أن يكون مادّة جادّة في سلوكنا على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وغيره..

نعم نحن نتكلّم كثيرًا، وبعواطفنا في معظم الأوقات، والكلام لا يغيّر شيئا من واقع الصواريخ وطائرات الـ F35 وما تحفره في الأرض والإنسان وما تُسبّبه من معاناة.. لكنّ الكلام والتربية قادران على بناء الإنسان الجديد الذي نرجوه في خضمّ هذه المآسي التي تحيط بنا، علينا أن ندرك أنّ كل ما يحدث لنا لأننا لم نمض على خطّة الله لنا. علينا أن نتعلّم من قسوة حاضرنا وأن يدفعنا ذلك إلى الأوبة لشريعتنا وولائنا الذي لا يناسبنا غيرُه.

الخلل هنا: التفريط بولائنا الإسلامي وبشريعتنا..

تحدّثت كثيرا في السنوات الماضية وما زلت عن “الولاء” وما يُبنى عليه من هوية إسلامية ونبذ للهويات الوطنية والقومية ومعاييرها التالفة.. وعن “الشريعة” ومرجعيّتها الضرورية الواضحة، وارتباطها الأصيل بالتوحيد، وأهمية العودة إليها مرجعيّةً أولى للقيم والشرائع والمفاهيم، وألّا نزاحمها بالمرجعيات الجاهلية المعاصرة..

كل ذلك الاهتمام لأنني أرى الخلل هنا، من تفريطنا بولائنا الإسلامي وتفريطنا بشريعتنا.. فكيف سيوفّقنا الله وينصرنا وتنهض بلادنا إذا كنّا متنكّبين طريق الله؟ كيف سينصرنا ونحن نفخر بانتماءات مخترعة جاهلية رسمها أعداؤنا لنا ونتعصّب لها، ونتحاكم إلى قوانين وضعية استوردنا بعضها ونسجنا بعضها الآخر بأهوائنا وصمتْنا عن تعطيل شرائع كثيرة منذ عقود؟!

العودة الصادقة إلى الشريعة مصدرًا للتلقّي ومنهجًا للحياة، نتّخذها معيارًا جادًّا لمفاهيمنا وسلوكيّاتنا ومواقفنا وآرائنا، كلّها لا بعضها دون بعض، وإلى الولاء الإسلامي يحدّد لنا اصطفافاتنا وانتماءنا وبوصلة تحرّكنا وعملنا.. هذه العودة حين تكون حارّة جادّة متفاعلة مع الأحداث، تخرج من قلوب ترى روحها ورواحها ووجهتَها واتّجاهها في دين الله تعالى..

هذه العودة هي الكفيلة بعودتنا خير أمّة أخرجتْ للناس، وهي الكفيلة بتحقيق وعد الله لنا:

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].. فما نحلم به كما ترون محاط بالإيمان والعمل الصالح وإفراد الله بالعبادة، هي شرط له، فكيف نرجو الاستخلاف والتمكين والأمن ونحن مقصّرون في ذلك؟!

تصحيح المفاهيم والتربية عليها

لا تيأسوا من روح الله، ولا تغمطوا جانب تصحيح المفاهيم والتربية عليها حقّه مهما كان طريقًا طويلًا صعبًا شائكًا تواجهه في مجتمعاتنا آلاف الشبهات والاعتراضات والتسويغات.. فالجيل الذي ينشأ على المفاهيم الصحيحة ويسعى إلى تفعيلها في الواقع هو الجيل الذي يحمل في قلبه شُعلة المجد وراية العزّ.. هو الجيل الذي يُرجى له أن يحمل مهمّة إخراج الأمّة من غربتها الثانية وتيهها الذي طال.. لكنه يحتاج إلى ذلك الوسط الهادر المتصاعد من مفاهيم التوحيد والشريعة النقية، غير المخلوطة بمفاهيم العلمانية والوطنية الفاسدة، فإذا أهملنا الدعوة إليها والتربية عليها خسرنا أكبر معاركنا، وهي معركة الإيمان والوعي والتربية..

إن الذين يسيطرون على العالم العربي والإسلامي اليوم لا يحملون في معظمهم هذه المفاهيم، وإذا حمل بعضهم شيئا منها فعلى استحياء أو مع خلط غيرها بها والتورّط في الاستخذاء للقوى الغربية المهيمنة.. والمرجوّ من هذه الأمة ودعاتها على وجه التحديد أن تُخرّج أجيالا تمكنهم من الإمساك بزمام الأمور وقيادة الأمة بمفاهيم الكتاب والسنّة.. أجيالا تُربّى على الوعي السياسي والاستراتيجي بعد التربية على مفاهيم التوحيد والإيمان والإسلام.. أجيال تدرك خطورة أن تظلّ سياسات بلادها المترامية بيد أراذلها، ولا تكتفي بتربية متدينين يخشون الله ويلتزمون بدينه في ذوات أنفسهم بعيدًا عن الهم العام، لأنهم سيتحولون إلى أغنام ينتظرون دورهم في المذبحة القادمة!

المصدر

صفحة الأستاذ شريف محمد جابر على منصة ميتا.

اقرأ أيضا

الإسـلام شريعـة تحكـم حيـاة الأمـة

كيف أخرج رسول الله للناس خير أمة؟ (2) أُطرٌ متعددة وهوية واحدة

(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) شريعتنا هي كل ديننا

الإصلاح وتصحيح مفهوم لا إله إلا الله

التعليقات غير متاحة