يتنافس الناس منذ الأزل، لكن شتان بين متنافس على منازل العلا وبين مزابل الدنيا. انظر فيم تنفق جهدك؛ فثمة خطْب عظيم وخبر جليل.
مقدمة
يمكن أن تقف لحظة، بل تقف عمرك كله، لتتذكر لحظة لولا أن الله تعالى حدثنا عنها لما طمع طامع في الوصول إليها، وهي أجلّ من أن تحيط بها العبارة، لكن نحاول فقط الاقتراب منها، لتعلم لماذا يدفع المجاهدون أرواحهم ويبذولونها رخيصة لربهم تعالى، ولماذا ينتصب العُبّاد ليلا لربهم قياما، ونهارا لربهم صياما قائمين بالحقوق حافظين للحدود يؤثرون مرضاة ربهم على مراداتهم..
ذلك لأن هناك لحظة اللقاء والقرب، لحظة الوصول إلى غاية لا يتصور العقل البشري كنهها وما يكون فيها، وإن علم عنها ما أخبر الله ورسوله، وصدَقا.
لكن تصور ما فيها والإحاطة بها أمر عظيم؛ وهي لحظة الوصول للدرجة التي يصفح الله فيها ويغفر ويشمل عبدَه بعفوه، ثم يقرّبه منه، ويتفضل تعالى فيكلّم عباده بلا واسطة، ثم يتفضل جلّ جلاله وتقدست أسماؤه وعظم ثناؤه وتبارك اسمه فيرفع الحجاب، ويرى عبادُه وجهه الكريم، فما أُعطوا شيئًا هو أحب إليهم وما تنعّموا بشيء أعظم من ذلك، حتى قال أهل العلم أن نعيم الجنة ـ سوى هذا ـ إلى نعيم النظر إلى وجهه تعالى كقطرة في بحر.
صِف كما تشاء، وقُل ما تشاء؛ لكن لو وجدت كلمات تعبّر! لأنك لن تجد..
ولما وصف تعالى تلك اللحظة وصَف أثرها على وجوه أصحابِها أنها ناضرة قد امتلأت سعادة، ووصف عذاب أعدائه أنهم حُرِموا منها، ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ [المطفّفين:15]..
ووصف نبيُّه صلى الله عليه وسلم صفاء الرؤية؛ كرؤية القمر ليلة البدر ليس دونه غمام (1روى البخاريّ في صحيحه (4581) كتاب تفْسير القرْآن- باب قوْله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النّساء:40]، عنْ أبي سعيدٍ الخدْريّ رضي الله عنه: أنّ أناسًا في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله هلْ نرى ربّنا يوْم القيامة؟ قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «نعمْ، هلْ تضارّون في رؤْية الشّمْس بالظّهيرة ضوْءٌ ليْس فيها سحابٌ؟»، قالوا: لا، قال: «وهلْ تضارّون في رؤْية القمر ليْلة البدْر ضوْءٌ ليْس فيها سحابٌ؟»: قالوا: لا، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما تضارون في رؤْية الله عزّ وجلّ يوْم القيامة، إلّا كما تضارون في رؤْية أحدهما»، وكذا مسْلمٌ في صحيحه 299 (182) كتاب الإيمان- باب معْرفة طريق الرّؤْية، منْ حديث أبي هريْرة رضي الله عنه)، فهو تشبيه للرؤية وليس للمرئيّ تعالى.
منتهى الأماني
وهنا تنتهي الأماني وتسكت الألسن وتسكن النفوس وتطمئن القلوب وترتاح الأرواح، فقد وصل هؤلاء، الذين هم خير البريّة، إلى هذه المكانة؛ وصلوا إلى ما تعجز العبارة عن وصفه.
العجيب أن هذا ليس مرّةً واحدة، ولكنه لأهل الجنة بمقدار كل أسبوع في الدنيا، فيرونه بمقدار صلاة الجمعة في الدنيا، فهو حدث عظيم يُعطَوْه دائمًا، وله أثر بادٍ ومنعّم لهم يبدو دومًا عليهم.
العجيب والأعجب أن قومًا هم من أعلى أهل الجنة عملًا، سيعيشون بالقرب منه تعالى، نعم، إن اليد لترتعش وهي تكتب هذه الكلمات، لكنها حقيقة، سيعيش قوم بالقرب منه، لا يحول بينهم وبين رؤية وجهه الكريم العظيم الجليل؛ إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن.
بل العجيب والأعجب كذلك أنهم سيرونه كل يوم غدوة وعشيًّا، كصلاة الفجر والعصر، وما بين ذلك فيحول بينهم وبينه رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن.
تعجز العبارة ويجِل القلم أن يتمادى أكثر من هذا.. لكنها حقيقة، سيعيش قوم هكذا، صباحًا ومساءً، فيا أهل الجنة سلام عليكم.
نحن في الدنيا نشعر في وقت السحر بالتنزل الإلهي لأهل الدنيا فيجد العبّاد رقة وتنعًما خاصًّا بذكره وعبادته، لكن قوما سيعيشون بالقرب إلى هذه الدرجة، لا أدري كيف سيتنفسون..؟ بم سيشعرون..؟ كيف تمر عليهم اللحظة بعد اللحظة في نعيم كهذا..؟ لا أدري، لكنه سيكون، وسيعيشها قوم.. لله درهم وطابت حياتهم.
جاء في صحيح «مسلم»: عنْ أبي بكْر بْن عبْد الله بْن قيْسٍ، عنْ أبيه، عن النّبيّ صلّى الله عليْه وسلّم قال: «جنّتان منْ فضّةٍ آنيتهما، وما فيهما. وجنّتان منْ ذهبٍ آنيتهما، وما فيهما. وما بيْن الْقوْم وبيْن أنْ ينْظروا إلى ربّهمْ إلّا رداء الْكبْرياء على وجْهه في جنّة عدْنٍ». (2رواه مسْلمٌ في صحيحه 296 (180) كتاب الإيمان- باب إثْبات رؤْية الْمؤْمنين في الْآخرة ربّهمْ سبْحانه وتعالى)
وروى «الترمذي» عن ثوير، قال: سمعْت ابْن عمْر رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أدْنى أهْل الجنّة منْزلةً لَمنْ ينْظر إلى جنانه وأزْواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألْف سنةٍ. وأكْرمُهم على الله منْ ينْظر إلى وجْهه غدْوةً وعشيّةً»، ثمّ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى ربها نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة:22-23]». (3رواه الترمذي)
ارتباط الجزاء بالعمل
يقول ابن تيمية، رحمه الله:
“ومنْ تأمّل سياق الْأحاديث الْمتقدّمة علم أنّ التّجلّي يوْم الْجمْعة له عنْدهمْ وقْعٌ عظيمٌ لا يوجد مثْله في سائر الْأيّام؛ وهذا يقْتضي أنّ هذا النّوْع أفْضل منْ الرّؤْية الْحاصلة كلّ يوْمٍ مرّتيْن”. (4مجْموع الفتاوى (6/ 455))
“ثمّ هذا منْ الْممْكن أنّ «الرّؤْية جزاء الْعمل»، فإنّه قدْ جاء في الْأخْبار ما يدلّ على أنّ الرّؤْية يوم الْجمعة ثواب شهود الْجمعة؛ بدليل أنّ فيها يكونون في الدّنوّ منْه على مقْدار مسارعتهمْ إلى الْجمعة وتفاوت الثّواب بتفاوت الْعمل دليلٌ على أنّه مسبّبٌ عنْه وبدليل أنّه مذْكورٌ في غيْر حديثٍ إنّه يكون بمقْدار انْصرافهمْ منْ صلاة الْجمعة في الدّنْيا”.
“وموافقة الثّواب للْعمل في وقْته وفي قدْره حتّى يصير جزاءً وفاقًا: يقْتضي أنّ الْعمل سببه؛ وبدليل أنّ ذلك مذْكورٌ في فضْل يوْم الْجمعة في الدّنْيا والْآخرة؛ فعُلم أنّ ارْتباط ثوابه في الْآخرة بعمله في الدّنْيا؛ وبدليل أنّ فيه عند منْصرف النّاس من الْجمعة رجوع الصّالحين إلى منازلهم ورجوع الْأنبياء والصّدّيقين والشّهداء إلى ربّهمْ. وهذا مناسبٌ لحالهمْ في الدّنْيا؛ فإنّ الصّالح إذا انْقضتْ الْجمعة اشْتغل بما أبيح له في الدّنْيا وأولئك اشْتغلوا بالتّقرّب إليْه بالنّوافل فكانوا متقرّبين إليْه في الدّنْيا بعْد الْجمعة فقربوا منْه بعْد الْجمْعة في الْآخرة وهذه «الْمناسبة الظّاهرة» الْمشْهود لها بالاعْتبار تقْتضي أنّ ذلك التّجلّي ثواب أعْمالهمْ يوْم الْجمعة”. (5مجْموع الفتاوى (6/ 456-457))
وقرر أهل العلم أن الرؤية ثابتة لجميع المؤمنين، لكنها تتفاوت بتفاوت العمل، والله تعالى المبلّغ للمنزل بحوله وقوته، ورحمته ومغفرته.
خاتمة
تلك المنازل التي تستحق العمل لها، وتلك المساكن التي تُرضى، لا مساكن الدنيا ودور رحيلها؛ كن على استعداد واستنفار؛ لا تقعد ولا تتوانَ؛ فكل لحظة تقول “قد أزف الرحيل”. فلا تتأخر عن منازل السعداء، وإن كانت ثمة مزاحمة فزاحمهم في تلك الدور وتطلع الى العلياء؛ فقد قال ربك ﴿لمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾ (الصافات: 61)
………………………
الهوامش:
- روى البخاريّ في صحيحه (4581) كتاب تفْسير القرْآن- باب قوْله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النّساء:40]، عنْ أبي سعيدٍ الخدْريّ رضي الله عنه: أنّ أناسًا في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله هلْ نرى ربّنا يوْم القيامة؟ قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «نعمْ، هلْ تضارّون في رؤْية الشّمْس بالظّهيرة ضوْءٌ ليْس فيها سحابٌ؟»، قالوا: لا، قال: «وهلْ تضارّون في رؤْية القمر ليْلة البدْر ضوْءٌ ليْس فيها سحابٌ؟»: قالوا: لا، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما تضارون في رؤْية الله عزّ وجلّ يوْم القيامة، إلّا كما تضارون في رؤْية أحدهما»، وكذا مسْلمٌ في صحيحه 299 (182) كتاب الإيمان- باب معْرفة طريق الرّؤْية، منْ حديث أبي هريْرة رضي الله عنه.
- رواه مسْلمٌ في صحيحه 296 (180) كتاب الإيمان- باب إثْبات رؤْية الْمؤْمنين في الْآخرة ربّهمْ سبْحانه وتعالى.
- رواه الترمذي.
- مجْموع الفتاوى (6/ 455).
- مجْموع الفتاوى (6/ 456-457).