كانت طاقة ” العمل ” تدفعهم للإنشاء والتعمير، والفتح والانسياح في الأرض، فبلغوا في لمحة خاطفة من الزمن ما لم يبلغه غيرهم في قرون، وأقاموا في كل مكان مثلاً للعدالة الإنسانية كانت – وما تزال – غريبة على البشرية، ينظرون إليها كما ينظرون للأحلام والأساطير.
فلا يأس مع الحياة!
“إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها فله بذلك أجر”1[1] ذكره علي بن العزيز في المنتخب بإسناد حسن عن أنس رضي الله عنه. ” عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني، باب الحرث والزراعة “..
فالعمل في الأرض لا ينبغي أن ينقطع لحظة واحدة بسبب اليأس من النتيجة!
فحتى حين تكون القيامة بعد لحظة، حين تنقطع الحياة الدنيا كلها، حين لا تكون هناك ثمرة من العمل.. حتى عندئذ لا يكف الناس عن العمل وعن التطلع للمستقبل، ومن كان في يده فسيلة فليغرسها!
إنها دفعة عجيبة للعمل والاستمرار فيه والإصرار عليه!
لا شيء على الإطلاق يمكن أن يمنع من العمل!
كل المعوقات.. كل الميئسات.. كل ” المستحيلات “.. كلها لا وزن لها ولا حساب.. ولا تمنع عن العمل.
وبمثل هذه الروح الجبارة تعمر الأرض حقاً وتشيد فيها المدنيات والحضارات.
كان المسلمون يقتدون برسولهم وهو يحثهم على العمل لتعمير الأرض
لقد كان المسلمون يقتدون برسولهم وهو يحثهم على العمل لتعمير الأرض، وغرس ما في أيديهم من فسائل تثمر حين يشاء لها الله، وإنما عليهم فقط أن يغرسوها، ويمضوا إلى غيرها يغرسون في مكان جديد! ويقتدون به فيغرسون به ما يغرسون من نبتات الخير في كل مكان، وهم يتجهون إلى الله وحده وإلى الآخرة. لا تدفعهم مطامع الأرض المنبتة عن طريق الله، ولا شهوات النفس المنبتة عن تقوى الله.
وبذلك تميزوا وسادوا، وكانوا النور المشرق في ظلمات الأرض، والقدوة في كل سلوك وكل عمل وكل علم وكل نظام. وأوربا في ظلمة الجاهلية تأكلها الفرقة والحروب والتأخر والانحطاط.. حتى قبست قبسات من الإسلام في الحروب الصليبية، فأفاقت من غفوتها وبدأت “تنهض”.. ولكن على غير طريق الله وطريق الآخرة.. ومن ثم لا تقوم إلا كمن يتخبطه الشيطان من المس .. تنطلق كالمجنون والهوة في آخر الطريق.
وإن أمام المسلمين الكسالى اليوم قدوة في رسول الله تنفعهم إذا فتحوا لها بصائرهم وتدبروا معانيها. إن عليهم أن يعملوا دائماً ولا يكلّوا.. يعملوا جهد طاقتهم، وفوق الطاقة ليعوضوا القعود الطويل. يعملوا في كل ميدان من ميادين العمل: في ميدان العلم وميدان الصناعة وميدان التجارة وميدان الاقتصاد وميدان السياسة وميدان الفن وميدان الفكر..
يعملوا ولا يقولوا: ما قيمة العمل؟ وماذا يمكن أن نصل إليه؟
يغرسوا الفسيلة ولو كانت القيامة تقوم اللحظة. فإنما عليهم أن يعملوا، وعلى الله تمام النجاح!
والدعاة خاصة لهم في هذا الحديث درس أي درس!
فالدعاة هم أشد الناس تعرضاً لنوبات اليأس، وأشدهم حاجة إلى الثبات!
قد ييأس التاجر من الكسب، ولكن دفعة المال لا تلبث أن تدفعه مرة أخرى إلى السير في الطريق.
قد ييأس السياسي من النصر، ولكن تقلبات السياسة لا تلبث أن تفتح له منفذاً فيستغله لصالحه.
قد ييأس العالم من الوصول إلى النتيجة.. ولكن المثابرة على البحث والتدقيق كفيلة أن توصله إلى النهاية.
كل ألوان البشر المحترفين حرفة معرضون لليأس، وهم في حاجة إلى التشجيع الدائم والحث الطويل، ولكنهم مع ذلك ليسوا كالدعاة في هذا الشأن، فأهدافهم غالباً ما تكون قريبة، وعوائقهم غالباً ما تكون قابلة للتذليل.
وليس كذلك المصلحون.
إنهم لا يتعاملون مع المادة ولكن مع ” النفوس ” والنفوس أعصى من المادة، وأقدر على المقاومة وعلى الزيغ والانحراف.
والسم الذي يأكل قلوب الدعاة هو انصراف الناس عن دعوتهم، وعدم الإيمان بما فيها من الحق، بل مقاومتها في كثير من الأحيان بقدر ما فيها من الحق، وعصيانها بقدر ما فيها من الصلاح!
عندئذ ييأس الدعاة.. ويتهاوون في الطريق.
إلا من قبست روحه قبسة من الأفق الأعلى المشرق الطليق. إلا من أطاقت روحه أن يغرس الفسيلة ولو كانت القيامة تقوم اللحظة عن يقين!
أيها الدعاة ليس عليكم ثمرة الجهد
الدعاة أحوج الناس إلى هذا الدرس. أحوج الناس أن يتعلموا عن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه العجيب الذي تتضمنه تلك الكلمات القليلة البسيطة الخالية من الزخرف والتنسيق.
هم أحوج الناس أن يقبسوا من قبسات الرسول هذه اللمحة المضيئة الكاشفة الدافعة الموحية، فتنير في قلوبهم ظلمة اليأس، وتغرس في نفوسهم نبتة الأمل، كما تغرس الفسيلة في الأرض لتثمر بعد حين.
إنه يقول لهم: ليس عليكم ثمرة الجهد، ولكن عليكم الجهد وحده، ابذلوه ولا تتطلعوا إلى نتائجه!
ابذلوه بإيمان كامل أن هذا واجبكم وهذه مهمتكم، وأن واجبكم ومهمتكم ينتهيان بكم هناك، عند غرس الفسيلة في الأرض، لا في التقاط الثمار!
وهو إذ يقول لهم ذلك لا يغرر بهم ولا يضحك عليهم! إنما يقول لهم الشيء الواحد الصواب!
فحين تسأل نفسك: متى تثمر الفسيلة وكيف تثمر، وحولها الرياح والأعاصير والشر من كل جانب؟
وحين يصل بك التفكير إلى أن تطرح الفسيلة جانباً وتنفض منها يديك.. حينئذ كيف تثمر؟ وأنَّى لها أن تعيش؟
أما قتلتها أنت حين أفلتّها من يديك؟
ولكنك حين تغرسها في الأرض وترفع يديك لله بالدعاء.. حينئذ تكون أودعتها مكانها الحق، وعهدت بها إلى الحق الذي يرعاها ويرعاك.
قد تمضي قبل أن ترى الثمار..
ولا يشغلك أن تسأل: متى تكون الثمار؟! ليس هذا من عملك أنت. لست مهيمناً على الأقدار. وليس لك علم الغيب. و لا في طوقك – لو علمته – أن تمسك نفسك من الدوار!
ومن تكون أنت في ملك الله الواسع الفسيح الذي لا حد له ولا انتهاء؟!
وإنما أنت أنت: مخلوق حي متحرك له كيان وله وزن وقوة ومكان في تاريخ الأرض، حين تقبس روحك قبسة من صانع الأرض وصانع الكون، وصانعك أنت من بين هذا الكون الكبير.
أفلا تدع له إذن مصيرك مطمئناً إليه؟ أو لا تدع له كذلك هذه الفسيلة التي غرستها يرعاها لك ويطلع لها الثمار؟! أو لا تكتفي بدورك المطلوب منك في الملكوت الهائل الفسيح، وتحمد الله أن لم يحمّلك سوى دورك هذا المحدود الميسور؟!
وحين تصنع ذلك تطلع الثمار!
لا عجب في ذلك ولا سحر!
وإنما أنت تؤدي دورك وتمضي، فيجيء غيرك فيعجب بك وما صنعت، فيحبك، فيذهب يتعهد فسيلتك التي غرست، فتنمو، وتطلع الثمار.
وقد تكون ” سعيداً ” بمقاييس الأرض، فترى الثمرة وأنت حي في عمرك المحدود.
وقد تمضي قبل أن ترى الثمار..
ولكن أين تمضي؟ هل تمضي لأحد غير الله، إلى جوار غير جوار الله؟
فماذا إذن عليك حين تصل إلى هناك، أن تكون قد رأيت الثمرة هنا، أو تراها وأنت هناك؟ كلا! إنهما في النهاية سيان.
وإنما ترضى وأنت في جوار ربك أنك غرست الفسيلة في الأرض ولم تدعها من يدك يقتلها اليأس والإهمال.
من كان في يده فسيلة فليغرسها!
ليست إذن دعوة في الخيال حين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للناس: إن كان في يد أحدكم فسيلة فليغرسها.
وإنما هي صميم دعوة الحق. الحق الواقع في الأرض، المشهود على مدار التاريخ.
والدعاة في كل الأرض أحوج الناس إليها حين تضيق بهم السبل ويصل إلى قلوبهم سم اليأس القتال.
وهم أولى الناس أن يتدبروا سيرة الرسول نفسه.
لقد كان يغرس الفسيلة وهو ما يدري ما يكون بعد لحظات!
قد تأتمر به قريش فتقتله.
قد يهلك جوعاً في الشعب هو ومن معه من المؤمنين.
قد يلحق به الكفار وهو في طريقه إلى الغار فلا يكون ثمة غد.. أو تكون القيامة بعد لحظة.. ومع ذلك يغرس الفسيلة، ويتعهدها بالرعاية حتى يؤذن الله بالثمار، وهو مطمئن دائماً إلى الله ما دام يؤدي الواجب المطلوب.
ذلك هو المثل الذي يحتاج الدعاة إلى أن يقتدوا به حين يدعون إلى الإصلاح.
من كان في يده فسيلة فليغرسها!
ولا يسأل نفسه: كيف تنمو وحولها الرياح والأعاصير والشر من كل جانب؟
لا يسأل نفسه، فليس ذلك شأنه..
فليدع ذلك لله .
ولتطلب نفسه أنه أودعها مكانها الحق، وعهد بها إلى الحق الذي يرعاها ويرعاه.
الهوامش
[1] ذكره علي بن العزيز في المنتخب بإسناد حسن عن أنس رضي الله عنه. ” عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني، باب الحرث والزراعة “.
المصدر
كتاب: “من قبسات الرسول” محمد قطب رحمه الله، ص12-16 بتصرف يسير.
اقرأ أيضا
الدنيا والآخرة طريق واحد وحسبة واحدة