عندما نمتثل أمر الله تعالى فقد توجهنا نحو تحصيل المصالح التي لا يحيط بها غيره، وكذا عندما نترك المحرمات فقد تجنبنا مشقات الدنيا والآخرة. فلا تخدعْك نفسك بمعصيته.
مقدمة
لم يشرع الله تعالى لنا شرائعه لحاجته لنا، بل لحاجتنا له تعالى. والخلق لا يستغنون عن شريعة ربهم ولا يستقلون بالتشريع ومصالحه؛ لأن من يشرع ينبغي أن يكون هو من يعلم الغيب والشهادة، والحاضر والماضي والمستقبل، ويعلم غاية وجود كل موجود ودوره.. وهذا الى علام الغيوب الحكيم العليم.
المصلحة متحققة فيما شرع الله
إقامة الفرائض هي إقامة للمصالح التي قصدها الشارع سبحانه من التشريع، فما شرع الله تعالى فريضة إلا وهي متضمِنة للمصالح؛ نعلم طرفًا منها ولا يحيط علما بأوجه المصالح التي شرعت الفرائض من أجلها إلا رب العالمين؛ فإنه تعالى ما شرع إلا لحكمة ومصلحة تتحقق للعبد في الدنيا والآخرة، سواء علمنا وجه المصلحة تفصيلًا أوْ لم نعلم؛ فنتمسك بوجه المصلحة الظاهر في طاعة الله تعالى وامتثال أمره، علما وثقةً ويقينًا في تضمنها للمصلحة.
بل وما علمنا وجه مصلحته التي شرع لها لا نقطع أبدا أن المصالح قد انحصرت فيما علمناه، بل نعلمه للاجتهاد والتفريع للحوادث المستجدة، لكن لا نقطع انحصار المصلحة في هذا.
كما أننا إذا علمنا وجه المصلحة في الأمر فليس لنا الاستغناء عنه لنحقق المصلحة من جهة أخرى أو بقانون غير قانونه، إذ نحن ملزَمون بامتثال الأمر وأن نقصد الامتثال ونقصد وجه المصلحة التي فهمناها.. وعلى هذا فليس لمخلوق أن يشرع قانونًا بشريًّا بدلا عن حكم الله ويزعم أنه يحقق ما قصد الله تعالى تحقيقه.
فالأصل هو الامتثال للأمر سواء علمنا وجه المصلحة أم لا، وسواء انحصرت المصالح فيما علمناه أو لم تنحصر، فالامتثال هو الفرض وهو الأوثق.
كما نقطع بأن ما تضمنته الفرائض هي مصالحنا ومصالح الخلق جميعًا على وجه عام ومطرد..
كما نقطع أن المصالح المتضمنة في الفرائض المأمور بها والمحرمات المنهي عنها هي مصالح الدنيا والآخرة.
كما نقطع أن مخالفة الفريضة وارتكاب المحرّم تعني حصول المشقات والمفاسد، علمنا وجهها وتفاصيلها أو لم نعلم، وهي مفاسد لنا ولغيرنا، وهي مفاسد الدنيا والآخرة، ومفاسد الآخرة على وجه الخصوص لا يكتمل العلم بها إلا بمباشرتها، وهو أمر خطير أن تتعرض له، بل لا أخطر منه؛ إذ إن مشقات الآخرة هي أعظم المشقات على الإطلاق، نسأل الله العافية.
كما نقطع أننا لا نستقل بأمر التشريع، وبأننا مفتقرون إلى الله في التشريع والى بيان وجه رضاه وبيان وجه مصلحتنا كحاجتنا إلى الطعام والشراب بل وأشد.
وعلى هذا فعندما نقوم بالفريضة نقوم بأمر نطمئن ونثق أنه يتضمن محبة الله ورضاه، ويتضمن مصالحنا ومصالح الخلق ويتضمن مصالح الدنيا والآخرة، وهو أمر ملزِم ولا خيار لنا في امتثاله، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ [الأحْزاب:36].
ولذا فتلقينا للفريضة واستقبالنا لها، وتلقينا لمحرمات الله وحدوده واستقبالنا لها، لا بد أن يكون بثقة واطمئنان ورضا وقطْع بأن في امتثال فعل هذا وترك ذاك الخير، وأن الله تعالى ما ألزمَنا ليتكثّر منا أو يجني نفعا. حاش لله؛ بل ما شرعها تعالى إلا لحاجتنا لما شرع، فنأخذها على وجه الافتقار لا وجه الاستغناء ولا الاستثقال.
امْتثـال الظّاهـر وخضوع البـاطـن
إن الله تعالى يريد منا الامتثال، لكنه تعالى لا ينظر إلى مجرد القيام بالعمل الظاهر؛ بل ينظر تعالى إلى حال القلب أثناء الامتثال؛ وانظر إلى بيانه تعالى لحال بني إسرائيل وهم يمتثلون أمر ذبحٍ لبقرة؛ فقد سجل لهم حالهم الباطن رغم الامتثال الظاهر المتأخر، فقال تعالى: ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة:71]، نعم فعلوا لكن بعد جدال ومماحكة حتى كان حالهم، ﴿وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾، بخلاف مُخرج الصدقة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حاله «طيّبةً بها نفْسه». (1رواه أبو داود في سننه (429))
فالله تعالى ينظر إلى حال العبد وباطنِه عند تعبّده؛ روى الإمام «أحمد» في مسنده، عنْ أبي أمامة رضي الله عنه قال: حججْت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجّة الْوداع، فحمد الله وأثْنى عليْه، ثمّ قال: «ألا لعلّكمْ لا تروْني بعْد عامكمْ هذا، ألا لعلّكمْ لا تروْني بعْد عامكمْ هذا، ألا لعلّكمْ لا تروْني بعْد عامكمْ هذا». فقام رجلٌ طويلٌ كأنّه منْ رجال شنوءة فقال: يا نبيّ الله، فما الّذي نفْعل؟ فقال: «اعْبدوا ربّكمْ وصلّوا خمْسكمْ، وصوموا شهْركمْ، وحجّوا بيْتكمْ، وأدّوا زكاتكمْ طيّبةً بها أنْفسكمْ تدْخلوا جنّة ربّكمْ». (2رواه أحْمدٌ في مسْنده (22260)، وقال شعيْب الأرْنؤوط (36/ 595): «حديثٌ صحيحٌ وهذا إسْنادٌ ضعيفٌ»)، بل وتكررت هذه الكلمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدة.
وكما وصف ربنا تعالى طالب العلم والتزكية، ﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى﴾ [عبس:9]، فهذا وصف عمله الظاهر، ثم قال: ﴿وَهُوَ يَخْشَى﴾، فهذا وصف لحال قلبه وباطنه.
وكما وصف حال المفتقرين لقبول ربهم تعالى كحال خليل الله وابنه صلوات الله عليهما، ﴿إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة:127]، ولهذا يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:21]، وعلى أحد وجهي تفسير الآية أن ترجية التقوى مرتبط بالعبادة؛ فيكون المعنى ﴿اعْبُدُوا… لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، يعني لتكونوا في عبادتكم على رجاء حصول حال التقوى.
وكن على ذكر لقوله تعالى: ﴿لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتْح:18].
كما يجب أن تنظر في مثل قوله تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ﴾ [الحجرات:3]، فالطاعة جائزة تحدث بعد امتحان.
وانظر إلى هذه اللفتة في سورة الليل حيث جعل تعالى مقابل التقوى «الاستغناء» وليس الفجور، ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ﴾ [اللّيْل:5].. ثم قال مقابلها: ﴿وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ﴾ [اللّيْل:8]..
كن على وجَل ومراجعة ولتكن حالك لتلقي الطاعة وترك المعصية هي هذه الحال من التخوف والرجاء، والطمأنينة والافتقار، ووجه الثقة في الأمر واليقين في الله تعالى..
فمن امتثل أمر الله تعالى وقام به، فليُعط لربه وجهه وظاهره وليُعطه قلبه وباطنه؛ لا بد أن يقترنا ويترافقا على وجه العبودية والانكسار والافتقار لرب العالمين.
وليتقن عمله لربه، إتقان المعنى والمضمون، وحضور القلب وعبوديته لله، ولْيجتهد في القيام بأمر ربه، فما وظيفة وجودك إلا تحقيق منهجه؟، ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الدّخان:38-39].. تقبل الله منا وإياك.
خاتمة
ونختم هذا الأمر بهذا الكلام الرائع للإمام «ابن القيم» رحمه الله حول تعامل النفوس مع الطاعات؛ إذ يقول عما في الطاعة وامتثال أمر الله وحكمه وما فيه من لذة وسرور أنه.. مبني على أصلين:
“الأصل الأول: أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإخلاص العمل له وإفراده بالتوكل عليه هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن.
لا كما يقوله من يقول إن عبادته تكليف ومشقة على خلاف مقصود القلب ولذّته بل لمجرد الامتحان والابتلاء كما يقوله منكرو الحكمة والتعليل، أو لأجل التعويض بالأجر لما في إيصاله إليه بدون معاوضة منه تكدره، أو لأجل تهذيب النفس ورياضتها واستعدادها لقبول العقليات كما يقوله من يتقرب إلى النبوات من الفلاسفة.
بل الأمر أعظم من ذلك كله وأجلّ، بل أوامر المحبوب قرة العيون، وسرور القلوب، ونعيم الأرواح، ولذّات النفوس، وبها كمال النعيم؛ فقرة عين المحب في الصلاة والحج، وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك وفي الصيام والذكر والتلاوة، وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه فاللّذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف ولا يدركه من ليس له نصيب منه، وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم، ومن غلظ فهمه وكثف طبعه عن إدراك هذا فليتأمل إقدام القوم على قتل آبائهم وأبنائهم وأحبابهم ومفارقة أوطانهم وبذل نحورهم لأعدائهم ومحبتهم للقتل وإيثارهم له على البقاء، وإيثار لوم اللائمين وذم المخالفين على مدحهم وتعظيمهم.
ووقوع هذا من البشر بدون أمر يذوقه قلبه من حلاوته ولذّته وسروره ونعيمه ممتنع، والواقع شاهد ذلك، بل ما قام بقلوبهم من اللذة والسرور والنعيم أعظم مما يقوم بقلب العاشق الذي يتحمل ما يتحمله في موافقة رضى معشوقه، فهو يلتذ به ويتنعم به لما يعلم من سرور معشوقه به.
فيا منْكرًا هذا تأخّرْ فإنّه .. حرامٌ على الخفّاش أنْ يبْصرالشّمْسا
فمن كان مراده وحبه الله، وحياته في معرفته، ومحبته في التوجه إليه وذكره، وطمأنينته به، وسكونه إليه وحده، عرف هذا وأقر به.
الأصل الثاني: كمال النعيم في الدار الآخرة أيضا به سبحانه برؤيته وسماع كلامه وقربه ورضوانه، لا كما يزعم من يزعم أنه لا لذة في الآخرة إلا بالمخلوق من المأكول والمشروب والملبس والمنكوح.
بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق تعالى أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام «أحمد» في مسنده و«ابن حبان» و«الحاكم» في صحيحيهما: «أسْألك لذّة النّظر إلى وجْهك والشّوْق إلى لقائك في غيْر ضراء مضرّةٍ وفتْنةٍ مضلّةٍ»، ولهذا قال تعالى في حق الكفار: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ [المطفّفين:15]، فعذاب الحجاب من أعظم أنواع العذاب الذي يعذب به أعداءه.
ولذة النظر إلى وجه الله الكريم أعظم أنواع اللذات التي يُنعّم بها أولياءه، ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم من رؤيته وسماع كلامه والدنو منه وقربه.
وهذان الأصلان ثابتان بالكتاب والسنة وعليهما أهل العلم والإيمان». (3طريق الهجْرتيْن وباب السّعادتيْن (ص58-59))
……………………………….
الهوامش:
- رواه أبو داود في سننه (429).
- رواه أحْمدٌ في مسْنده (22260)، وقال شعيْب الأرْنؤوط (36/ 595): «حديثٌ صحيحٌ وهذا إسْنادٌ ضعيفٌ».
- طريق الهجْرتيْن وباب السّعادتيْن (ص58-59).