من هم أوّل من جهروا بالعالمانية بديلا عن الشريعة، وأول من عدوا تمسك المسلمين بدينهم سبيا في تخلفهم؟!

هل ابن رشد هو رائد العالمانية في ثوبها العربي؟!

يحاول كثير من المستشرقين والعالمانيين العرب نسبة بدايات العالمانية في العالم العربي إلى رصيد من التراث الإسلامي والموروث، وقد آثر أكثرهم ابن رشد ليكون رائد العالمانية في ثوبها العربي أو حتى الغربي. وهي دعوى لا تملك أدنى الشروط التاريخية والموضوعية للصمود أمام النقد، إذ إنّ ابن رشد الفيلسوف هو نفسه قاض وفقيه مالكي، ولم يكن يَصْدُرُ في فتواه عن غير نصوص الشرع، أمّا مَيْلُه الفلسفي فلم يَبْلُغ به ردّ الشريعة، وإنما كان جُلُ همه التوفيق بين الإسلام وفلسفة اليونان على نحو تلتقي فيه حقائق الدين المُنَزَّلَةُ بإبداعات أرسطو، فأدَّاهُ مَذْهَبُهُ إلى التلفيق والتعسف في فَهْمِ النصوص، خاصةً في الإلهيات والجدل الميتافيزيقي1(1) الطبلاوي محمود سعد، موقف ابن تيمية من فلسفة ابن رشد في العقيدة وعلم الكلام والفلسفة، شيرا، مطبعة الأمانة، ١٤٠٩ هـ – ١٩٨٩م..

متى بدأت بواكير ظهور العالمانية في البلاد العربية؟

ترد الحقيقة التاريخية بواكير ظهور العالمانية في البلاد العربية إلى مرحلة غزو نابوليون مصر آخر القرن الثامن عشر حيث اخترقت المنظومتان القانونية والقضائية في مصر؛ لينشأ بعد ذلك تدريجيا جيلٌ مُفَرْنَسُ الرُّؤى والهوى بفعل الابتعاث. كما يقودنا النظر التاريخي إلى أنّ الدعوة إلى العالمانية في العالم العربي لم تسبق مثيلتها في الغَرْبِ وإنّما تأخَّرَتْ عنها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولا يجد المتابع للأصوات الأولى الداعية للعالمانية غير النصارى العرب في مصر والشام 2(2) يقول حسن حنفي، الكاتب العالماني: “قام العلمانيون في بلادنا منذ شبلي شميل، ويعقوب صروف، وفرح أنطون، ونقولا حداد، وسلامة موسى، وولي الدين يكن، ولويس عوض وغيرهم يدعون إلى العلمانية بهذا المعنى الغربي، فصل الدين من الدولة، والدين لله والوطن للجميع، والملاحظ أنهم كلهم كانوا من النصارى، وغالبيتهم من بلاد الشام، الذين كان ولاؤهم الحضاري للغرب، ولا ينتسبون إلى الإسلام دينا أو حضارة، وتربوا في المدارس الأجنبية وفي إرساليات التبشير».، وقد كان البروتستانت منهم . الأكثر جرأة في تحدي ثوابت الأمة الإسلامية.

كان صوت هؤلاء النصارى بالغ الحدةِ في الحرب على التدين، والتأكيد على أنَّ الدِّين يُمثل حجر عثرة أمام التقدم واللحوق بأوروبا التي تعتبر المعيار والقبلة. وكان النموذج الفرنسي الصُّورة المثلى لأنّ الثقافة الغربية لجلهم كانت فرنكفونية، كما أن الكثير منهم قد عاشوا في فرنسا ودرسوا هناك.

من الأصوات الأولى الداعية للعالمانية

من أعلام هذه المرحلة شبلي شميل، وفرح أنطون، وجورجي زيدان، ويعقوب صروف، وسلامة موسى ونقولا حداد. وقد استغل عدد من هؤلاء صحيفتي المقطم والهلال للترويج لإعلاء الفكر الوطني أو الانتماء العروبي فوق رابطة الإسلام.

كان شبلي شميل أَجْرَأ الرُّوَّادِ على مفهوم الدين وحقيقيه؛ إذ إنّه بعد أن تخرج في الكلية البروتستانتية في سوريا، ودرس الطب في باريس، رجع لينقل دعوى تصادم الدين والعِلْمِ إلى العالم العربي، وليكون زعيم المنافحين عن الداروينية. وقد دافع عن الفصل بين الدين والحياة السياسية، وأكد أنه كلما ضعف الدين قويت الأمة، مُستحضرًا نموذج الثورة الفرنسية الثائرة على البابا.

اتجه فرح أنطون – على خلاف شميل – إلى الفلسفة، وعكف على دراسة فكر ابن رشد، ولكن بعيون غربية، وكان شديد التأثر بالمستشرق والفيلسوف أرنست رينان وقد قامَتْ نَظرَتُه على أنّه من الممكن تلافي التصادم بين العلم والدين إذا عَمِلَ كُلِّ منهما في مجاله الخاص دون العدوان على مجال الآخر. كان أنطون من الناحية السياسية، يعمل للقضاء على الدولة العثمانية التي فَرَّ من تعقبها له إلى مصر. وكان إنشاء نظام عالماني أفضل الحلول عنده للخروج من تحت سلطان الشريعة الإسلامية التي كان مناهضا لها .

أما سلامة موسى – رائد الاشتراكية في مصر وأحد أهم التغريبيين والداعين إلى إحياء الشخصية الفرعونية – فقد كان حريصًا على فك مصر عن الإسلام، وإسلامها إلى الغَرْبِ مُحتقِرًا الرابطة الإسلامية، حتى قال: “الرابطة الدينية وقاحة. فإننا أبناء القرن العشرين أكبر من أن نعتمد على الدين جامعة تربطنا”3(3) سلامة موسى، اليوم والغد – المؤلفات الكاملة لسلامة موسى، القاهرة، سلامة موسى للتوزيع والنشر.. وربط نهضة العَرَبِ بشرط أساسي، وهو التخلص من الحرف العربي لمصلحة الحرف اللاتيني قائلا: “قد قيدنا لغتنا بحروف تمنعها هي من التعبير العلمي؛ أي: تمنعنا نحن من الرقي. عندما نتخذ الحروف اللاتينية، ننتقل نحو ألف سنة إلى الأمام” 4(4) سلامة موسى البلاغة العصرية واللغة العربية، القاهرة، سلامة موسى للنشر والتوزيع.. بل وصرح بقوله إنه “كافر بالشَّرْقِ مُؤمِنٌ بالغَرْبِ”، ولذلك حرص على جعل قُرَّاءِه “يُولُّون وجوههم نحو الغرب، ويَتَنَصَّلُون من الشرق”، وكيف لا يقول ذلك وهو “يَحْمَدُ الأقدار” أن المصريين ليسوا عربا، ويعتبر الاهتمام بالثقافة العربية “مَضْيَعَةً لِلشَّباب وبَعْثَرَةً لِقُواهم”، ويَصِفُ الأوروبيين بأنهم “النظاف الأذكياء” ؟! 5(5) انظر: تصريحات سلامة موسى العنصرية المحتقرة للإسلام والمسلمين أحمد الطعان، العلمانيون والقرآن الكريم، تاريخية النص، الرياض دار ابن حزم، ١٤٢٨هـ، ص ١٤٠ – ١٤٩..

إن القيمة الكبرى لهؤلاء تتمثل في أنهم :

أوّل من جهر بالعالمانية بديلا عن الشريعة.

أول من عد تمسك المسلمين بدينهم سبيا في تخلفهم.

أوّل من دعى إلى أن تحل الرابطة العروبية أو الوطنية الإقليمية محل رابطة الإسلام.

أول من شَهْرَ بشيوخ العِلْمِ الشَّرعِي.

أوّل من قَرَّرَ أنّ الغَرْبَ مُنتَصِرٌ لا محالة، ولذلك فالأولى أن يلتحق به العَرَبُ طَوْعًا قبل أن تَذْهَمَهُم موجَتُه قَسْرًا .

أوّل من نَقَلَ فلسفة الغَرْبِ الحديثة إلى لغة العرب.

فار هذا الزخم الحاد في الدعوة إلى الانفكاك عن الإسلام باعتباره عقيدة ينبثق عنها نظام في بيئةٍ يُسيطر عليها المحتل الفرنسي والبريطاني، ولذلك وَجَدَ السبيل للانتشار والهيمنة على الجَوِّيْنِ الثقافي والتعليمي لإنتاج جيل أسير للخلل الفكري والفصام بين شعائره وشرائعه .

الهوامش

(1) الطبلاوي محمود سعد، موقف ابن تيمية من فلسفة ابن رشد في العقيدة وعلم الكلام والفلسفة، شيرا، مطبعة الأمانة، ١٤٠٩ هـ – ١٩٨٩م.

(2) يقول حسن حنفي، الكاتب العالماني: “قام العلمانيون في بلادنا منذ شبلي شميل، ويعقوب صروف، وفرح أنطون، ونقولا حداد، وسلامة موسى، وولي الدين يكن، ولويس عوض وغيرهم يدعون إلى العلمانية بهذا المعنى الغربي، فصل الدين من الدولة، والدين لله والوطن للجميع، والملاحظ أنهم كلهم كانوا من النصارى، وغالبيتهم من بلاد الشام، الذين كان ولاؤهم الحضاري للغرب، ولا ينتسبون إلى الإسلام دينا أو حضارة، وتربوا في المدارس الأجنبية وفي إرساليات التبشير».

حسن حنفي ومحمد عابد الجابري، حوار المشرق والمغرب، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ۱۹۹۰م، ص ٣٥ – ٣٦.

(3) سلامة موسى، اليوم والغد – المؤلفات الكاملة لسلامة موسى، القاهرة، سلامة موسى للتوزيع والنشر.

(4) سلامة موسى البلاغة العصرية واللغة العربية، القاهرة، سلامة موسى للنشر والتوزيع.

(5) انظر: تصريحات سلامة موسى العنصرية المحتقرة للإسلام والمسلمين أحمد الطعان، العلمانيون والقرآن الكريم، تاريخية النص، الرياض دار ابن حزم، ١٤٢٨هـ، ص ١٤٠ – ١٤٩.

 المصدر

كتاب: “العلمانية، طاعون العصر: كشف المصطلح وفضح الدلالة”، سامي عامري، ص146-151 بتصرف يسير.

اقرأ أيضا

أشكال العالمانية

لماذا العالمانية؟

الفرقان بين الإسلام والعلمانية

أهل السنة.. وحسم الموقف من العلمانية

دور أهل السنة في فضح العلمانية

العلمانية الانحلالية ومنظومة القيم الإسلامية

التعليقات غير متاحة