بين دخول الناس في العقيدة الإسلامية، وهو أمر حسن، وبين أن يكون الإسلام عزيزا منيعا ظاهرا؛ يجب معرفة الأولويات.
مقدمة
تختلط المفاهيم على الناس وعلى العاملين في الدعوة، فلا يفرقون بين أهمية ظهور ومنعة الدين بحقيقته التي أنزلها الله تعالى، وبين أن يبقى الاسلام مهيضا لا تظهر حقيقته ولا يمارِس دوره، في مقابل إبداء الفرح بدخول الناس فيه كعقيدة فقط. وغالبا ما تكون منعزلة عن الممارسة في الحياة.
بينما لو كان الاسلام ممكَنا وظهارا يمارس دوره في حياة الناس لكانت أفواج الداخلين فيه أكبر وأغزر.
يجب البحث عن إقامة الاسلام وظهوره كما أمر الله، وكما أقامه رسول الله وصحبه الأولون، فإذا به ظاهر للبشرية منيع الجناب. وهذا فقه عزيز في أزمنة تختلط فيها الأمور وتضطرب فيها المقاصد.
وهذا الموقف والتعليق عليه؛ لشيخ الاسلام ابن تيمية يوضح الأمر.
الواقعة التاريخية
أحد الكتّاب المسيحيين في دمشق، كان يعمل لدى أحد الأمراء واسمه “عساف”، ونتيجةً للدعم السياسي الذي يتمتع به هذا المسيحي فإنه أطلق عبارات جارحة في حق “الرسول، صلى الله عليه وسلم”؛ فدهش الشباب المسلم ذو الغيرة والحمية، وذهبوا للشيخ ابن تيمية يخبرونه بالمنكر.
فجمع ابن تيمية الناس وساروا إلى السلطان في كتيبة احتسابية مهيبة تخللتها صعوبات وأحداث مرّت بمواجهة الشباب للأمير الذي حمى النصراني وانفلت الوضع ورُجم الأمير بالحجارة.
ثم سَجن ابن تيمية نفسه وجلَده بسبب ذلك، ثم مع تصاعد الأزمة أعلن النصراني الإسلام ليحقن دمه.
فواصل ابن تيمية المواجهة وألّف كتاباً موسعاً جداً يثبت فيه أن حق النبي، صلى الله عليه وسلم، لا يذهب بالإسلام ويجب قتل النصراني الكاتب.
وازدادت الأحداث حدّة وانتهى الكاتب النصراني والأمير “عساف” الذي حماه نهاية مأساوية فظيعة.
النصوص التاريخية الموثقة للواقعة
وهذه نصوص المؤرخين الذين عايشوا تلك الفترة أو قاربوها، وهم الثلاثة الكبار حقاً ـ الذهبي، وابن كثير، وابن حجر ـ:
قال الذهبي في تاريخه:
“عسّاف ابن الأمير أحمد بن حجيّ. زعيم آل مري. أعرابي شريف، مُطاع. وهو الذي حمى النصراني الذي سَبّ، فدافع عنه بكل ممكن.
وكان هذا النصراني لعنه الله بالسويداء وقع منه تعرض للنبي صلى الله عليه وسلم، فطلع الشيخان “زين الدين الفارقي”، و”تقي الدين ابن تيمية” في جمع كبير من الصلحاء والعامة إلى النائب “عز الدين أيبك الحموي”، وكَلَّماه في أمر الملعون، فأجاب إلى إحضاره وخرجوا، فرأى الناس “عساف”، فكلّموه في أمره، وكان معه بدوي، فقال: إنه خير منكم؛ فرجمته الخلق بالحجارة، وهرب عساف.
فبلغ ذلك نائب السلطنة، فغضب لافتتان العوام؛ وإلا فهو مسلم يحب الله ورسوله، ولكن ثارت نفسُه السبعية التركية، وطلب الشيخين، فأخرق بهما، وضُربا بين يديه، وحُبسا بالعذراوية، وضرب جماعة من العامة، وحبس منهم ستة، وضرب أيضاً والي البلد جماعة، وعلّق جماعة.
ثم سعى نائب السلطنة ـ كما لُقّن ـ في إثبات العداوة بين النصراني وبين الذين شهدوا عليه من السويدا ليخلصه بذلك.
وبلغ النصراني الواقعة فأسلم، وعقد النائب مجلساً، فأحضر القاضي ابن الخويي وجماعة من الشافعية، واستفتاهم في حقن دمه بعد الإسلام، فقالوا: مذهبنا أن الإسلام يحقن دمه، وأحضر الشيخ زين الدين الفارقي، فوافقهم، فأطلق.
ثم أحضر الشيخ تقيّ الدين؛ فطيب خاطره، وأطلقه والجماعة بعد أن اعتقلوه عدة أيام، ثم أُحضر النصراني إلى دمشق فحبس، وقام الأعسر المشد في تخليصه، فأُطلق، وشق ذلك على المسلمين.
وأما “عساف” فقتله بقرب المدينة النبوية في ربيع الأول من هذه السنة ابنُ أخيه “جماز بن سليمان”، وفرح الناس”. (1تاريخ الإسلام، للذهبي، 52 /222)
وقال ابن كثير في تاريخه:
“واقعة عساف النصراني.
كان هذا الرجل من أهل السويداء قد شهد عليه جماعة أنه سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استجار عساف هذا بـ “ابن أحمد بن حجي أمير آل علي”.
فاجتمع الشيخ “تقي الدين بن تيمية”، والشيخ “زين الدين الفارقي” شيخ دار الحديث؛ فدخلا على الامير “عز الدين أيبك الحموي” نائب السلطنة؛ فكلماه في أمره فأجابهما إلى ذلك.
وأرسل ليحضره فخرجا من عنده ومعهما خلق كثير من الناس، فرأى الناس عسافا حين قدم ومعه رجل من العرب فسبّوه وشتموه، فقال ذلك الرجل البدوي: هو خير منكم ـ يعني النصراني ـ فرجمهما الناس بالحجارة، وأصابت عسافا ووقعت خبطة قوية.
فأرسل النائب فطلب الشيخين “ابن تيمية” و”الفارقي”؛ فضربهما بين يديه، ورسم عليهما ـ أي حبسهما ـ في العذراوية، وقدِم النصراني فأسلم وعُقد مجلس بسببه، وأُثبت بينه وبين الشهود عداوة، فحُقن دمه، ثم استدعى بالشيخين فأرضاهما وأطلقهما.
ولحق النصراني بعد ذلك ببلاد الحجاز، فاتفق قتله قريبا من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله ابن أخيه هنالك.
وصنّف الشيخ “تقي الدين بن تيمية” في هذه الواقعة كتابه “الصارم المسلول على ساب الرسول””. (2البداية والنهاية، لابن كثير، 13 /396)
وقال الذهبي في تاريخه أيضاً:
“وفيها كانت فتنة “عساف” بدمشق ورجْم العوام له، لكونه حمى نصرانيا سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم.
فقبض النائب الحموي على جماعة من العلماء، وضرب الشيخ “زين الدين الفارقي”، رحمه الله تعالى، واعتقله مع “ابن تيمية” وطائفة بالعذراوية مدة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”. (3تاريخ الاسلام، للذهبي، 52 /33)
وقال ابن حجر:
“وكان الحسام ـ أي حسام الدين الحنفي القاضي ـ ممن قام في الإنكار في قصة الكاتب النصراني.
كاتب عساف أمير العرب، وكان ينقل عنه أنه وقع في حق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقام في أمره تقي الدين ابن تيمية، وزين الدين الفارقي.
وعُقد بسبب ذلك مجالس. وتعصب “الشمس الأعشر شاد الدواوين” للنصراني، فما وسع النصراني لما خشي على نفسه إلا أنه أسلم فأُطلق، فقال القاضي حسام الدين في ذلك:
إلام فتور العــــــــزم يا آل أحـــــــــمد … بإبقاء كلبٍ سبًّ دين محمدِ
وكان إذا مــــا أذَّن القــــــــــــوم سبَّه … وكان بذكر القبح فيه بمرصــدِ
يا سلامة لا يُدرأ الحــــــد بعد مـــــــا … تكرر منه الشر من كل مــوردِ
على مثله أهل المذاهب أجمـــــعوا … فكن ممضياً في نحره بمهنّـــدِ
فأنتم ليوث الحرب في كــل مَعْرَكٍ … وأنتم سهام العزو في كل مشهدِ
وهي طويلة، وهذا عنوان نظمه”. (4رفع الإصر عن قضاة مصر، لابن حجر)
وأما الكتاب الذي ألفه ابن تيمية في هذه الأزمة وهو “الصارم المسلول على شاتم الرسول” فقد قال في مطلعه:
“اقتضاني لحادث حدث أدنى ما له ـ أي رسول الله ـ من الحق علينا، بل هو ما أوجب الله من تعزيزه ونصره بكل طريق، وإيثاره بالنفس والمال في كل موطن، وحفْظه وحمايته من كل مؤذ، وإن كان الله قد أغنى رسوله عن نصر الخلق، ولكن ليبلوا بعضكم ببعض، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب”. (5الصارم المسلول، لابن تيمية، 2)
خاتمة .. عبرة الموقف
والحقيقة أن ألماسة الكتاب كله قول الإمام ابن تيمية مقولته العابرة لكل مشاعر العزة والاستعلاء بهذا الدين:
“فإن الكلمة الواحدة من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم لا تُحتمل بإسلام ألوف من الكفار، ولأن يظهر دين الله ظهورا يمنع أحدا أن ينطق فيه بطعن أحبّ إلى الله ورسوله من أن يدخل فيه أقوام وهو منتهَك مستهان”. (6الصارم المسلول، لابن تيمية، 505)
هكذا يفهم أبوالعباس “أولويات الدعوة”؛ عزة الدين ومهابته أوْلى في نفوسنا من إسلام الأعداد الغفيرة وهو مستهان به مزدَرى محتقَر!
فليس لدينا استعداد أن نطاوع النفوذ الإعلامي التغريبي في “تقزيم العقيدة والشريعة” لكي يقبلوا بخطابنا الديني.
كلا؛ ليست هذه في وارد حساباتنا؛ لا مساومة بتاتاً على عزة الإسلام وشرفه ومهابته في النفوس، حرف واحد من الوحي لا يمكن بتاتاً أن يكون موضوعاً لصفقة إعلامية مهما كانت المكتسبات! كما قال أبو العباس تماماً:
“ولأن يظهر دين الله ظهورا يمنع أحدا أن ينطق فيه بطعن؛ أحب إلى الله ورسوله من أن يدخل فيه أقوام وهو منتهَك مستهان”.
إنها غاية “ظهور الدين” التي قال الله عنها في ثلاث مواضع من كتابه في سورة التوبة والفتح والصف: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله﴾.
اللهم أنزل سحائب الرحمات على قبر أبي العباس يارب العالمين؛ بنصرته لكتابك ونبيك والسابقين الأولين إلى الإسلام.. اللهم آمين.
……………………………..
الهوامش:
- تاريخ الإسلام، للذهبي، 52 /222.
- البداية والنهاية، لابن كثير، 13 /396.
- تاريخ الاسلام، للذهبي، 52 /33.
- رفع الإصر عن قضاة مصر، لابن حجر.
- الصارم المسلول، لابن تيمية، 2.
- الصارم المسلول، لابن تيمية، 505.
المصدر:
- الشيخ إبراهيم السكران