الهوية أمر محوري لكل إنسان ليقضي على ظواهر الاغتراب والانعزال عن المجتمع، وضرورية للمجتمع لتحديد وجهته وقيمه وترابطه. والهوية الإسلامية متربطة بالعقيدة والتوحيد.
مقدمة
عدما يصرف العلمانيون والنخبةُ المستغربة الأمةَ عن هويتها ودينها يرتكب جريمة كبيرة ومتعددة الأبعاد، قد لا يحصر مجالات ما تسبب فيه من تلف وهلكة. وهنا ننظر في مآلات الانصراف عن هوية الإسلام.
خسارة تخلي المسلمين عن هويتهم بتخليهم عن ولاء الله ورسوله
يخسر المسلمون كثيرا إن تخلوا عن هويتهم المرتبطة بعقيدتهم، أو تذبذبوا أو ترددوا في شأنها..
أولا: يخسرون بالتخلي عن مقتضى دينهم وعقيدتهم فيغضبون ربهم تعالى.
ثانيا: يخسر المسلمون بطاقة تقدمهم للعالم؛ فالإسلام يحدد من أنت، وبعد أن تحدد (مَن أنت) تقدمْ إلى العالم وعامِل أممه وشعوبه جميعهم بانفتاح على جميع الحضارات والأمم والشعوب ولكن وأنت حاضر وذاتك حاضرة وهويتك محددة ووظيفتك الحضارية ودورك العالمي معروف، وقناعتك بقيمك مستقرة وعمق انتمائك ثابت.
ثالثا: يخسرون قوة الاستقطاب العقدي وهي قوة اجتماعية كبيرة، خسارتها تعني خسارة قوة اجتماع المسلمين على رايتهم مما يجعلهم عرضة لتمرير المخططات المختلفة سواء تنصيرية أو تفتيتية أو تغريبية أو نشر قيم الإلحاد والإباحية أو فقدان القدرة على مواجهة الظلم في تكتلات قوية؛ ففقدان الهوية الأصيلة تعني عدم المناعة تجاه (الغير) سواء مناعة فكرية أو مناعة قوة تستطيع الصمود أمام القوى المادية لمعسكرات الأرض.
ورابعا: يخسرون الواقع نفسه لظنهم أن الجميع قد تخلى عن مقتضى الدين والعقائد في العمل العام، لأنه يقال لهم ـ على سبيل الخداع العلماني: إن التمسك بالهوية المرتبطة بالعقائد خيانة للأوطان، كما أنها من إرث الماضي، وأن العالم في العصر الحديث قد تخلى عن البُعد الديني ولم يبق أحد يحتفظ بالبعد العقدي إلا المسلمون، بل وأن تمسك المسلمين بالبعد العقدي هو سبب تخلفهم..” الخ كلمات الخداع ورطانة الكذب..
ثم يفاجَأ بحضور الدور العقدي وتحريكه للتحالفات والأحداث سواء محليا أو إقليميا أو دوليا (1يتضح هذا في تحالفات الثورات المضادة ضد حريات الشعوب والمشاريع الإسلامية) وسواء كان تأثيره منفردا أو مع غيره من الدوافع.
خامسا: يخسر كذلك غير المسلمين؛ ذلك أن الإسلام هو هوية الأمة ولا تتجمع على غيره، وغالبية المجتمع يجب أن تحدد هويته ونظامه مع احترام حقوق الجميع، وبالتالي فهو لا يتعصب ضد أحد ولكنه يقيم المنهج الإلهي ويوصل الحقوق لأهلها تعبدا لله تعالى. وظلمُه لغير المسلم يحاسَب عليه في الدنيا والآخرة.
وبتحقيق الهوية الإسلامية يُقضى على ظواهر الاغتراب، وتتحقق المشاركة، فتنجح مشاريع التنمية الحضارية الشاملة وتحدث النقلات الهائلة في تاريخ الأمم، ويعود نفعها على الجميع، وعندما لا يشعر المسلمون بتحركات معادية لدينهم أو بلادهم أو نزعات انفصالية يستقر المجتمع ويسود التسامح، وينعم غير المسلمين بسيادة المنهج الرباني وتحقيق قيمه العادلة والسامية وينعم الجميع بعائد التنمية والعدالة الاجتماعية.. وتنتهي صورة التفزيع الظالم والمتعمد والمستمر للتخويف الظالم من المسلمين ومن استقرار الهوية الإسلامية وسيادة المنهج الرباني.
سادسا: تخسر البشرية كلها عدمَ رؤية تحقيق منهج الله تعالى وإقامته هويةً وشريعةً، ويظل الإسلام مشوها دون أن يؤدي دوره المنوط به، ودون أن تظهر حقيقته للعالمين على وجه الممارسة السياسية والمجتمعية والاقتصادية والفكرية والفنية، الممارسة العامة، ليهتدي به من كتب الله تعالى له السعادة.
عوامل نجاح المشروع الحضاري
ينجح المشروع الحضاري الإسلامي بوجود واستقرار عناصر ثلاث:
- استقرار الهوية.
- استقرار القيم الإسلامية.
- تحقيق المشاركة السياسية من خلال حرية اختيار الأمة لمن يمثلها ومن يحكمها.
فلا استقرارا سياسيا أو اجتماعيا إلا باستقرار هوية المجتمع على الإسلام كمشروع حضاري، يمثل الهوية والشريعة والقيم الحاكمة.
وهذا الاستقرار السياسي والمجتمعي يحقق مشاركة الأمة لأن الفرد البسيط يشعر أن هذه أمته وهذه بلاده وأن هويته ممثَلة ومتحققة، وبالتالي يرى أنه مسؤول عن تقدمها، بل يشعر بالمسؤولية التضامنية والعامة تجاه أي سلبية يراها، فيأخذ دوره في المشروع الحضاري للتنمية والتقدم، وبالتالي يصبح هذا الاستقرار السياسي والاجتماعي وعاء للتنمية والتقدم الاقتصادي والشامل، وإلا فما دامت هذه الهوية غير متحققة ولا فعالة بل تُنحَى وتُحارَب ويحارب أهلها يحدث الاغتراب، وهو الانسحاب من الشأن العام والانزواء في القضايا الفردية، وتبدأ رحلة غُربة الفرد داخل وطنه وبلده، بسبب تنحية هويته وتسليط الظلم عليه والاستبداد، حيث لا تنحَى الأغلبية إلا بمزيد من التسلط والقهر والظلم.
تلازم غياب الهوية الإسلامية مع الاستبداد
الإسلام عميق في فطرة الناس، في فطرة أهله المعتنقين له، كما أن النفوس تستجيب له إذا لم يحل بينها وبينه بعوائق مادية، ولذا انتشر هذا الدين وملأ الدنيا وتوطَّن في الأماكن التي فتحها، وأصبح أهلها جندا له، علماء ومجاهدين، وبالتالي فقد استُخدم للوقوف أمامه عوائق مادية ومعسكرات تحارب بالسلاح وقوفا أمام الإسلام، بالحرب والتشويه.
وفي الداخل تستند النخب العلمانية إلى أوضاع الاستبداد، العسكر والأجهزة الأمنية القمعية والعقيدة الأمنية الموجهة ضد الإسلام واتجاهات إقامة شريعته وتفعيل هويته؛ إذ إن هذه التيارات لا أرضية لها إلا بحسب ما تقوم به الأجهزة القمعية والاستبداد بتغييب الصوت الإسلامي وتشويهه وقمعه واسئصال نبْتاته أينما وجدت.
في كل أوضاع العلمانية والقومية قمع واستبداد لتغييب الإسلام ـ الإسلام شريعة وهوية لا مجرد بعض الممارسات الفردية ـ وهذه طبيعة أوضاع القمع والاستبداد عموما في العالم الإسلامي وغيره، لكن في العالم الإسلامي هي أشد وبإشراف غربي وموجهة ضد الإسلام خصوصا.
ولهذا يصرحون أنه لاستقرار العلمانية للدولة لا بد من إراقة الدماء والمذابح مرة بعد مرة حتى تستقر العلمانية والليبرالية في المجتمع، يعني التصريح بمواجهة أغلبية هذه الأمة بالقسر لتغييب الإسلام وتنحيته عن قيادة الحياة، ثم يدّعون بعد ذلك أنهم يخافون من الحكم الإسلامي وإقصائه وشدته..!!
تلازم اضطراب الهوية الإسلامية مع سيطرة الأراذل وغياب الحكماء بل والشرفاء
إن غياب الهوية، وغلبة الاستبداد الملازِم لغيابها، وما يؤدي إليه كلاهما من حدوث اغتراب وانسحاب من العمل العام، يؤدي إلى بروز الأراذل والسفهاء والفاسدون ليقودوا الحياة في شتى مناحيها السياسية والفكرية والأدبية بل والعلمية، بل والدينية..! وذلك لغيبة الحكماء وتواريهم عن المشهد. وهذا يستلزم سيطرة الفساد. ومع أوضاع بلادنا الحرجة سيستمر انفجار الشعوب باستمرار..
ولا أمل في الانعتاق من التبعية أو التخلف، إلا بإقامة الهوية الإسلامية وتحقيق المشاركة واستقرار القيم، والتصالح مع أغلبية الأمة المسلمة وتمكينها من مزاولة حياتها وفق النظام القائم على عقيدتها والمنهج الذي تؤمن به.
فعند الاغتراب يتقدم الأراذل للحكم وينسحب الحكماء، وعندها تكون المصيبة للدين والدنيا.
تلازم غياب الهوية الإسلامية مع الاستبداد، لأنها لا تُغيَب إلا قهرا
عندما تكون هوية الأمة هي الإسلام، وتكون من العمق بحيث لا تجتمع على سواها اجتماعا حقيقيا يُقضي على الاغتراب ويحقق التنمية، وذلك لعمق العقيدة في قلوب الناس، وأن الإسلام ينزل في الأمة منزلة الروح من الجسد، مهما بدا من ظواهر طارئة سرعان ما تزول ولا تثبت..
عندما يكون الأمر كذلك فكلما سنحت للأمة فرصة أن تختار بحرية، طريقة حياتها وهويتها وشريعتها، فإنها تختار الإسلام.
ولهذه الحقيقة فإن الناس تُصرف عن الإسلام صرفا، وتستعمل الأنظمة العلمانية، التي هي مخلب قط للغرب الصليبي، بتنسيق مع الغرب وتوجيه، تستعمل مع الأمة «القهر والخداع»، القهر لمن يعي، والخداع لمن لا يعي، ومعهم أُجراؤهم في هذا..
ولهذا فلن تجد حريات حقيقية تُعطى للأمة، ولن تُعطى لها، لأنها ببساطة تختار الإسلام وتنحاز إليه في حريتها، ولهذا فهناك تلازم بين الاستبداد من جانب والعلمانية والقومية من جانب آخَر، أي الخلل في التشريع والولاء، ولا خروج منه بادّعاءات أو أغاني كاذبة أو شعارات خادعة، لأن هذا لن يغير الواقع المستبد والقمعي.
خاتمة
الليبراليون أول من يتآمر على الحريات..!! وكذا جميع صور العلمانية والقومية، من قوميين وشيوعيين وغيرهم، إذ أنهم لا جذور لهم في الأمة، ولن يكون، ولهذا لا بد من حضن استبدادي يرفعهم ويفرضهم على الأمة، يقهرونها به ويقهرون شرفاءها، فهم لا يعيشون إلا بقهر المسلمين وذبحهم واعتقالهم وتعذيبهم، بينما يقوم هؤلاء «الليبراليون!!» يسترون الاستبداد ويُشرعنون له ويبررون ممارساته القذرة، يتلوّنون ويكذبون، ويقولون الشيء وضده، ويقفون الموقف وعكسه. قيمهم انتقائية، وحِسهم غليظ وجلودُهم لا تشعر، قلوب ذئاب في جثمان إنس، قلوب أمرّ من الصبر، لا انتماء ولا ولاء ولا قيم ولا دين.
ويبقى هؤلاء الأراذل يتكلمون عن الحريات ويرفعون شعاراتها..! لا يعنون بها إلا حرية الإلحاد والإباحية والانحطاط الخلقي، لا غير، لا يعرفون غير هذا ولا يدافعون إلا عن هذا.. قبحهم الله.
ثم تجني الأمة الثمر المرّ لهذا كله، استبدادا وفسادا وعداء للإسلام ثم جهل وتبعية وتخلف، ثم يتبجحون ويقولون إن سبب التخلف هو بقايا الإسلام التي لا زالت موجودة..!!
…………………………
هوامش:
- يتضح هذا في تحالفات الثورات المضادة ضد حريات الشعوب والمشاريع الإسلامية.