إن من تدبر القرآن الكريم حق التدبر حصَّل من المنافع والمصالح الدنيوية والأخروية، ما لا يعلمه إلا الله، ومن أعظمها أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق بعضه بعضاً، ويوافق بعضه بعضاً.
دروس وعبر مستفادة من الآية الكريمة
قـال تعـالى: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ ۚ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ يَقُصُّ الْحَقَّ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ * قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 57-58].
ثبات ووثوق وطمأنينة
– الدرس الأول: كلما كان المسلم على بينة ويقين من ربه، ومن وعد ربه كان أشد طمأنينة وثباتًا ورسوخًا على الحق وقوة انتماء له ولحزبه، وأشد حماسًا ودعوة إليه ودفاعًا عنه مهما كانت العوائق والعقبات وعلى العكس من ذلك، حين لا يكون المسلم على وثوق وطمأنينة من طريقة يكون الضعف والاضطراب في المواقف، وتكون التنازلات والخضوع للإملاءات، وتكون الاهتزازات عند الابتلاءات.
استبانة السبيل
– الدرس الثاني: في مجيء هذه الآيات بعد قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾. تنبيه على أهمية ودور المعرفة بسبيل المجرمين وتعريتها في تمسك المسلم بالحق وثباته عليه، وقوة انتمائه له، وذلك لأن في بيان سبيل المجرمين مزيدَ يقين وبينة لطريق الحق ونصوعه ووضوحه، لأنه كما يقال: «والضد يظهر حسنه الضد».
الاستمساك بالدين والاستقامة
– الدرس الثالث: على الداعية إلى الله عز وجل والمجاهدين في سبيله سبحانه ألا يشغل نفسه أو يربط هدفه بشيء من هذه الدنيا، حتى ولو كان هو التمكين لدين الله عز وجل ، بل ينبغي أن يكون شغله الشاغل ثباته على الحق الذي يرضي الله عز وجل والدعوة إليه والتمسك به، والحذر من التنازل عنه عند الابتلاءات والإغراءات، أو عند تأخر نصر الله عز وجل وأخذه للظالمين والمكذبين؛ فإن هذا أمره إلى الله عز وجل وهو المتفرد بحكمته وعزته ورحمته وعلمه ولطفه في تحديد وقته، وهذا ما يفهم من توجيه الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات بألا يشغل فكره وهمه باستعجال نصرة أهل الحق وإهلاك المبطلين، فإن هذا ليس إليه، وإنما إلى الله عز وجل وحده.
قال سبحانه: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ ۚ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ يَقُصُّ الْحَقَّ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام: 57].
وشبيه بهذه الآية قوله تعالى في سورة الزخرف: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الزخرف: 41-43].
إن الله عز وجل في هذه الآيات يوصي نبيه صلى الله عليه وسلم ومَن تبعه من الدعاة والمجاهدين بألا يضعُفوا ويتنازلوا أمام كيد الأعداء وتسلطهم وعدم الانتقام منهم؛ فإن الله عز وجل له الحكمة في تقدير الوقت الذي ينتقم فيه من الكافرين وأمر النصر وتوقيته هو إلى الله عز وجل ، ولا ينبغي أن ينشغل به المجاهدون في سبيل الله عز وجل ، أو أن يستعجلوه قبل أوانه بإعطاء الأعداء تنازلات على حساب العقيدة وأصولها، وأما الانتقام من الكافرين فهو أمر حتم يقدره الله عز وجل في وقته المناسب فهو إلى الله سبحانه، وأما عباده المجاهدون فعليهم الثبات على هذا الدين، والاستمساك بوحي الله عز وجل، وأن يحذروا أن يضعف استمساكهم أمام ضغوط الكفار وتسلطهم: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الزخرف: 43].
نذكر بهذه الآيات والمجاهدون يمرون بكيد عظيم من الأعداء الصليبين والمنافقين والشيوعيين والباطنيين، يريدون إفشال أهداف الجهاد وجِّر المجاهدين إلى حلول سياسية تهدر بها مكاسب المجاهدين، ويقضي على غاية الجهاد الذي بذل فيه المسلمون النفوس والأموال؛ وذلك ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هي العليا، أتذهب هذه الغاية وتذهب هذه الدماء والمعاناة هدرًا بما يكيده الأعداء من تفريغ الجهاد من مضمونه بحلول سلمية وسياسية زعموا.
إن من أشد ما يخشى على الدعاة والمجاهدين حين تشتد المحن ويتأخر النصر ومحق الكافرين: أن تضعف استقامتهم على أمر الله وبقائهم على صراط الله المستقيم، وقد حذر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والدعاة والمجاهدين من بعده من هذا الضعف أمام الضغوط، وأعلمهم بأن أمر مَحْقَ الكافرين والتمكين للمؤمنين هو إلى الله عز وجل فهو الذي يقدره في وقته بحكمته وعلمه سبحانه؛ فلا ينبغي أن ينشغل به الدعاة والمجاهدون، وإنما الذي ينبغي أن يشغل بال المؤمنين وتفكيرهم هو الاستمساك بالدين والاستقامة عليه وانتظار نصر الله عز وجل بطمأنينة وثبات.
لا تتعجلوا النصر فكل شيء بمقدار
– الدرس الرابع: وفي قوله تعالى: ﴿قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾، بيان للطبيعة البشرية التي لصبرها حدود ولطاقتها حدود، ولو كانت هي نفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بحيث تصل إلى مستوى لا يطيق فيه الصبر على ضلال الضالين وإفسادهم وأذاهم فتتعجل محقهم وهلاكهم.
أما حلم الله عز وجل العظيم وسعة رحمته بعباده؛ فإنه يستأني بهم، ولا يعجل لهم العذاب لحكم كثيرة، منها استدراجهم وإعطاء الفرصة لمن أراد التوبة منهم إليه سبحانه، ويكفينا في سعة حلمه سبحانه وسعة رحمته أن قال للذين أحرقوا أولياءه الموحدين في الأخاديد: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروح: 10]. فهل بعد هذا الحلم والرحمة من حلم ورحمة؟، وقد عد بعض أهل العلم هذه الآية من سورة البروح أنها أرجى آية في كتاب الله عز وجل.
وفيه قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾، بيان أن الله عز وجل حينما يؤخر محق الكافرين والظالمين ونصر أوليائه المؤمنين؛ فإنه لا يخفى عليه ظلم الظالمين، سواء بظلمهم الأكبر وهو الشرك به سبحانه، أو ظلم عباده المؤمنين وإيذائهم بشتى صنوف الأذى، إنه سبحانه على علم بكل أعمال الظالمين، ولكنه سبحانه الحكيم العليم العزيز الرحيم الحليم العظيم، يعلم ولا نعلم، ويقدر ولا نقدر، وهو علام الغيوب، ولذا والله أعلم أعقب سبحانه هذه الآيات بقوله عز وجل: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59]..
ومن هذه الغيوب حكمته سبحانه في تأخير نصر المؤمنين ومحق الظالمين، التي يعلمها سبحانه ويقدرها في وقتها، والخلق لا يعلمونها، والحديث عن الغيب يقودنا إلى الدرس الخامس.
ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة
– الدرس الخامس: الإيمان بالغيب هو أساس الإيمان وأصل شجرته، ولا يصح إيمان العبد إلا بالإيمان بالغيب؛ فأصول الإيمان الستة كلها قائمة على الإيمان بالغيب، فالإيمان بالله عز وجل إيمان بالغيب، وكذلك الإيمان بالكتب والملائكة والرسل والإيمان باليوم الآخر والقدر خيره وشره، ومن صفات المؤمن الأساسية الإيمان بالغيب.
قال تعالى: ﴿الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [البقرة: 1-3].
يتحدث سيد قطب -رحمه الله تعالى- عن آية الأنعام عند قوله تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾. فيقول: «إن القرآن الكريم -وهو المصدر الأساسي للعقيدة الإسلامية، التي تنشئ التصور الإسلامي والعقلية الإسلامية- يقرر أن هناك عالَمًا للغيب وعالَمًا للشهادة، فليس كل ما يحيط بالإنسان غيبًا، وليس كل ما يتعامل معه من قوى الكون مجهولًا..
إن هنالك سننًا ثابتة لهذا الكون؛ يملك (الإنسان) أن يعرف منها القدر اللازم له، حسب طاقته وحسب حاجته، للقيام بالخلافة في هذه الأرض، وقد أودعه الله القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية؛ وعلى تسخير قوى الكون وَفْق هذه السنن للنهوض بالخلافة، وتعمير الأرض، وترقية الحياة، والانتفاع بأقواتها وأرزاقها وطاقاتها..
وإلى جانب هذه السنن الثابتة -في عمومها- مشيئة الله الطليقة؛ لا تقيدها هذه السنن وإن كانت من عملها، وهناك قدر الله الذي يُنفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها، فهي ليست آلية بحتة، فالقدر هو المسيطر على كل حركة فيها؛ وإن جرت وفق السنة التي أودعها الله إياها، وهذا القدَر الذي يُنفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها (غيب) لا يعلمه أحد علم يقين؛ وأقصى ما يصل إليه الناس هو الظنون و(الاحتمالات).. وهذا ما يعترف به العلم البشري أيضًا..
وإن ملايين الملايين من العمليات لتتم في كيان الإنسان في اللحظة الواحدة؛ وكلها (غيب) بالقياس إليه، وهي تجري في كيانه! ومثلها ملايين ملايين العمليات التي تتم في الكون من حوله، وهو لا يعلمها!..
وإن العقلية الإسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب الذي لا يعلم مفاتيحه إلا الله؛ وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل، والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض، والتعامل معها على قواعد ثابتة.. فلا يفوت المسلم (العلم) البشري في مجاله، ولا يفوته كذلك إدراك الحقيقة الواقعة؛ وهي أن هنالك غيبًا لا يُطلع الله عليه أحدًا، إلا من شاء، بالقدر الذي يشاء..
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها (الفرد)، فيتجاوز مرتبة (الحيوان) الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة (الإنسان) الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدود، الذي تدركه الحواس -أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس-.
ولقد كان الإيمان بالغيب هو مَفْرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة، ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان -كجماعة الماديين في كل زمان- يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقري إلى عالم البهيمة، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا (تقدمية)! وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها، فجعل صفتهم المميزة هي صفة: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾… والحمد لله على نعمائه؛ والنكسة للمنتكسين والمرتكسين»1(1) «في ظلال القرآن» (2/1119، 1120)..
الهوامش
(1) «في ظلال القرآن» (2/1119، 1120).
اقرأ أيضا
لماذا يتأخر النصر؟ ومن يستأهله؟
شخصيات مؤمنة .. عندما ينطلق الإيمان بأصحابه