كلُ حينِ ضعفٍ للإسلام وأهله يشرئب النفاق ويطل برأسه، تتفاوت مواقف المسلمين منه، ويقصّر البعض في مواجهته تحت “الورع الكاذب” والفهم الخاطئ.
مقدمة
أعرف أحد المنتسبين للثقافة إذا طرح أي فكرة في مقالاته لا بد أن يذيلها بمقولة “مع الالتزام طبعاً بضوابط الشريعة”، ولا يمل من تكرار هذه الجملة بشكل يطمئن القارئ؛ لكنه في المجالس الفكرية المحدودة يعلن صراحة بأنه كما يقول:
“يا رجل لا حل لنا إلا بالعلمانية، وتحويل الدين إلى خيار شخصي محترم فقط، كل المجتمعات المعاصرة لم تتقدم إلا بالعلمانية، الدين شئ رائع ونبيل ولكنه يجب أن يبقى ممارسة ذاتية”..!
أسلمة في المقالات، وعلمنة في المجالس، ونفاق في القلوب!
تأملت في هذا التناقض الجذري بين “الأسلمة” في المقالات العامة، و”العلمنة” في المجالس الخاصة؛ وقلت لصاحبي: أنا لا أشك أن هذه حالة “نفاق فكري”..!
فقال لي صاحبي وهو رجل في غاية الطيبة: كيف تدمغه بوصف النفاق وهو يقول “لا إله إلا الله” ويصلي ويصوم ويتصدق؟! لا أنكر أنني تهيبت وسكتّ.
مضى زمن على هذه القصة وصرت بعدها أهتم كثيراً بمراقبة طريقة استعراض القرآن للشخصية المنافقة، وما هي مشاعرها الداخلية وكيف تتحرك داخل المجتمع المسلم؟
كم كنت مندهشاً حين رأيت القرآن يتحدث عن المنافقين بأنهم يصلون ويتصدقون ويذكرون الله..!
فأشار القرآن إلى كون المنافقين يصلون، بل إلى أنهم يذكرون الله، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا﴾ [النساء: 142] يا الله المنافق يصلي، بل ويذكر الله قليلاً يُخرجه ذلك عن وصف النفاق..!
وأشارت الآية الأخرى إلى صلاة المنافق بقوله تعالى: ﴿وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى﴾ [التوبة: 54].
وأشار القرآن ـ أيضاً ـ إلى كون المنافقين يتصدقون كما قال تعالى: ﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [التوبة:53] بل إن النبي، صلى الله عليه وسلم، شرح كيف أن من ابتلاه الله بنفاق في قلبه يجد مشقة كبيرة في الصلاة؛ ولذلك يجعلها في أواخر الوقت دوماً، كما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرنى الشيطان؛ قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا». (1صحيح مسلم: 1443)
بالله عليك ألم يُرعبك هذا الحديث؟
والله إنه نص مخيف بكل ما في الكلمة من معنى، تأخير الصلاة لآخر وقتها جعلها النبي “صلاة منافق” برغم أنه أخّر العصر لوقت الضرورة وهو وقت تضيف الشمس للغروب؛ فكيف بمن يُطْبق على إخراج الصلوات عن أوقاتها؟ أليس ذلك أمارة قوية على أن ثمة نفاقاً خفياً في القلب..؟!
بل انظر في أمر أعمق دلالة مما سبق، وهو أن الطائفة التي تهكمت بأصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وكفّرها الله من فوق سبع سماوات؛ كانوا يقولون كما قال تعالى عنهم: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة:65-66]؛ هؤلاء لم يخطر في بالهم أن الموضوع قد يصل إلى الكفر، لأن القضية عندهم كانت مزاحاً وطرافةً، ولكن مقاييس القرآن تختلف كثيراً عن أوهامنا.
لا يعلم من نفسه..!
كنت أتصور سابقاً أن “المنافق” يعلم من نفسه أنه منافق..! ويالسذاجة تصوري السابق..! اكتشفت أن المنافق قد لا يعلم بذلك، بل قد يظن نفسه حين أطلق بعض العبارات إنما أطلقها مزاحاً..!
وكنت سابقاً أتوهم أن “النفاق” هو قرار يتخذه المرء، فيقرر بأنه سيكون منافقا يُظهر الإسلام ويبطن الكيد له، كنت أظن النفاق مؤامرة كبرى تُتخذ بتخطيط شامل، ولم أتوقع بتاتاً أن النفاق قد يقع في القلب بأمور نعدها في موازيننا من هوامش الأمور!
بالله عليك .. هل تتوقع أن قوماً عاهدوا أنفسهم بأنه إن رزقهم الله مالاً أنهم سيتصدقون به، فلما رزقهم الله، شحّت نفوسهم، فسبّب لهم ذلك قيام النفاق في قلوبهم! هل تتصور ذلك؟!
انظر ماذا يقول تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [التوبة:75-77] انظر؛ إنهم قوم يؤمنون بالله لدرجة أنهم “عاهدوا ربهم”، ولم يفعلوا أكثر من البخل بالمال بعد المعاهدة، ومع ذلك هجم النفاق على قلوبهم بسبب ذلك! ولم يتأخر الأمر كثيراً؛ بل كما عبر القرآن ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ﴾..!
مَن يأمن..؟
وما الذي يؤمّننا نحن حين نقصر في أمر علِمنا “تعظيم الله له” أن لا يعقبنا ذلك نفاقاً في قلوبنا..؟ وما الذي يؤمّننا حين ننتهك أمراً علِمنا “حرمته عند الله” أن لا يعقبنا ذلك نفاقاً في قلوبنا..؟!
بل وكيف يأمن أقوام تتلى عليهم آيات الله في “انحطاط الكافر”، ومع ذلك يتفننون في إظهار عبارات احترام ملل الكفر ومساواتها لغيرها؟! كيف يأمنون أن لا يعقبهم ذلك نفاقاً في قلوبهم؟!
وأقوام يرون آيات الله تتلى كلها في التحفظ والاحتياط والتصون في العلاقة بين الجنسين، ومع ذلك يتهورون في إطلاق الانفتاح بين الجنسين؛ كيف لا يأمنون أن يعقبهم ذلك نفاقاً في قلوبهم؟!
وأقوام يرون آيات الله تتلى كلها في تعظيم كمال اهتداء السابقين الأولين، ومع ذلك يطلقون عبارات لا يلقون لها بالاً في أن “تجربة السلف لا تلزمنا”؛ كيف لا يأمنون أن يعقبهم ذلك نفاقاً في قلوبهم؟!
وأقوام يرون الله في القرآن يأمر صراحة برد الخلاف والنزاع إلى النص، وهؤلاء يتذرعون بـ “الخلاف” في تعطيل النصوص؛ كيف لا يأمنون أن لا يعقبهم ذلك نفاقاً في قلوبهم؟!
وأقوام يرون الله في القرآن يأمر صراحة بموالاة المصلحين ومنافاة المضلين، ثم يرددون صبحاً ومساءً بأن كل القضية مجرد خلاف داخل الوطن ويجب ترك الاصطفاف والتحزب والاستقطاب؛ كيف لا يأمنون أن يعقبهم ذلك نفاقاً في قلوبهم؟!
قلق أصحاب رسول الله
حين رأيت الله تعالى يقول عن رجل بخل بعد أن عاهد على النفقة، هذا كل ما صنع، شح بماله بعد أن عاهد ربه على الصدقة، ومع ذلك يقول الله عنه: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ استطعت أن أفهم قلق أصحاب رسول الله من النفاق!
كنت أفهم حديث “ابن أبي مليكة” المعروف عن قلق الصحابة من النفاق على أن سببه هو “ورع الصحابة” فقط، وهو الحديث الذي يقول فيه ابن أبي مليكة:
«أدركت ثلاثين من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه». (2صحيح البخاري، 48)
كنت أقول إن هذا من باب الاحتياط المستحب فقط الذي يصنعه الصحابة، لكن هذه الآية العجيبة: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ والتي شاهد الصحابة واقعتها عياناً، وشاهَدوا نظيرها؛ هي التي جعلتهم يفهمون النفاق على أنه “أثر” لسلوكيات معينة، وليس “قراراً” يتخذه المرء!
أي أن الإنسان قد يقوم بأقوال أو أفعال فيها مصادَمة لكتاب الله تقوده للنفاق وهو لا يعلم..! وليس بالضرورة أن يكون النفاق “إرادة واعية”.
ورَع أم خوَر..!
عدتُ لصاحبي وقلت له إن القرآن صوّر المنافقين أنهم يصلون ويتصدقون ويذكرون الله ومع ذلك لم يستنقذهم ذلك من ورطة “النفاق”.
فسكت صاحبي برهة ثم قال لي: ولكن هل يمكن لنا أن نعرف المنافق؟ أليس المنافق شخصا متسترا؟ أليس النفاق حالة قلبية لا يمكن الاطلاع عليها؟
بصراحة شعرت أن عبارة صاحبي الطيب فيها “ورع”، لكن هل الأمر شرعاً كما ذكر..؟! لنحاول أن نحلل هذا الورع على ضوء القرآن، لنكتشف هل هو ورع فيكون محموداً، أم هو خور فيكون مذموماً..؟
إن الله تعالى بيّن صراحة أن بعض المنافقين مستترين لا يُعرفون.
وبعضهم يصرح لبعض الناس لكن لا يعلن ذلك.
وبعضهم يُظهر النفاق فقط من ملامح أفكاره وخطابه، كما يقول تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد:30]
فيا ترى .. كم من خطاب فكري معاصر يجد القارئ في لحن خطابه شُعَباً من النفاق التي لا تحصى..؟!
ولذلك كان الصحابة يعرفون بعض المنافقين بأعيانهم بسبب أفكارهم ولحن خطابهم؛ كما صوّر ذلك “كعب بن مالك” بعبارة بديعة في حديثه الطويل في صحيح البخاري حين قال: «فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء». (3البخاري: 4418)
لله در العرب ما أبلغ عباراتهم، والمراد أن بعض المنتسبين للإسلام في مجتمع الرسول كانوا “مغموصاً” عليهم النفاق، أي مطعونين ومتهمين بذلك!
فإذا كان أصحاب رسول الله يغمصون بعض الناس بالنفاق؛ فكيف يقال أن وصْف النفاق لا يمكن إطلاقه لأنه حالة قلبية مستترة..؟!
وفي صحيح مسلم في شأن صلاة الجماعة يقول الصحابي: «ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، أو مريض». (4مسلم 1519)
فقوله «منافق معلوم النفاق» فرع عن كون الصحابة يعينون آحاد وأعيان المنافقين، وهذا يدل على أن الصحابة لم يكونوا يقولون “إن النفاق حالة قلبية مستترة لا يمكن معرفتها”..!
مقولة تعطل جملة من أحكام الله
بل إن هذه المقولة “أن النفاق حالة قلبية مستترة لا يمكن معرفتها” تفضي إلى تعطيل جملة من أحكام القرآن في المنافقين. وسأحاول الإشارة لنماذج من هذه الأحكام القرآنية؛ فمن ذلك:
جهاد المنافقين
أن الله أمرنا في موضعين من القرآن، في سورتي التوبة والتحريم، أن “نجاهد المنافقين” كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 73، التحريم:9] والأمر بـ “جهاد المنافقين” فرع عن إمكانية معرفتهم بأعيانهم، ولو كان المنافق لا يمكن تعيينه لكان هذا الأمر القرآني عبثاً، حاشا القرآن ذلك.
وحدة الكلمة أمام النفاق
وكذلك نهانا الله عن الانقسام في الموقف من المنافقين، وأمرنا الله أن نكون كلمة واحدة في مواجهتهم، وغالباً ما يكون الانقسام بسبب أن بعض الأخيار يطمع في هداية المنافقين فيقصّر في مجاهدتهم؛ كما قال تعالى: ﴿فمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ [النساء: 88].
ولو كان المنافقون لا يمكن تعيينهم لكان نهْي القرآن عن الانقسام إزاءهم عبثاً لا معنى له، حاشا القرآن ذلك.
النهي عن الميل لنصائحهم
كما أن القرآن نهى عن الميل لنصائح المنافقين والرضوخ لضغوطهم فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [الأحزاب: 1] ونهانا الله عن إرخاء الآذان لهم فقال تعالى: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 47].
خاتمة .. وهْم الورع
والمراد أن هناك منظومة أحكام قرآنية تنسّق منهج التعامل مع المنافقين؛ فالقول بأن المنافقين لا يمكن تعيينهم يفضي إلى تعطيل هذه الأحكام القرآنية؛ فانظر إلى هذا الذي يتوهم أنه متورع كيف أفضى به “وهْم الورع” إلى تعطيل القرآن..!
الحقيقة أنه مرّ بي حديث في صحيح البخاري فيه أن حذيفة جاء إلى حلقة في المسجد فيها مجموعة من التابعين فقال لهم ـ كما في البخاري: «عن الأسود قال: كنا في حلقة عبد الله، فجاء حذيفة حتى قام علينا فسلم ثم قال: لقد أنزل النفاق على قوم خير منكم». (5البخاري: 4602) يعني حذيفةُ أنه إذا كان مجتمع النبي الذي كان الوحي فيه يتنزل، والمعجزات تظهر على يدي رسول الله، ومع ذلك وقع تورط بعض الناس في ذلك المجتمع بالنفاق، فكيف بمجتمعكم؟
إذا كان ذلك في عصر مَن بعد النبي؛ فكيف نقول عن عصرنا نحن؟
حقاً .. صدق حذيفة رضي الله عنه؛ لقد أنزل النفاق على قوم خير منا؛ فكيف نستبعد وجود المنافقين بيننا؟!
……………………………….
الهوامش:
- صحيح مسلم، 1443.
- صحيح البخاري، 48.
- البخاري: 4418.
- مسلم 1519.
- البخاري: 4602.
المصدر:
- راجع: الشيخ إبراهيم السكران.