برغم أن قضية تحكيم الشرع قضية مُحكمة في كتاب الله، وبدَهية في هذا الدين، وأمر مستقر عبر تاريخ المسلمين؛ ولكن اضطرب الأمر في الأجيال المتأخرة بسبب ضغط الواقع وعموم تنحية الشريعة حتى انقلبت الأحوال ولُبس على الناس أصل دينهم.
السؤال
كتب إلي أحد الاخوة يقول: قال الله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65)..
الآية المراد بها أن الله تعالى لم ينفِ أصل الإيمان ولا حقيقته بل نفى كمال الإيمان مع بقاء أصله وحقيقته وإلا لكان الزاني والسارق ومرتكب الكبائر كافرا خارجا عن الملة.
والجواب
حكم تبديل الشريعة
حكم الله تعالى فيمن لم يشرع للناس ما شرعه الله تعالى لهم أو حكم بغير ما أنزل الله تعالى أو تحاكم إلى غير شرع الله تعالى هو الكفر..
علاقة تحكيم الشريعة بـ (لا اله إلا الله)
إن إفراد الله تعالى بالحكم ركن من أركان لا إله إلا الله وعروة من عرى اﻹيمان. فقد جاءت الآيات القرآنية مؤكدة أن الحكم بما أنزل الله تعالى من صفات المؤمنين وأن التحاكم إلى غير شرع الله تعالى من صفات المنافقين والكافرين.
[للمزيد اقرأ: قاعدة الاسلام عبر الرسالات قبول شرعه في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت]
رد أمر الله
فالذي ﻻينقاد ولايخضع لشرع الله تعالى وإن كان مصدقا به فهو كافر؛ لأن الكفر لا يختص بالتكذيب والجحود فقط، بل هو أنواع منه:
كفر إباء واستكبار، وكفر استهزاء، وكفر إعراض، وكفر شك ونفاق.
قال الحافظ ابن عبد البر:
“قد أجمع العلماء أن من دفع شيئا أنزله الله وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر”.(1)
وقال النسفي في تفسير هذه اﻵية: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ (اﻷحزاب: 36)، قال:
“وإن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول فهو ضلال كفر، وإن كان عصيان فعل مع قبول اﻷمر فهو ضلال خطأ وفسق”.(2)
[للمزيد: سبب غياب الشريعة وعلاقة الإرجاء بالعلمانية]
الفرق بين المعصية ورد أمره
أقدم مثالا على ذلك: من أقر بحكم الله تعالى في الربا وتعامل به فهو عاص ارتكب كبيرة، لكنه إذا استحل الربا فهو كافر.
قال تعالى في سياق الحديث عن الربا: ﴿فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (االبقرة: 275) أي: استحل الربا ولم يقبل حكم الله تعالى فيه.
فإذا كان الحاكم يقر بالشريعة وينزل عند أحكامها ثم حكم في قضية بعينها بغير حكم الله تعالى إما عن جهل بها أو حكم فيها بهوى ومعصية فهذا ذنب. وهو الذي عناه ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: كفر دون كفر.
أما من يعتقد أفضلية القانون الوضعي على شرع الله تعالى أو مساواته له أو ينتقص أحكام الشريعة بقوله: إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب انقضت فسقطت أحكامها، أو أنها لا تفي بمتطلبات العصر، أو شرَع ما لم يأذن به الله تعالى فأحل حراما أو حرم حلالا فهذا كافر مرتد لا إيمان له وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ (المائدة:44).
أي: من لم يشرع للناس ما شرعه الله تعالى لهم ليقضي به فى مواضع النزاع فيحل حلاله ويحرم حرامه فأولئك هم الكافرون.
حقيقة الإيمان ومعنى الاسلام
وخلاصة القول: إن جوهر التوحيد وحقيقة اﻹيمان ومعنى اﻹسلام: الانقياد والخضوع والاستسلام والخضوع لله تقدست أسماؤه وطاعته في كل أمر وفي كل شأن من شؤون الحياة؛ في التشريع، في السياسة، في الاقتصاد، في اﻹعلام، في التعليم، في التربية، في اﻷخلاق، في الفن… في كل مجالات الحياة:
﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء:65).
[للمزيد: الإسلام شريعة تحكم حياة الأمة]
تغييب الشريعة سبب لاضطراب الحياة
إن ما أصاب المسلمين في هذا العصر من فتن عظيمة منها الظلم والفساد على كافة الصعد، والقتل والغلاء والبطالة وانعدام اﻷمن وعدم الاستقرار، هو بسبب عدم تحكيم الشريعة الإسلامية في حياتهم.
فلا سبيل للخلاص من الفتن كيفما كان نوعها إلا بتحكيم شريعة الله تعالى في كل مجالات الحياة؛ ﻷنها صمام الأمان واﻷمن والاستقرار والرفاهية للجميع حكاما ومحكومين، لقوله تعالى:﴿وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا﴾ (الجن:16)، ولقوله جل ذكره:
﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة:50).
على أن تطبيق حكم الله تعالى ليس هو فحسب سبيل للأمن والرفاه والبركة والطمأنينة في الحياة الدنيا، وإنما هو مناط النجاة في اﻵخرة وطريق مفتوح لجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
الهوامش:
- التمهيد 4/226.
- تفسير النسفي، سورة الأحزاب.
اقرأ أيضا: