في حال ضعف المسلمين الآن تبدو أهمية السياسة الشرعية لمواجهة نظم الاستبداد، في حال الدعوة، وفي حال الجهاد، لدرء العدو ورفع يده عن المسلمين وتحقيق مكاسب حقيقية للمسلمين.
مقدمة
حدثٌ عظيم من أحداث السيرة النبوية نتوقف عنده، وكلُّ السيرة النبوية تستحق الوقفة والتأمل، حادثةٌ يحتاج كل مسلم أن يقرأها، ويحتاج العلماء والقادة والدعاة وطلبة العلم والمفكرون أن يتوقفوا عندها مليّاً يستلهمون عِبرها، ويعون فقهها ودلالتها.
إننا نحتاج إلى فقه السيرة في كل حين، ولكن حاجتنا إليها في وقت الأزمات والشدائد أشد، ونحتاج إلى (فقه الحديبية) في كل حين، ولكن حاجتنا إليها أشدّ في زمان تفوُّقِ الخصوم، وضعف المسلمين، وضرورة الخروج من المأزق بسلام، وتحقيق أكبر قدر من المكاسب بأدنى الخسائر بسياسة ووعي، وتحويل الهزيمة إلى نصر، والدنيَّة في الظاهر إلى فتح مبين على صعيد الواقع.
الحديث عن صلح الحديبية وإن شئت فقل (فتح الحديبية) وإن شئت فقل (الفتح المبين) أو (فتح الفتوح) يفتح لنا نوافذ في (فقه التعامل مع الآخرين) ويرشدنا إلى المبادرات الواعية والتخطيط العميق والتحوُّط للسلامة، والأخذ بالأسباب المشروعة، وإلى اتهام أنفسنا ومراجعة مواقفنا على ضوء هدي المرسلين.
صلح الحديبية درسٌ في الأخلاق النبوية، وفصْلٌ حكمٌ في العلاقات الدولية، وفيصل في تحقيق وتطبيقات الولاء والبراء، ونموذج رفيع في تحقيق المصالح العليا، وإنْ صاحَبَها شيءٌ من التنازلات الدنيا.
والحديث عن (فقه الحديبية) لا يعني ترسيخ مفهوم (التنازل) عن مسلَّمات الدين، ولكنه درسٌ عملي في (فقه التنازلات أو الموازنات) متى وكيف تكون؟ ولا يعني قبول (الدنية في الدين) بل هو اختيارٌ واعٍ للسياسة الشرعية التي تحقق أعلى المكاسب للإسلام والمسلمين.
(فقه الحديبية) يحسم جدلاً بين نظرتين (جافية، وغالية) ويرسم منهجاً (وسطاً) لتحقيق (مفهوم الولاء والبراء) بين طرفي نقيض؛ لا يُقيم أحدهما وزناً لأحكام الشريعة ومدلولات العقيدة في هذا الأمر المهم من الدين، ويُغالي طرفٌ أخر فيعتبر كلّ تصرفٍ وكلّ تعاملٍ مع الكفار هادماً لأسس الولاء نابذاً لمفهوم البراء.
ما أحوجنا إلى التوسط والاعتدال (وهي سِمَة أمتنا، وشعار ديننا) وإذا اختلفنا كان هديُ رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، حَكَماً بيننا.
تعالوا لنقرأ قراءة واعية متأملة شيئاً من أحداث قصة الحديبية عبر عددٍ من الوقفات والدروس حتى نضبط مواقفنا، ونقتدي بقدوتنا رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم.
المبادرة الواعية
عجباً لك يا محمد! وأنت تباغِتُ قريشاً في عُقر دارها وتبادرها وتتجاوز تهديدها وتحزُّبَ أحزابها. أجل! لقد أطبق المشركون والأحزاب على المدينة في شوال من السنة الخامسة، وكانوا يرومون أن تكون وقعة الخندق نهايةً للإسلام والمسلمين، وقد بلغ الكربُ بالمسلمين إلى الحد الذي قال الله عنه: ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا﴾ [الأحزاب: 10 – 11]، وردَّ الله الأحزاب عن المدينة بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال؛ لكن أن تكون هذه الغزوة آخر غزوة للمشركين على المدينة؛ فتلك آية، وأن يصْدُق فيهم حديثه، صلى الله عليه وسلم: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا؛ نحن نسير إليهم». (1رواه البخاري، كتاب المغازي، رقم: 1083)؛ فتلك من علامات النبوة.
ولكن الأمر أعجب حين يستعدُّ النبي، صلى الله عليه وسلم، لمبادرة المشركين، ويخرج بالفعل في ذي القعدة من السنة السادسة متجهاً إلى مكة (عام الحديبية).
نعم! إن (المبادرة) نهجٌ في سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم، لمن تأمَّل، وهي تبدو واضحة المعالم فيما نحن بصدده من (صلح الحديبية).
والمبادرة إجمالاً ليست خروجاً من المأزق فحسب، بل إرباكاً لسياسة العدو وإحباطاً لمخططاته. وحين ملك المسلمون زمام المبادرة ـ فيما مضى ـ كانوا سادة الدنيا، وعدوّهم يتخوفهم ويحسب لهم ألف حساب، وحين فاز بالمبادرة الأعداء باتوا يفاجئون المسلمين هنا وهناك، ويصيبونهم بالنازلة تلو الأخرى؛ فهل نعي ونقدر قيمة المبادرة؟ وكيف كانت سياسته، صلى الله عليه وسلم، للمباغتة..؟
التخطيط لمباغتة العدو
استطاع رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، بقوة يقينه وتوكله على الله وحسن سياسته وعميق تخطيطه أن ينجح في مباغتة عدوه:
أولا) فهو حين أراد الخروج للحديبية استنفر العرب كافةً للخروج، وجيّشهم للذهاب معه إلى مكة؛ حتى إذا أبطأ عليه المخلَّفون من الأعراب الذين تشاغلوا بالأهل والأموال، وظنوا ظن السوء أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً، لم يتأخر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن مشروعه، بل خرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، كما قال ابن إسحاق. (2ابن هشام: 3/ 803)
ثانيا) وأعلن في خروجه أنه يريد تعظيم البيت والطواف به، ولذا أحرم بالعمرة من ذي الحليفة وقلّد هديه وأشعره، ومهما استكبرت قريشٌ في رفض حقِّ المسلمين في قصد البيت الحرام؛ فالعرب عامة تنكر الصدّ عن البيت لمن قصده؛ بل وفي بعض حلفاء قريش وأتباعها متألهون يستعظمون ردّ من أشعر الهدي وقلَّده، وفي قصة بعث قريشٍ “الحُلَيْس بن علقمة الكناني” سيد الأحابيش ما يشهد لذلك، وقد تأثر بمشهد الهدي المقلّدة حين رآها وقال لقريش: «ما أرى أن يُصَدوا عن البيت». (3البخاري، كتاب الشروط، رقم: 9252)، فردَّت عليه قريش بكبرياء وغطرسة: “اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك” فغضب “الحُلَيْس” وقال: “يا معشر قريش! والله ما على هذا حالفناكم! أيُصدُّ عن بيت الله من جاء معظِّماً له؟ والذي نفس الحليس بيده! لَتُخَلُّنَّ بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرنَّ بالأحابيش نفرةً رجلٍ واحد»، قالوا: مَهْ، كُفّ عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به”.
وهكذا نجح رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، في هذه المباغتة المخطط لها في خلق أجواء المنافرة والاختلاف بين (الخصوم) وتلك واحدةٌ من آليات التخطيط لإضعاف الخصوم.
ثالثا) وفي سبيل التخطيط للمباغتة لم يتحرك رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- دون علم بواقع عدوِّه، بل كان الرصد واستنفار العيون لتكون المباغتة مدروسة، والخِطة متكاملة، والمعلومات دقيقة ومتوفرة، وقد كان؛ فمِن (ذي الحليفة) بعث (بشر بن سفيان الخزاعي) عيناً له إلى قريش ليأتيه بخبرهم. (4البخاري، كتاب المغازي، رقم: 683)
وعندما وصل المسلمون (الروحاء) ـ على بعد 73 كيلو متراً عن المدينة ـ جاءه نبأ عدوٍ بـ (غَيْقَة) فبعث إليهم بعض أصحابه، وعندما وصلوا (عُسفان) ـ على بعد 80 كيلو متراً من مكة ـ جاءهم سفيان بخبر قريش. وهكذا يعتمد النبي، صلى الله عليه وسلم، على المعلومة والرصد الدقيق للتعرف على عدوّه، وهذا سبقٌ للمسلمين في الرصد والتحري وقيمة المعلومة في كل حال لا سيما في التعامل مع الأعداء.
وفي الجملة فقد استطاع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمبادرته وتخطيطه أن يُحطِّم كبرياء قريش، وأن يشعرهم بقوة المسلمين؛ إذ أضحت خيلهم على مقربة من مكة، وجُنّ جنون قريش وطار صوابها، ثم تنادوا وتواصوا ألا تسمع العرب أن محمداً دخل عليهم مكة عنوة، ورضوا راغمين أن يدخلها عليهم في عام قابل.
وكانت مبادرة الحديبية ـ بحق ـ مسماراً يُدَقُّ في نعش الملأ من قريش، وبداية النهاية للمستكبرين، وكانت للمسلمين مقدمة للنصر، مؤذنة بالفتوح، كيف لا وقد سَمّاها الله فتحاً مبيناً، ثم كانت بداية لفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجاً، بل بوابة ومنطلقاً لفتوح أخرى.
التحوّط للسلامة والأخذ بالأسباب المشروعة والحربُ ليست هدفاً بذاتها
ومحمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مؤيَّدٌ من ربّه ولكنه مُعلِّمٌ لأمته، ولذا يحتاط في أموره ويأخذ بالأسباب المشروعة، وهو داعيةٌ للإسلام ويجنح للسلام، لا يتعطش للدماء بل يعظّم ما حرم الله، ولذا نجده في صلح الحديبية يُصلي بأصحابه صلاة الخوف في عُسفان حين بلغه قرب خيل المشركين. (5شرح معاني الآثار، 1/ 813)
وليتفادى الاشتباك مع المشركين سلَك طريقاً وعرة عبر ثنية المرار (مهبط الحديبية) وعندما بركت ناقته القصواء في الحديبية وقال الناس: خَلأَت القصواء، قال: «ما خلأت، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألونني ـ يعني قريشاً ـ خُطة يعظِّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها». (6البخاري، كتاب الشروط، رقم: 9252)
ورغم عدوان قريش وكبريائها فقد ظل، صلى الله عليه وسلم، حريصاً على إسلامهم، مفضلاً حقن الدماء بينه وبينهم، متحسراً على أكل الحرب لهم، وقد عبّر، صلى الله عليه وسلم، عن ذلك كلّه بقوله: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب؛ ماذا عليهم لو خلُّوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون». (7رواه أحمد: المسند، رقم: 25181)
التعامل مع الكفار، ومتى يُستعان بالمشرك؟
يحسب من لا فقه عنده أن أي تعامل مع المشركين هو في حساب التنازلات المرفوضة، وأن أي تعاونٍ مع نفر منهم هو مناقضٌ للبراءة منهم، وأن أي استجابة لمطالبهم تعد نقيصة في الدين، وضعفاً في التعامل معهم، ولكن سيرة محمد، صلى الله عليه وسلم، تصحح هذا المفهوم.
وفي صلح الحديبية استعان رسول الله بالمشركين، وأعلن استجابته لمطالب الكافرين؛ فكيف وقع هذا وذاك..؟
لقد كان “بشر الخزاعي” عينَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على المشركين، وهو لم يُسْلم بعدُ، بل كانت “خزاعة” عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ مسلمهم وكافرهم ـ لا يخفون عليه شيئاً كان بمكة. (8ابن هشام 2/ 593، ابن حجر: الفتح 5/ 337)
قال ابن القيم معلقاً:
“وفي قصة الحديبية من الفقه أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة؛ لأن بشر الخزاعي كان كافراً إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو، وأخذه أخبارهم. (9زاد المعاد، 3/ 103)
وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على قول “بُديل بن ورقاء الخزاعي” ناصحاً للنبي، صلى الله عليه وسلم، حين خرج عام الحديبية: لقد غزوت ولا سلاح معك، فقال: لم نجئ لقتال، فتكلم أبو بكر، فقال بُديل: أنا لا أُتَّهم، ولا قومي”، قال ابن حجر:
“والحديث فيه جواز استنصاح بعض المعاهَدين أهل الذمة إذا دلت القرائن على نصحهم، وشهدت التجربة بإيثارهم أهل الإسلام على غيرهم، ولو كانوا من أهل دينهم، ويستفاد منه: جواز استنصاح بعض ملوك العدوّ استظهاراً على غيرهم، ولا يعدُّ ذلك من موالاة الكفار ولا موادة أعداء الله، بل من قبيل استخدامهم وتقليل شوكة جمعهم، وإنكاء بعضهم ببعض، ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق. (10السيرة النبوية من فتح الباري، محمد الأمين الحكنبي 2/ 200)
خاتمة
أما استجابته، صلى الله عليه وسلم، لأي طلب من المشركين تُعظَّم فيه حرمات الله كما سبق فقد علق عليه ابن القيم ـ كذلك ـ بقوله:
“ومن الفوائد في صلح الحديبية أن المشركين وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمراً يعظمون فيه حرمةً من حرمات الله تعالى؛ أجيبوا إليه وأُعطوه وأعينوا عليه، وإن مُنعوا غيره، فيُعانون على ما فيه تعظيم حرمات الله لا على كفرهم وبغيهم، ويُمنعون مما سوى ذلك؛ فكل من التمس المعاونة على محبوبٍ لله تعالى مُرْضٍ له أجيب إلى ذلك كائناً من كان ما لم يترتب على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس، ولذلك ضاق عنه من الصحابة من ضاق، وقال عمر ما قال، حتى عمل له أعمالاً بعده”. (11زاد المعاد: 3/ 303)
………………………
الهوامش:
- رواه البخاري، كتاب المغازي، رقم: 1083.
- ابن هشام: 3/ 803.
- البخاري، كتاب الشروط، رقم: 9252.
- البخاري، كتاب المغازي، رقم: 683.
- شرح معاني الآثار، 1/ 813.
- البخاري، كتاب الشروط، رقم: 9252.
- رواه أحمد: المسند، رقم: 25181.
- ابن هشام 2/593، ابن حجر: الفتح 5/ 337، السيرة النبوية من فتح الباري، محمد الأمين الحكنبي 2/ 200.
- زاد المعاد، 3/ 103.
- السيرة النبوية من فتح الباري، محمد الأمين الحكنبي 2/ 200.
- زاد المعاد: 3/ 303.
المصدر:
- د. سليمان بن حمد العودة، مجلة البيان، العدد: 206.