أصبح من الضروري استدعاء فقه الاستضعاف ودراسته للعمل بأحكامه وفق ضوابطه لرفع الحرج عن المستضعفين.
شمول شريعة الله وأحكامه
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فما أعظم نعم الله عزَّ وجل علينا وما أكثرها (وَإِن تَعُدُّوا نِعمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحصُوهَاۤ) (سورة إبراهيم:34)
وإن أعظم نعمة أنعم الله علينا بها نعمة الهداية لدين الإسلام الذي ارتضاه لعباده، حيث أرسل إليهم أفضل رسله، وأنزل عليهم أحسن كتبه, وأودع فيه كل ما يصلح أحوالهم وشؤونهم في الدنيا والآخرة، وحذّرهم فيه كل ما فيه فساد أحوالهم وأسباب شقائهم في الدنيا والآخرة، فاللهم لك الحمد ربنا أن هديتنا للإسلام والقرآن ولولاك ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا (ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِينًا) (المائدة:3).
وبما أن هذا القرآن نزل من عند الله عز وجل فقد جاءت شريعته وأحكامه تحمل صفات مُنزلها ومُشرعها الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء المُبرأ من النقص والجهل والهوى المُتسمة بسمات الشمول والثبات والرحمة والعدل صالحة لكل حال في أي زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(أَلَا یَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِیفُ ٱلۡخَبِیرُ) (الملك :14) .
ومن ذلك شُمولها لمصالح العباد في جميع ظروفهم وأحوالهم . تتّسم باليسر والرحمة والخير ورفع الحرج، يجد فيها المستضعفون منهجهم وما يُصلح أحوالهم حال استضعافهم وحيث يسعهم ما لا يسع غيرهم في حال القوة والتمكين، ويجد فيها المتمكنون منهجهم وما لهم وما عليهم.
وإن المُتأمل في أحوال الأمة الإسلامية اليوم ليرى ما أصابها من مهانة واستضعاف من قبل أعدائها الكفرة والمنافقين ويتساءل كثير من الدعاة -وهم يعيشون هذا الاستضعاف وهذا الكيد والتسلط من قبل الأعداء-ما هو واجبهم في هذه الأحوال وهل يلزمهم من أحكام الشريعة ما يلزم من تمكَّن من المسلمين وكانت لهم دولة وشوكة؟
وللجواب على هذا السؤال المهم والملح فلا بد من بيان هذا الفقه العظيم ألا وهو (فقه الاستضعاف) والذي يجهله مع أهميته كثير من الدعاة والمجاهدين فضلًا عن غيرهم وبسبب هذا الجهل تنشأ مواقف وممارسات تزيد الأمة ضعفا وتزيد أعداءها تسلطًا، ولكي يتبين لنا فقه الاستضعاف وأهميته وضرورة الإحاطة به وتنزيله على الواقع فلا بد من بيان الأمور التالية:
حكمة الله في ابتلاء عباده المؤمنين
اقتضت حكمة الله تعالى أن يبتلي عباده المؤمنين بتسلط أعدائهم عليهم مدة من الزمن وذلك للابتلاء والتمحيص ولتمييز الخبيث من الطيب وهذا مقتضى سنة المدافعة والصراع بين الحق والباطل قال سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَ لِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نَبِیٍّ عَدُوًّا شَیَـٰطِینَ ٱلإِنسِ وَٱلجِنِّ یُوحِی بَعضُهُم إِلَىٰ بَعضٍ زُخرُفَ ٱلقَولِ غُرُورًا وَلَو شَاۤءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرهُم وَمَا یَفتَرُونَ﴾ [الأنعام ١١٢].
ومن حكمة الله تعالى في تسليط أعدائه على أوليائه واستضعافهم لهم لجوء المستضعفين إلى ربهم ودعائهم له ويقظة الغافلين واستثارة هممهم وعزائمهم في مواجهة ومدافعة الباطل وأهله وبقاء جذوة الدين مشتعلة. إذن ففي باطن الاستضعاف وكثرة المحن حِكم ومِنح لمن فقهها.
ومع أن كثير من المسلمين يعيشون حالة الاستضعاف في بلدانهم إلا أننا نشهد والحمد لله في بعض الأماكن جهودًا طيبة وحثيثة لمواجهة هذا الاستضعاف وكسرِه ومدافعته وقد انتقلت بأهلها من حال الاستضعاف إلى حال المدافعة والتغيير بل وصلت الحال من هذه المدافعة إلى التمكين لأولياء الله كما نراه في الانتصارات العظيمة في أفغانستان.
مفهوم فقه الاستضعاف
المقصود بفقه الاستضعاف هو الفقه الذي يبحث في الحالة التي يكون فيها الفرد المسلم أو الجماعة المسلمة أو الدولة المسلمة ضعفاء بحيث لا يقدرون على إظهار الإسلام وشعائره كلها أو بعضها بسبب عدو أو سلطان جائر ومعرفة الأحكام في هذه الأحوال.
إذن فإن فقه الاستضعاف يطلق على البحث فيما تقتضيه حالة الاستضعاف من استدعاء لأحكام شرعية تفارق فيها حالة التمكين بحيث يجوز في أزمنة أو أمكنة أو أحوال حال الاستضعاف ما لا يجوز في حال التمكين.
ذكر بعض الآيات القرآنية التي ورد فيها الاستضعاف والمستضعفين
قال الله تعالى: (وَٱذۡكُرُوۤا۟ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيلٌ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن یَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَـَٔاوَىٰكُمۡ وَأَیَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ) (الأنفال:26).
وقال تعالى عن بني إسرائيل واستضعاف فرعون لهم: (إِنَّ فِرۡعَوۡنَ عَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلَ أَهۡلَهَا شِیَعًا یَسۡتَضۡعِفُ طَاۤىِٕفَةمِنۡهُمۡ یُذَبِّحُ أَبۡنَاۤءَهُمۡ وَیَسۡتَحۡیِۦ نِسَاۤءَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِینَ*ونُرِیدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِینَ ٱسۡتُضۡعِفُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَىِٕمَّة وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَ ارِثِینَ) (القصص:4-6).
وقال سبحانه: (إِنَّ ٱلَّذِینَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ ظَالِمِیۤ أَنفُسِهِمۡ قَالُوا۟ فِیمَ كُنتُمۡۖ قَالُوا۟ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِینَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوۤا۟ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَ اسِعَةً فَتُهَاجِرُوا۟ فِیهَاۚ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرًا *إِلَّا ٱلۡمُسۡتَضۡعَفِینَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَاۤءِ وَٱلۡوِلۡدَ انِ لَا یَسۡتَطِیعُونَ حِیلَةً وَلَا یَهۡتَدُونَ سَبِیلًا * فَأُولَـٰۤىِٕكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن یَعفُوَ عَنهُم وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء: 97-99)
وقال عز وجل: (وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِینَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَاۤءِ وَٱلۡوِلۡدَ انِ ٱلَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَاۤ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَـٰذِهِ ٱلۡقَرۡیَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِیرًا) (النساء:75).
ارتباط فقه الاستضعاف بقواعد شرعية عديدة
يرتبط فقه الاستضعاف ارتباطا وثيقا بفقه الموازنات والأولويات والمآلات ومن ذلك أحكام الضرورة وضوابطها وأحكام الإكراه وأحكام المشقة والتيسير وأحكام البلوى وعمومها وقاعدة تغيّر الفتوى بتغيّر الزمان والمكان والحال.
وكل هذه القواعد الشرعية وفهمها بشروطها وضوابطها هي التي تتحكم في فقه الاستضعاف وتطبيقاته ومردّ ذلك إلى الرّاسخين في العلم الفقهاء في الكتاب والسنَّة والفقهاء في الواقع وملابساته وليس إلى أهواء الناس وشهواتهم -وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أمثلة كثيرة لتغير الفتوى بتغير الأحوال في كتابه الماتع إعلام الموقعين- وفي تناول هذا العلم بلا فقه في الدين ولا فقه في الواقع مزلَّة أقدام وانحراف عن الصراط المستقيم المؤدي إلى تبديل الدين وأحكامه وتغيير ثوابته ومحكماته كمن يتعلق بقاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان إلى تغيير الأحكام وتبديلها وكمن يستدل بالضرورة وقواعد التيسير بدون ضوابطها وشروطها مما ينشأ عنه من تحلل وتغيير لأحكام الدين.
ومن ذلك دعوى من ينادي بتجديد الخطاب الديني ويقصد به تغيير المفاهيم الأصلية بما يناسب أهواء الناس وضعفهم وشهواتهم.
أنواع الاستضعاف
ينقسم الاستضعاف باعتبار درجته إلى:
- استضعاف جزئي في بعض جوانب الدين وأحكامه.
- استضعاف كلي في جوانب الدين كلها.
كما ينقسم باعتبار من يقع عليه الاستضعاف إلى:
- استضعاف أفراد.
- استضعاف جماعات.
- استضعاف دول.
كما ينقسم باعتبار الاعتذار به في ترك بعض الأحكام إلى:
- مقبول.
- غير مقبول.
لكن ما هو العذر المقبول وغير المقبول؟
أما المقبول: فهو ما كان تحت الإكراه الملجئ والتحقق من وقوع الضرر كإيقاع القتل أو السجن أو التعذيب مما يضطر المستضعف إلى إخفاء شعائر من الدين الأصل فيها الإظهار أو ينطق بكلام مُحرَّم كالنطق بالكفر وما دونه والقلب مُطمئن بالإيمان أو عدم قدرة على تطبيق بعض الأحكام الشرعية وبشرط ألا يكون هناك وسيلة لدفع هذا الاستضعاف كقدرة على الهجرة أو مواجهة المتسلط وقتاله أو مداراته ولو بدفع مال له. وبشرط أن تقدر الضرورة بقدرها.
وأما غير المقبول: فهو عكس المقبول وذلك بأن يكون هناك من الوسائل لدفع الاستضعاف والتنازل عن بعض الأحكام ولم يؤخذ بها كالقدرة على الهجرة أو مقاتلة المتسلط أو أي وسيلة أخرى لدفع الضرر ومن غير المقبول قطعا أن يؤدِّي الاستضعاف إلى التنازل عن أصول العقيدة وتغيير الدين والوقوع في الشرك بأنواعه والدعوة إليه ومن غير المقبول أن يتوسع في تناول الضرورة ويتجاوز في القدر الذي يدفع عنه الضرر والحرج (غَیۡرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ).
أسباب الاستضعاف
أسباب داخلية:
- بسبب ذنوب العباد وهذا علاجه التوبة إلى الله عز وجل وتغيير الأحوال إلى ما يحبه الله تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ) (الرعد:11).
- ومن أعظم الذنوب التي ينشأ عنها الاستضعاف وتسلُّط الأعداء تفرُّق المسلمين واختلافهم وخصومات بعضهم لبعض.
- التفريط في الأخذ بأسباب القوة وإعداد العدة.
- الوهن بحب الدنيا وكراهة الموت.
- خطر المنافقين وكيدهم.
أسباب خارجية:
- غزو الأعداء واحتلالهم لبلدان المسلمين.
- ما ينشأ عن ذلك من الغزو الفكري.
- الحصار الذي يضرب على بلدان المسلمين بمختلف أشكاله.
وسائل رفع الاستضعاف
- التوبة الصادقة من المعاصي التي تُعد من أسباب البلايا، ودعاء الله عز وجل بكشف الضر (فَلَوۡلَاۤإِذۡ جَاۤءَهُم بَأۡسُنَا تَضَرَّعُوا۟) وتصحيح الإيمان وقوة العقيدة.
- القضاء على أسباب الفُرقة والسعي على جمع الكلمة وتآلف القلوب.
- الإعداد للجهاد والأخذ بأسباب القوة والإعداد (الإيماني، والاقتصادي، والإعلامي، والعسكري).
- التحالفات والمعاهدات بضوابطها الشرعية.
- الهجرة من أماكن الاستضعاف والتسلُّط وإظهار الدين في مكان آخر فإن تعذَّر ذلك بعجز أو تغليب مصلحة البقاء فقد تحققت الضرورة مع السعي للمدافعة.
مظاهر الاستضعاف وهي كثيرة من أهمها
- وقوع قتل أو سجن أو تعذيب.
- عدم القدرة على إظهار شعائر الدين.
- عدم القدرة على إنكار المنكرات، من ترك للواجبات أو فغل للمحرمات.
- قلة العدد والعدة ومحاربة الناس في أرزاقهم والتضييق عليهم في دعوتهم وأمورهم الخيرية.
- عدم القدرة على الهجرة بمنع السفر.
ضوابط الأخذ برخص الاستضعاف
- تفاوت قدرات المستضعفين حسب ضعف إيمانهم وتحملهم.
- التحقق من وقوع الضرر المرخص لارتكاب المحذور.
- التفريق بين استضعاف العالم المتبوع واستضعاف غيره.
- الضرورة تقدر بقدرها (غَیۡرَبَاغٍ وَلَا عَادٍ) والرجوع إلى أهل العلم في تقديرها ومدى تحققها.
- أن تنعدم الوسائل الأخرى لمواجهة الاستضعاف.
- عدم الركون إلى حالة الاستضعاف وكأنها حالة دائمة بل ينظر إليها أنها مؤقتة ويسعى إلى رفعها ودفعها وإعداد العدة لذلك.
- إذا كان في الاستضعاف إكراه تُراعى شروط الإكراه وضوابطه.
- ألا توقع رخص الاستضعاف في مخالفة أصل من أصول الشريعة ومبادئها العامة أو التلبيس على الأمة بتحسين الباطل وتقبيح الحق أو العدوان على الأنفس والأموال والأعراض.
أمثلة من السيرة النبوية على فقه الاستضعاف وفقه التمكين
- تركه صلى الله عليه وسلم الأصنام في جوف الكعبة طيلة العهد المكِّي دون تحطيم لأنه وقت استضعاف، ثم تحطيمه لها في فتح مكة عند التمكين.
- كف اليد عن القتال في مكة والصبر على أذى المشركين وسخريتهم لأنها مدة استضعاف ولا قدرة للمسلمين على مواجهة الكفار ثم فرضه للجهاد في المدينة عند التمكين.
- كان المشركون يستهزؤون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويضعون سَلَا الجَزور على رأسه الشريف وهو ساجد، ومع ذلك لم يرد عليهم بل صبر وصبر أصحابه، مراعاة لحال الاستضعاف. بينما في حال التمكن في المدينة انتدب إلى كعب بن الأشرف اليهودي من يقتله حينما سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم وتشبَّب بنساء المسلمين.
- كان آل ياسر يُعذبون في مكة وتُرمى أم عمار برمح في عفتها وتموت والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يسمعون ويرون ثم لا يملكون إلا أن يقول : ( صبرًا آل يَاسِر فَإِنَّ مَوعِدُكُم الجَنَّة ) لأنهم في حال استضعاف. بينما نراهم في المدينة بعد التمكين لم يصبر ذاك الصحابي الذي رأى يهوديًا في سوق بني قينقاع يربط ثوب امرأة مسلمة وراءها حتى بدت عورتها حيث قام إليه وقتله وكان ذلك سبب إجلاء يهود بني قينقاع من المدينة.
- وأوضح مثالًا على ذلك مراحل فرض الجهاد فبينما أمر المسلمون في مكة بكف اليد وترك القتال جاء الإذن بعد ذلك في ردّ المعتدي ثم ختم بفرض الجهاد وفتح البلدان حتى كان الدين كلّه لله تعالى وذلك حين حصلت القوة والتمكين.
أمثلة معاصرة على فقه الاستضعاف
1.الدخول في جوار كافر مسالم أو الاستعانة به لرد كافر محارب يريد محو الدين واستئصال أهله وذلك بشروط أهمها:
- أن يؤمن جانب الكفار.
- ألا تكون الراية والقيادة للكفار.
- أن تقوم حاجة وضرورة بالمسلمين إلى ذلك.
2.السكوت عن نقد بعض الدعاة أو الطوائف الإسلامية على المنابر وذكر أخطائها في حال الاستضعاف وتسلط الكفار لأن هذا مما يتقوى به الكفار ويوظفونه في محاربة الدين ودعاته.
3.التحالف مع بعض أهل البدع أو من عنده بعض المخالفات من أهل القبلة في مقاتلة أهل الكفر والنفاق والزندقة الذين يريدون طمس الهوية الإسلامية وتبديل الدين وسحقه وسحق أهله كما تحالف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مع أشاعرة زمانه وبعض الصوفية في رد عدوان التتار الكفار الهمجيين.
4.إذا كانت الدولة مستضعفة فيمكن رد كيد الكفار الغزاة بعوض من المال كما كان ذلك من همه صلى الله عليه وسلم رد بعض الكفار في غزوة الخندق بشيء من ثمار المدينة لولا اعتراض السعدين.
5.إذا قامت دولة إسلامية فتية ويحيط بها الأعداء الكفار ويتربصون بها من كل جهة؛ والناس مغيبون فيها عن الدين لعقود من الزمن فلها أن تتدرج في تطبيق الأحكام الشرعية والحدود ومدارات الأعداء ريثما تتقوى ويتهيأ الناس لقبول الشرع وأحكامه، ومن ذلك تأجيل إقامة الحدود في الحروب.
6.التشبه بالكفار أو الفساق في الهدي الظاهر لدفع أذى أو تحقيق مصلحة للمسلمين كالعين على الكفار، ولو أدى ذلك إلى إخفاء بعض الشعائر التعبدية وعدم إظهارها.
7.المرونة مع الدعاة والطوائف من أهل السنة والتعاون معهم في نصرة الدين ومواجهة الكفر العالمي وأذنابه من المنافقين ولو كان لديهم بعض المخالفات والاجتهادات الخاطئة.
الخاتمة
تبين مما سبق أهمية العلم بفقه الاستضعاف وفقه الممكن وأنه علم شريف يدل على شمول الشريعة وأنها قائمة على الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة.
والجهل بهذا الفقه يؤول إلى كوارث وعنت ومشقة على هذه الأمة وهذا مما يتنافى مع مقاصد الشريعة.
وقد تبين من خلال الفقرات السابقة أن صلب هذا الفقه وقاعدته التي ينطلق منها هو فقه الموازنات بتحقيق المصالح ودرء المفاسد والموازنة بينهما عند التعارض. يقول العز بن عبدالسلام رحمه الله تعالى: (إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك، امتثالا لأمر الله تعالى لقوله تعالى: (فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ) [التغابن: 16] فإن تعذر الدرء والتحصيل وكانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة).
ويدخل تحت هذه القاعدة مسألة الإكراه والضرورة، ومسائل رفع الحرج والتيسير، وسد الذريعة، وتغير الفتوى بتغير الحال والزمان والمكان، وارتكاب أهون المفسدتين عند التعارض، وتحصيل أعظم المصلحتين عند التعارض، بشرط التحقق من وقوعها.
كما ينطلق هذا الفقه أعني (فقه الاستضعاف) من مسألة أخرى مهمة ألا وهي التمكن من فعل المأمور وترك المحذور القائم على التمكن من العلم بالحكم والتمكن من العمل به فاذا انتفى أحدهما: انتفى التكليف، وانتفت المؤاخذة، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ( والحجة على العباد تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به … لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل).والقاعدة الفقهية المشهورة تقول: (لا واجب في الشريعة مع العجز، ولا حرام مع الضرورة) وأدلة ذلك من الكتاب والسنة كثيرة:
مثال (لا واجب مع العجز): قوله تعالى (فَمَن لَّمۡ یَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّینَ مِسۡكِیناۚ)(المجادلة :4), وقوله صلى الله عليه وسلم: (صلِّ قائمًا فإنْ لم تستطعْ فقاعدًا…).
مثال (لا حرام مع الضرورة): قوله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَیۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِیرِ وَمَاۤ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَیۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَیۡرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَاۤ إِثۡمَ عَلَیۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِیمٌ) (البقرة:173).
نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا، وأن يستعملنا في طاعته ونصرة دينه وأوليائه، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الهوامش:
- (قواعد الأحكام:74).
- (مجموع الفتاوى:20/59).
- محمد جار الله الصعدي (ت ١١٨), النوافح العطرة ١٧9* صحيح * أخرجه البخاري (١١١7) شرح رواية أخرى.