السؤال
منذ فترة أفتت دار الإفتاء المصرية بأنّ فوائد البنوك ليست من قبيل الربا، لأنّها استثمار وتمويل وليست قرضًا، ومن قبل صدرت فتوى من دار الإفتاء ذاتها بتكييف شهادات الاستثمار على أنّها تمويلٌ، مؤكدة أنّ التمويل عقد جديد خلقه الاقتصاد على غير مثال! وبهذا أفتى علي جمعه وأسامة الأزهري ومن قبلهما شيخ الأزهر السابق سيد طنطاوي؛ فهل فوائد البنوك – سواء كانت فوائد قروض أو جوائز لشهادات الاستثمار – حلالٌ كما يقولون لكون العقود من قبيل التمويل والاستثمار لا من قبيل القرض؟
الجواب
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
أولًا: مصطلح “الاستثمار” ومصطلح “التمويل” من المصطلحات الواسعة الفضفاضة التي لا تنضبط، والتي تحتاج – لكي يتنزّل عليها حكمٌ شرعيّ – أن تُحدَّد صفتُها، فالتجارة استثمار، ودفعُ المال للاستثمار من خلالها تمويلٌ، وكذلك المزارعة والمغارسة والمساقاة والمضاربة وشركة العنان وشركة المساهمة وغيرها، فلكي نحكم على الاستثمار أو التمويل بأنه جائز أو محرم لابدّ من تحديد النشاط الذي يقع به الاستثمار ويقع له التمويل، فالاستثمار هو تثمير المال بأيّ طريقة سواء كانت حلالًا أو حرامًا، والتمويل هو دفع المال لمن يستثمره سواء كان بسبيل شرعيّ كالمضاربة أو بسبيل غير شرعيّ كالقرض الربويّ.
ثانيًا: البنك ليس عاملا ولا مضاربًا ولا شريكًا؛ إنّما البنوك عملها الاستثماري هو الاتجار في “الائتمان”، فهي تقترض بفائدة وتُقرض بفائدة أعلى، وتربح الفرق بين الفائدتين، ولا يمكن تكييف معاملاتها في الودائع أو شهادات الاستثمار على أنّها مضاربة؛ وآية ذلك أنّ يد العامل والمضارب والشريك والوديع يدُ أمانة بإجماع العلماء، أمّا يد البنك على الودائع بكافة أنواعها فهي يدُ ضمان بإجماع القانونيين، كما أنّ العائد على رب المال في المضاربة وعلى الشريك في الشركة “نسبة شائعة من الربح” باتفاق الفقهاء، أمّا العائد على الممول – سواء كان صاحب وديعة أو صاحب شهادة الاستثمار أو غير ذلك – فهو “نسبة من رأس المال”، وشتان بين الأمرين، يضاف لهذا وذاك أنّ المخاطرة – التي هي مناط استحقاق الربح – تكون في المضاربات والشركات بكافّة أنواعها من طرفي المعاملة؛ حسب قاعدة “الغرم بالغنم”، بينما في المعاملات البنكية لا يدخل البنك في المخاطرة إذا أقرض المستثمر.
ثالثًا: أمّا التكييف الصحيح للودائع وما شابهها من المعاملات البنكية التي تترتب عليها فوائد فهو أنّها قروض ربوية، قروض بفوائد محددة سلفًا؛ فالبنك – الذي يتلقى الودائع أو يصدر الشهادات – هو المقترض، والشخص الذي يودع أو يشتري الشهادة هو المقرض، والمبلغ المودَع أو المدوَّن في الشهادة هو رأس المال، والزيادة هي الفائدة الربوية، وقد عَرَّفَ العلماء الربا بأنّه: “زيادة مشروطة في دين مقابل الأجل” وأجمعوا على تحريمه في أيّ صورة أتى، وقد كان له في الجاهلية صورٌ أربعة، تكاد تغطي الصور المعاصرة في البنوك بعد تطوير في جانب الآليات.
رابعًا: على المسلمين في مصر وغيرها أن يهجروا فتاوى الصغار المأفونين؛ إلى فتاوى الكبار الأفذاذ، وإلى قرارات المجامع الكبرى، فقد أفتى الجهابذة الكبار من أمثال: الإمام محمد أبو زهرة، والشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ حسن مأمون، والشيخ عبد الحليم محمود والشيخ محمد متولي الشعراوي والشيخ جاد الحق، والشيخ عطية صقر، وغيرهم؛ بتحريم فوائد البنوك بكافة صورها، وبذلك أصدرت المجامع الفقهية العظمى قراراتها، وكان أولها قرار مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني بالقاهرة مايو 1965م .. والله أعلم.

