للشرك مفاسد ضخمة، فالفطرة تتلف وأمور الدنيا تعوجّ وأمور الآخرة تهلك. وأعظم النجاة والوقاة الوقاية منه ومن مآلاته. لذا وجب التنويه على خطورته وبيان أنواعه.
يجب الفرار الى الله تعالى وعدم التأخر عنه لحظة ولا طرفة عين. بل كل لحظة يتوانى فيها الإنسان عن الفرار الى ربه تحتاج الى توبة خاصة بها.
والشرك أعظم الفتن وأوجبها فرارا لخطورته.
عظم الفتنة وخطورتها
سمى الله عز وجل الشرك في كتابه العزيز بالفتنة، فقال تعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: 191] وقال عز وجل: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: 39]. والفتنة هنا في الآيتين بمعنى الشرك كما ذكر ذلك المفسرون.
والشرك هو أعظم الفتن في الدين والذي تهون في جنبه الفتن الأخرى، وبخاصة الشرك الأكبر الذي يُحبط جميع الأعمال، ويُخرج صاحبه من الملة، ويُخلّده في نار جهنم.
ولذلك وجب على المسلم أن يتقي هذه الفتنة بكل وسيلة، وأن يقدم ماله ونفسه دون دينه؛ فعن يونس بن جبير قال: شيعنا جندبا فقلت له: أوصنا قال: «أوصيكم بتقوى الله، وأوصيكم بالقرآن، فإنه نور بالليل المظلم وهدى بالنهار، فاعملوا به على ما كان من جهد وفاقة، فإن عرض بلاء، فقدم مالك دون دينك، فإن تجاوز البلاء، فقدم مالك ونفسك دون دينك، فإن المخروب من خرب دينه، والمسلوب من سُلب دينه، واعلم أنه لا فاقد بعد الجنة، ولا غنى بعد النار». (1سير أعلام النبوة 3/ 174)
ويحكي لنا التاريخ قصص الباحثين عن الحق الهاربين من الشرك وغضب الله عز وجل وندم بعضهم على بقائه على الشرك فترة من عمره ولم يسابق الى التوحيد والدخول في ذلك مبكرا.
ومن هؤلاء “سلمان الفارسي” رضي الله عنه وبحثه عن الحق حتى اهتدى بعد رحلة طويلة وشاقة الى الإسلام والتوحيد، ونبذ الشرك والمجوسية.
ومنهم “حكيم بن حزام” رضي الله عنه حيث تأخر إسلامه الى فتح مكة، وحسُن، ومع ذلك بقي نادما على تباطئه عن الإسلام وبقائه على الشرك. وقد بكى رضي الله عنه مرة فسأله ابنه: ما يبكيك يا أبة؟ قال: «خصال كلها أبكاني: أما أولها فبطء إسلامي، حيث سُبقت في مواطن كلها صالحة». (2تهذيب الكمال 7/ 183) وكان رضي الله عنه إذا اجتهد في اليمين قال: «لا والذي نجاني يوم بدر» (3المصدر السابق 7/ 185)
ومن هؤلاء “زيد بن عمر بن نفيل” حيث إن له قصة شبيهة بقصة سلمان الفارسي رضي الله عنه وقد ساقها البخاري في صحيحه. (4البخاري، كتاب مناقب الأنصار (3827 الفتح))
وقصص الباحثين عن التوحيد الهاربين من الشرك كثيرة، والمقصود بيان خطورة الشرك، وأنه رأس الفتن وأعظم المصائب، كيف لا وهو أصل الفساد في الأرض وهو الذنب الذي لا يغفره الله عز وجل، وصاحبه مخلد في النار.
أهم مظاهر فتنة الشرك
ومن أهم مظاهر فتنة الشرك ما يلي:
أولا: الشرك في العبادة والنسك
لا يزال هذا النوع من الشرك ضاربا بأطنابه في كثير من بلدان المسلمي؛، حيث عبادة القبور والأضرحة والتعلق بالموتى استعانة واستغاثة وخوفا ورجاءا ودعاؤهم من دون الله عز وجل. ويتولى كِبْر هذه الفتنة رؤوسُ المتصوفة وأئمتهم الضالون المضلون برعاية من قبل الحكومات العلمانية التي تنشر فيها هذه المظاهر الشركية.
وإن مما يحز في النفس ويبعث على الأسى أن هذه الفتن العظيمة وهذه المظاهر الخطيرة من الشرك والخرافة مع كثرتها وانتشارها، إلا أن جهود الدعوة والدعاة قليلة في مقابلها والتحذير منها وإنقاذ الناس من عقوبتها في الدنيا والآخرة.
ولكي تتحقق النجاة من فتنة الشرك فإنه يجب التركيز في دعوة الناس على التوحيد أولا، وإيضاح ما يضاده ويناقضه، وأن يكون لهذه الدعوة الأولوية عند الدعاة الى الله عز وجل في كل مكان وأن يجند لها كل وسيلة، وأن لا يطغى عليها أي جانب من جوانب الدعوة الأخرى، لأن فتنة الشرك فتنة عظيمة يهون عندها ما دونها من الفتن والمعاصي.
ثانيا: فتنة الشرك في الطاعة والاتباع
هذه الفتنة من فتن الشرك لا تقل عن سابقتها خطورة وشناعة، بل قد تكون أشد منها، وذلك لقلة من ينتبه من الناس لهذا النوع من الشرك، حيث لم تحصل الكفاية في التحذير منه وبيانه للناس. وأكثر الناس قد يحصر الشرك في شرك العبادة والنسك، فلا يراه إلا في السجود والركوع والذبح والنذر والاستعانة.. إلخ فحسب.
ولا يدور في الذهن أن العبد قد يقع في الشرك الأكبر بمجرد الطاعة والاتباع لشخص أو هيئة بدَّلت شرع الله عز وجل واستحلت ما حرم الله عز وجل وشرَعت ما لم يأذن به الله عز وجل بشرط أن يعلم المتبع والمطيع أن المتبوعين قد استحلوا في شرعهم ما هو معلوم من الدين بالضرورة تحريمه، أو حرَّموا ما هو معلوم من الدين بالضرورة حِلُّه، فوافقهم عل ذلك عالما بأن التشريع من خالص حقوق الربوبية، وكان مختارا غير مكره الإكراه الشرعي المعتبر، فإنه بهذا الصنيع يصير مشركا بالله في حكمه ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121] أي أطعتم المشركين في حل الميتة، واتبعتموهم على ذلك تاركين شرع الله عز وجل في تحريمها فإن هذا من فاعله شرك أكبر، كمن سجد أو ركع لصنم.
وقد وصف الله، عز وجل، أهل الكتاب المطيعين لأحبارهم ورهبانهم في تشريع ما لم يأذن به الله، وصَفهم بالشرك فقال: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31].
وإن هذه الصورة من صورالشرك لَتظهر بشكل جلي في عصرنا اليوم، حيث نبذ شرع الله في أكثر بلدان المسلمين، وجاء الطواغيت بحكم الغرب الكافر ليحكم به في دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم.
فالحكم بتشريع البشر المناقض لشرع الله هو شرك أكبر من فاعله العالم المختار، والمتبع الراضي بهذه التشريعات الطاغوتية هو الآخر قد وقع في فتنة الشرك إذا كان عالما مختارا.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
“وهؤلاءِ الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ـ حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم اللّه وتحريم ما أحل اللّه ـ يكونون على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين اللّه فيتبعوهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم اللّه، وتحريم ما أحل اللّه، اتباعًا لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله اللّه ورسوله شركًا وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين، واعتقد ما قاله ذلك، دون ما قاله اللّه ورسوله مشركًا مثل هؤلاء.
والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتًا، لكنهم أطاعوهم في معصية اللّه، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب”. (5كتاب الإيمان: ص67)
وما دام الأمر بهذه الخطورة فقد وجب الحذر الشديد من هذه الفتنة وتحذير الناس منها وذلك بتفهيمها للناس، وتكثيف الكلام والكتابة حولها، ووجوب رفضها والبراءة منها وأنها تناقض الرضا بالله عز وجل ربا، وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا.
أسباب انحراف مفهوم العبادة في التشريع
دور العلمانيين
وإن مما يكرس هذه الفتنة من فتن الشرك ذاك المفهوم المنحرف للعبادة والذي يتولى كِبْره العلمانيون في كل مكان، وذلك بمساعدة الغزو الفكري الذي سُلط على ديار المسلمين إبّان الاستعمار وبعده، فانحرفت كثير من المفاهيم الإسلامية الصحيحة، ومن بينها مفهوم العبادة الذي حصر في مجرد الشعائر التعبدية وما يلحق بها من ذكر ودعاء، ولا دخل للعبادة بعد ذلك في شؤون الحياة الأخرى فنشأ من ذلك الفصام النكد بين الدين والحياة والدين والدولة، وأصبح بالإمكان عند بعض الناس أن يتلقى عبادته الشخصية من الإسلام، ولا مانع لديه أن يتلقى بقية شؤون حياته من الغرب أو الشرق الكافرين.
دور المرجئة
ولقد أسهمت بدعة الإرجاء التي تفصل العمل عن الإيمان بسهم وافر في تكريس مثل هذه الانحرافات والفتن، فانتشر الفساد من جراء هذا المعتقد الهدّام وأصبح المبدلون لشرع الله والمشرعون لأحكام الكفر الحاكمون بها في الناس في نظر هؤلاء بمنأى عن أن يقعوا في أنواع الشرك مهما عملوا، لأنهم يقولون “لا إله إلا الله”، ولم يستحلوا هذا التبديل..!! ويرد هذا القول العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى فيقول:
“..وفي ظني أنه لا يمكن لأحد أن يطبق قانونا مخالفا للشرع يحكم به في عباد الله إلا وهو يستحله ويعتقد أنه خير من قانون الشرع، هذا هو الظاهر، وإلا فما الذي حمله على ذلك”. (6كتاب فتنة التكفير: ص28)
ثالثا: فتنة الشرك في الولاء
قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 14]. وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 26-28].
والآيات في ذكر توحيد الولاء لله وما يلزم عليه من البراء من الشرك وأهله كثيرة ومتنوعة. والمقصود هنا الإشارة الى فتنة الشرك في الولاء والتحذير من خطرها والسقوط فيها، ذلك لأنها لم تعط الاهتمام الكافي الذي يليق بهذا الركن الركين من التوحيد وما يضاده من الشرك المتمثل بتولّي أعداء الله المشركين، أو تولّي نُظمهم وأفكارهم الكفرية محبةً ونصرةً وتفضيلا.
إن فتنة الشرك في ولاء وتولي أعداء الله المشركين بمحبتهم لدينهم أو محبة مذاهبهم الكفرية، أو نصرتهم على المسلمين بيد أو مال أو مشورة؛ كل ذلك من الشرك الأكبر الذي يجب على كل مسلم أن يحْذر من السقوط فيه، كما يجب أن يحذّر غيره منه، وأن يعطى الحظ الأوفر من الكلام والكتابة حوله رحمةً بالناس من أن يقعوا في شره وفتنته، وبخاصة في زماننا هذا، حيث تسلط الكفار على ديار المسلمين إما عسكريا أو فكريا، وتداعت الأمم الكافرة على الأمة المسلمة من كل حدب وصوب حتى انخدع بهم كثير من المسلمين وانبهروا بما عندهم من الإمكانيات المادية. ووافق ذلك جهلا عند أكثر المسلمين، فسقط من سقط في هذه الفتنة العمياء، فتنة محبة الكافر ونُظمه، وسقط ذلك الحاجز المنيع الذي وقف شامخا في تاريخ المسلمين تتحطم عليه محاولات الكفار في غزوهم لقلوب المسلمين؛ فلم يكن للكفار طيلة ذلك التاريخ إلا البغض والجهاد والبراءة منهم.
أما اليوم وبعد أن ضعفت هذه العقيدة أصبحنا نسمع من ينادي بنبذ التعصب الديني، والسلام مع الكافر، وأن يحالف بدل أن يخالف، ويعاهد بدل أن يجاهد، وأن يعيش العالم الجديد في محبة وسلام…إلى آخر هذه الصيحات الخطيرة التي ما نبعت إلا من فتنة الشرك في الولاء وسقوط الركن الثاني من كلمة التوحيد ألا وهو الكفر بالطاغوت والبراءة من الشرك والمشركين، وما أعظمها من فتنة، وما أشنعها من مصيبة.
خاتمة .. حال اليوم
هذا حالنا في فتنة الولاء، كما عمّت فتنة التشريع، ومن قبلهما ـ منذ ستة قرون ـ توجد ظاهرة وفتنة شرك العبادة في الأضرحة والمشاهد.
وهذا يوجب النفير الدعوي للمسلمين بيانا وتحذيرا، فمفاسد هذه الفتن عظي الأثر؛ أظلم بها نهار الأمة، وطال ليلها، وكثرت مصائبها، واشتد ضعفها.
والخروج من هذه الفتن هو طريق العودة، ولا طريق سواه؛ فشرط التمكين قائم على التوحيد وترك الشرك ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور: 55)
الهوامش:
- سير أعلام النبوة 3/ 174.
- تهذيب الكمال 7/ 183.
- المصدر السابق 7/ 185.
- البخاري، كتاب مناقب الأنصار (3827 الفتح).
- كتاب الإيمان: ص67.
- كتاب فتنة التكفير: ص28.
اقرأ أيضا:
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (1) خطر الشرك