كم يعتذر أرباب الدعوة عن تقصيرهم في جانب الذكر والتعبد والضراعة؛ ولكن في الأنبياء أسوة أن مهامهم أشق وعبادتهم أعظم في الوقت نفسه.
مقدمة
طريق الدعوة طريق جاد ويحتاج لهمم وعزائم. وللبشر قوة تنفد وتحمل ينتهي ويضعف. ولذا جعل تعالى في ذكره قوة وفي عبادتهم لله زادا يهون به الطريق وتُجتاز به العقبات. وفي هذا درس عميق وتوجيه بليغ.
كثرة ذكرهم لله، وشدة تضرعهم، مع قوة عبادتهم
وهذا الجانب من هديهم عليهم الصلاة والسلام ثمرة من ثمار الإيمان الصادق والتوحيد الكامل النابعين من كمال حبهم لله عز وجل وتعظيمهم له.
والمتأمل في هذا الجانب من هديهم ليأخذه العجب والإجلال والحب الخالص لهذه الصفوة المختارة من عباد الله، وهو يرى إخباتهم لربهم سبحانه وكثرة ذكرهم له، وتضرّعهم ودعاءهم المتواصل لربهم، مع كثرة عبادتهم وطولها وتنوعها.. كل ذلك وهم أولياء الله وأنبياؤه وصفوته من خلقه، وإن في هذا الهدي لعبرة لمن هو دونهم ممن يحسب نفسه من الدعاة المتبعين لهم.
نعم.. إن في ذلك لعبرة لمن جاء بعدهم من المحبين لهم في أن يُولوا هذا الجانب حقه، وأن يقتدوا بهؤلاء المصطفين الأخيار في كثرة ذكرهم لله عز وجل ، وكثرة دعائهم وتضرعهم وعبادتهم له سبحانه مع ما هم فيه من هم الدعوة والجهاد والانشغال في أمر هذا الدين في الليل والنهار، ولكن كل ذلك لم يشغلهم عن الخلوة بربهم سبحانه والتفرغ لذكره ودعائه وعبادته.
وفي هذا رد على ما قد يتذرع به بعضنا إذا نُبه إلى هذا الجانب المهم في حياة الداعية من التذرع بضيق الوقت وكثرة المشاغل وتعب الجسد وإجهاده في طلب العلم والدعوة إلى الله عز وجل، فيدخل الشيطان إلى النفس من هذا الباب ـ باب التفريط ـ فيجد الداعية نفسه وقد أهملها في أعظم رافد له في دعوته وأكبر زاد له في طريقه إلى الله..
نماذج من الهَدْي المبارك
وأُورد الآن نماذج من هذا الهدي المبارك، لعلها أن تشحذ الهمم وتقوي العزائم، ولعلها في الوقت نفسه أن تطامن منا بعض النفوس التي أصابها داء العجب؛ فتشعر وهي تقرأ هذه النماذج بأنها لا زالت مقصرة ومفرطة في جنب الله، فيحصل مقت النفس في ذات الله عز وجل واحتقارها؛ الاحتقار الذي يؤدي مع الاستعانة بالله عز وجل إلى علاجها ويقظتها.
ومن هذه النماذج ما يلي:
تضرعهم إلى ربهم سبحانه وسؤاله قضاء حوائجهم
ذكر الله عز وجل في آخر سورة الأنبياء مجموعة من أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهم يسألون ربهم ويتضرعون إليه في قضاء حوائجهم، ويتوسلون إلى الله عز وجل بأسمائه وصفاته، كما يتوسلون بفاقتهم وافتقارهم إلى الله عز وجل.
ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 83-84].
يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، معلقاً على هذا الدعاء الخاشع من “أيوب”، عليه الصلاة والسلام:
“جمَع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه ووجود طعم المحبة في التملّق له، والإقرار له بصفة “الرحمة” وأنه أرحم الراحمين، والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته هو وفقره. ومتى وجد المبتلَى هذا كُشفت عنه بلواه”. (1بدائع التفسير، 3/ 189)
وفي قوله تعالى: ﴿وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ أي: إن في صبر أيوب، عليه الصلاة والسلام، ودعائه عبرة للعابدين من بعده؛ ليقتدوا بصبره وعبادته ودعائه ويقينه.
وفي هذه الآيات أيضا ذكر “إسماعيل” و”إدريس” و”ذا الكفل” وأنهم من الصابرين، وأن الله عز وجل جازاهم بأن أدخلهم في الصالحين.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله عن هؤلاء الأنبياء:
“فهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد وصفهم الله بالصبر فدَلَّ أنهم وفوها حقها، وقاموا بها كما ينبغي، ووصفَهم أيضا بالصلاح، وهو يشمل صلاح القلب، بمعرفة الله ومحبته، والإنابة إليه كل وقت، وصلاح اللسان، بأن يكون رطبا من ذكر الله، وصلاح الجوارح، باشتغالها بطاعة الله وكفّها عن المعاصي.
فبصبرهم وصلاحهم، أدخلهم الله برحمته، وجعلهم مع إخوانهم من المرسلين، وأثابهم الثواب العاجل والآجل.
ولو لم يكن من ثوابهم، إلا أن الله تعالى نوَّه بذكرهم في العالمين، وجعل لهم لسان صدق في الآخرين، لكفى بذلك شرفا وفضلا”. (2تفسير السعدي (3/ 295))
ويتحدث الإمام ابن القيم عند قوله تعالى عن يونس، عليه السلام: ﴿فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فيقول:
“أمّا دعوة ذي النون فإن فيها من كمال التوحيد والتنزيه للربّ عز وجل، واعتراف العبد بظلمه وذنبه؛ ما هو من أبلغ أدوية الكرب والهمّ والغمّ، وأبلغ الوسائل إلى اللَّه سبحانه وتعالى في قضاء الحوائج”. (3زاد المعاد، 4/ 208)
يقول الشيخ السعدي رحمه الله:
“﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ أي: يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة، ويكملونها على الوجه اللائق الذي ينبغي ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها، إلا انتهزوا الفرصة فيها، ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ أي: يسألوننا الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوَّذون بنا من الأمور المرهوب منها، من مضارِّ الدارين، وهم راغبون راهبون؛ لا غافلون لاهون، ولا مدِلّون، ﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ أي: خاضعين متذللين متضرعين، وهذا لكمال معرفتهم بربهم”. (4تفسير السعدي (3/ 297))
وهذه هي صِلة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بربهم: ذكر، وتسبيح، ودعاء.
خشوعهم وبكاؤهم عند ذكر الله عز وجل
فبعد أن ذكر الله عز وجل مجموعة من الأنبياء في سورة مريم أثنى عليهم بقوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً﴾ [مريم: 58].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية:
“فهذه خير بيوت العالم اصطفاهم الله، واختارهم واجتباهم، وكان لهم عند تلاوة آيات الرحمن عليهم، المتضمنة للإخبار بالغيوب، وصفات علام الغيوب، والإخبار باليوم الآخر، والوعد والوعيد.
﴿خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً﴾ أي: خضعوا لآيات الله، وخضعوا لها، وأثّرت في قلوبهم من الإيمان والرغبة والرهبة ما أوجب لهم البكاء والإنابة، والسجود لربهم”. (5تفسير السعدي، 3/ 209)
وقوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام أنه قال: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَاًوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 101].
يقول السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية:
“ينبغي للعبد أن يتضرع إلى الله دائماً في تثبيت إيمانه”.
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى عند هذه الآية أيضاً:
“جمَعت هذه الدعوة: الإقرار بالتوحيد، والاستسلام للرب، وإظهار الافتقار إليه، والبراءة من موالاة غير الله سبحانه، وكون الوفاة على الإسلام أجلَّ غايات العبد، وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد، والاعتراف بالمعاد، وطلب مرافقة السعداء”. (6بدائع التفسير، 2/ 476)
وأختِمُ هذه الأدعية النبوية بذلك الدعاء الذي كثيراً ما كان يلهج به الرسول ويردده؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، فقلت: يا رسول الله قد آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: «نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء». (7الترمذي، ح/2141، في القدر، وقال: حسن صحيح)
فإذا كان هذا هو حال أنبياء الله عز وجل وصفوته من خلقه فحريٌّ بمَن دونهم أن يخاف على نفسه من سوء الخاتمة، فمن ذا الذي يأمن الفتنة بعد أنبياء الله عز وجل..؟!
القوة في طاعة الله تعالى وعبادته
هذه الصفة العظيمة من أبرز ما في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ حيث إنهم أكثر الناس عبادة وصلاة وإخباتاً لله عز وجل؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ﴾ [ص: 45]:
“وعن عطاء الخراساني: ﴿أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ﴾، قال: أولو القوة في العبادة والعلم بأمر الله، وعن مجاهد وروي عن قتادة قال: أُعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين”. (8مجموع الفتاوى، 19/ 170)
والشواهد في ذكر عبادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كثيرة، منها قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾ [ابراهيم: 40].
وقوله تعالى في مدْح إسماعيل عليه الصلاة والسلام: ﴿وَكَانَ يَاًمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِياً﴾ [مريم: 55].
وقوله تعالى في مدح إسحاق ويعقوب: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإقَامَ الصَّلاةِ وَإيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 73].
أما عن نبينا محمد وكثرة عبادته وقوّته فيها فهي كثيرة جدّاً، مع أنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. ولا غرابة في ذلك؛ فهو الذي امتلأ قلبه معرفة بربه سبحانه وحبّاً وتعظيماً له، وهو الذي قال له ربه سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾ [المزمل: 1- 4]، وهو الذي قال له ربه عز وجل: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً﴾ [الإنسان: 26]، وقال له: ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياً﴾ [مريم: 65]، وأكتفي بشاهد من أحواله الكثيرة في عبادته وقوته فيها: فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قام النبي حتى تورّمت قدماه، فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟!». (9مسلم، ح/ 772، ك/ صلاة المسافرين)
وأخيراً
فهذه أحوال المصطفين الأخيار من أنبياء الله عز وجل، وما سبق ذكره إن هو إلا جانب يسير وغيض من فيض من صلتهم بالله عز وجل، ذكراً وتسبيحاً ودعاءً وصلاة، فهل من مشمّر للأخذ بهَدْيهم كما أمر الله عز وجل ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾..؟ وهل بقي مجال لأحد أن يعتذر بكثرة المشاغل الدعوية وطلب العلم في التفريط في هذا الزاد العظيم..؟
وتبقى مسألة مهمة تبرز للمتأمل في تلك الكلمات والجُمل العطرة الجامعة، والتي تتألف منها أذكارهم وأدعيتهم عليهم الصلاة والسلام، ألا وهي تجريد التوحيد لله عز وجل وإخلاص العبادة له وحده.
فهل بقي عذر لمن يتوجه إلى الأنبياء أو غيرهم في جلب نفع أو دفع ضر، وهذا هو شأنهم مع ربهم في دعائهم له..؟
………………………..
الهوامش:
- بدائع التفسير، 3/ 189.
- تفسير السعدي (3/ 295).
- زاد المعاد، 4 / 208.
- تفسير السعدي (3/ 297).
- تفسير السعدي، 3/ 209.
- بدائع التفسير، 2/476.
- الترمذي، ح/2141، في القدر، وقال: حسن صحيح.
- مجموع الفتاوى، 19/ 170.
- مسلم، ح/ 772، ك/ صلاة المسافرين.