فتح أصحاب رسول الله القلوب والبلاد، وتوطن الإسلام على أيديهم. محبتهم دينٌ وعبادةٌ، وبغضُهم نفاق وطعن في صدر الأمة الذي نقل الدين والقرآن والأحكام.
مقدمة في استفاضة فضلهم
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ـ ورضي الله عنهم ـ هم الذين نقلوا إلينا كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهم الذين فتحو الدنيا بالإسلام، وأوصل الله بهم الإسلام إلينا، حيث بذلوا أنفسهم وأموالهم، وضحوا في سبيل الله عز وجل حتى وصل إلينا هذا الدين نقيًّا صافيًا، فجزاهم الله عنا وعن المسلمين في كل مكان خير الجزاء.
ولقد استفاض فضلُهم، وعلوّ منزلتهم في كتاب الله عز وجل وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام سلف الأمة بما لا مزيد عليه.
وما داموا هم الواسطة التي جاءنا عن طريقها كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فإن القدح فيهم، أو الشك في عدالتهم يعد قدحًا في القرآن والسنة؛ لأن القدح في الناقل قدح في المنقول.
تجرؤ المنافقين والملاحدة المعاصرين على الصحابة
ولقد خرجت في الأزمنة الأخيرة نابتة تنتسب إلى أهل السنة تجرأت على أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم متأثرة بشكل مباشر، أو غير مباشر ببعض شُبَه الرافضة، أو مَن يسمون أنفسهم بالعقلانيين والعصرانيين، وأصبحنا نسمع من الرويبضات كلامًا عجيبًا ينال من مقام أفضل البشر بعد الأنبياء، الذين كانوا سببًا في هداية البشرية، وهداية هؤلاء العاقين لهم والمنكرين لمعروفهم وفضلهم.
وأنقل فيما يلي بعض ما ورد في كتاب الله في فضلهم وعلوّ منزلتهم، وشهادة رب العالمين لهم بالخيرية، والإيمان الحق، وما أعدّ لهم من الفوز العظيم في جنات النعيم، أنصح بها من زلت به القدم في شيء من هذه المُهْلِكات أن يتأملها ويُقبل عليها بقلبه يتدبرها تدبر الطالب للحق المتجرد من أسْر الهوى، والشهوة الخفية والتقليد الأعمى، والمؤمن بالمصير إلى الله عز وجل، وسؤاله سبحانه له: ﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾.
ثناء الله ورسوله على الصحابة
ثناء القرآن على أصحاب رسول الله
الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ [الحجرات: 7]، هذا كلام الله عز وجل فمن نصدِّق؟
أنصدق شهادة القرآن لهم بالرشد والإيمان، أم شهادة القوم عليهم بالكفر والفسوق والعصيان؟ فانتبهوا يا أولي الألباب، ويا من يُحسِن الظن بالرافضة الباطنيين.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: 74].
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾
الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 29].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى:
“ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه ـ في رواية عنه ـ تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة، رضي الله عنهم؛ قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابةُ رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء رحمهم الله». (1«تفسير ابن كثير» عند الآية (29) من سورة الفتح)
والآيات في ذكر فضلهم وسبقهم لمن بعدهم كثيرة أكتفي بما ذكرته سابقًا.
ثناء رسول الله على أصحابه
وأما الأحاديث الثابتة في مناقبهم وعدالتهم وفضلهم، فكثيرة جدًّا، ويكفي أن يرجع المسلم المنصف، الطالب للحق إلى «صحيحي البخاري ومسلم»، وكتب السنن والمسانيد، وغيرها من كتب الحديث، ليطلع على ما جاء في مناقب الصحابة رضي الله عنهم بأسمائهم وأعيانهم، كالعشرة المبشرين بالجنة، وأهل بدر وأهل العقبة، وأهل بيعة الرضوان، وغيرهم.
وأكتفي من ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا أصحابي؛ فوالله لو أنفق أحدكم مثل أحُد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه». (2البخاري (3397)، ومسلم (4610))
تقرير أئمة السلف لمكانة الصحابة
أما ما نقل عن أئمة السلف الصالح، التابعين لهم بإحسان من الكلام في عدالتهم وعظيم فقههم وفهمهم، وكونهم أسعد بالحق والفهم الصحيح ممن جاء بعدهم فهو كثير وكثير.
وقد أحسن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى إذ قال:
“ولما كان التلقي عنه صلى الله عليه وسلم على نوعين: نوع بواسطة، ونوع بغير واسطة، وكان التلقي بلا واسطة حظ أصحابه الذين حازوا قَصَبات السباق، واستولوا على الأمد، فلا طمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق، ولكن المُبَرَّز من اتبع صراطهم المستقيم، واقتفَى منهاجهم القويم، والمتخلِّف مَن عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال، فذلك المنقطع التائه في بيداء المَهالك والضلال فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها، وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؟!
تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذبًا صافيًا زُلالًا، وأيدوا قواعد الإسلام، فلم يدَعوا لأحد بعدهم مقالًا، فتحوا “القلوب” بعدلهم بالقرآن والإيمان، و”القرى” بالجهاد بالسيف والسنان، وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصًا صافيًا، وكان سندهم فيه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم عن جبريل، عن رب العالمين سندًا صحيحًا عاليًا، وقالوا: هذا عهْد نبينا إلينا، وقد عهدنا إليكم، وهذه وصية ربنا، وفرْضه علينا، وهي وصيته وفرضه عليكم.
فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم، واقتفوا على آثارهم صراطهم المستقيم، ثم سلك تابعو التابعين هذا المسلك الرشيد، وهُدوا إلى الطيب من القول، وهُدوا إلى صراط الحميد، وكانوا بالنسبة إلى من قبلهم كما قال أصدق القائلين: ﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ﴾ [الواقعة: 13-14]“. (3انظر هذه النقولات في فضلهم ووجوب اتباعهم في «إعلام الموقعين» (ج4/ 155-198))
وقال في موطن آخر:
“والمقصود: أن أحدًا ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم، وكيف يساويهم، وقد كان أحدهم يرى الرأي، فينزل القرآن بموافقته..؟
وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيرًا من رأينا لأنفسنا، وكيف لا! وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نورًا وإيمانًا وحكمة وعلمًا ومعرفة وفهمًا عن الله ورسوله ونصيحة للأمة، وقلوبُهم على قلب نبيهم، ولا واسطة بينهم وبينه، وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضًّا طريًّا، لم يشبه إشكال ولم يشبه خلاف، ولم تدنسه معارضة، فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس». (4المصدر السابق (1/ 119 – 121) باختصار)
خاتمة .. الواجب علينا نحو الصحابة
لم يبق أمام المسلم الباحث عن الحق المحب لنفسه الخير إلا أن يترضَّى عنهم، ويحفظ لهم حقوقهم، ويبذل لهم المحبة والولاء، وأن يعتقد فضلهم وعدالتهم، وأن يسأل ربه أن يهديه صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقيين والشهداء والصالحين، ونشهد أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هم أول مَن يدخل في صفات المنعَم عليهم بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
نسأل الله عز وجل أن يحشرنا في زمرتهم، وأن يجعلنا من المتبعين لهم بإحسان، لا نبغي عن طريقهم حِولًا، وأن يجعلنا ممن قال الله فيهم بعد أن أثنى على المهاجرين والأنصار في سورة الحشر: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10].
عن عروة بن الزبير رحمه الله تعالى قال: «قالت لي عائشة رضي الله عنها: يا بن اختي، أُمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسبّوهم». (5مسلم (3022) كتاب التفسير)
…………………………..
الهوامش:
- «تفسير ابن كثير» عند الآية (29) من سورة الفتح.
- البخاري (3397)، ومسلم (4610).
- انظر هذه النقولات في فضلهم ووجوب اتباعهم في «إعلام الموقعين» (ج4/ 155-198).
- المصدر السابق (1/ 119 – 121) (باختصار).
- مسلم (3022) كتاب التفسير.
اقرأ أيضا:
الإرث التاريخي وأثره في تشويه العلاقة بين آل البيت والأصحاب (2-2) سبل المعالجة وقواعد حاكمة