في الجزء الأول أوضح الكاتب أن سيف بن عمر لم ينفرد بذكر شخصية عبد الله بن سبأ بل ذكره مؤرخون وإخباريون غيره..
وفي الجزء الثاني أوضيح حقيقة ادعاء أن ابن سبأ ل يكن شخصية حقيقية وأن السبئية ترمز الى نحلة معينة لا تستلزم الذم والتعيير..
وفي هذا الجزء يوضح خطورة منطلقات وعقائد السبئية وانحرافهم العقدي، وموقف علي بن أبي طالب رضي الله منها ومن أصحابها، مع بيان أن روايات سيف بن عمر الإخبارية محل قبول ولم تخالف بقية الروايات الإخبارية..
للسبئية منطلقات خطيرة
أما قول الأستاذ الهلابي:
إن السبئية لا تعني جماعة معينة لها عقيدة محددة، بل هي مجرد كلمة تعني الذم و التعيير
فهذا ينافي الواقع التاريخي لهذه الطائفة التي تزعم أنها هديت لوحي ضل عنه الناس(1)، ويزعم رئيسها أن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي(2)، كما أن السبئية يقولون برجعة الأمام وأن الأموات يرجعون إلى الدنيا(3)، ويقولون بالوصية(4)، ويسبون الصحابة(5)، ويزعمون أن عليا دابة الأرض(6)، وأنه شريك النبي في النبوة(7).
بل منهم من يقول بأن محمدا (ص) رسـول علي(8)؛ يقول ابن حزم عنهم:
وهذه الفرقة ـ السبئية – باقية إلى اليوم فاشية عظيمة العدد، منهم كان إسحاق بن محمد النخعي الأحمد الكوفي، ويقولون: إن محمدا (ص) رسول علي”. وتقول السبئية كذلك بالحلول والتناسخ(9)، ويعللون اختفاء علي بالغيبة.(10)
ويجزم قتادة بن دعامة السدوسي بأن السبئية كغيرها من الفرق الضالة مثل النصرانية واليهودية، لها أفكارها ومعتقداتها الخاصة بها التي تعد بدعة تتناقض مع جوهر الدين المنزل من عند الله، يقول:
والله إن اليهودية لبدعة وإن النصرانية لبدعة، وإن الحرورية لبدعة، وإن السبئية لبدعة ما نزل بهن كتاب ولا سنة عن نبي.(11)
نـماذج مـن الـسبئـيـة
ومن السبئية المغيرة بن سعيد البجلي الذي قال عنه ابن قتيبة:”وأما المغيرة مكان مولى لبجيلة، وكان سبئيا”(12).
وقال فيه ابن عدي: “لم يكن بالكوفة ألعن من المغيرة بن سعيد فيما يروى عنه من الزور عن علي، هو دائم الكذب على أهل البيت، ولا أعرف له حديثا مسندا”(13).
و جابر بن يزيد الجعفي الذي ذكره ابن حبان في عداد السبئية حيث قال: “كان جابر سبئيا من أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان يقول: إن عليا يرجع إلى الدنيا”(14)، وروي عن سفيان بن عيينة أنـه ـ يعني جابر – كان يقول: “علي دابة الأرض”(15).
ومنهم أبو النصر محمد بن السائب الكلبي الكوفي الذي قال فيه ابن حبان: “وكان الكلبي سبئيا من أصحاب عبد الله بن سبأ”(16). ويقول عنه الحافظ ابن زريع البصري: “رأيت الكلبي يضرب صدره ويقول: أنا سبئي، أنا سبئي”(17).
وأبعد في الخطأ من الزعم السابق بأن السبئية ليست طائفة لها عقيدة محددة قول الدكتور الهلابي بأن السبئية مجرد كلمة تطلق للتعيير والذم(18).
وإذا كانت كذلك، فلابد أن يكون لها أصل في اللغة، وعند الرجوع إلى معاجم اللغة وجدنا أن “سبأ” تعني: “من حلف على يمين كاذبة غير مكترث بها، والخمر اشتراها ليشربها، والجلد سبأه أي أحرقه”(19).
ولم يقل أحد من علماء اللغة أن السبئية تعني الذم والتعيير، بل قال صاحب “لسان العرب”: وسبأ اسم رجل يجمع عامة قبائل اليمن، وهو اسم مدينة بلقيس باليمن، والسبأية أو السبئية من الغلاة، وينسبون إلى عبد الله بن سبأ(20).
وقال الزبيدي: وسبأ والد عبد الله المنسوب إليه الطائفة السبئية بالمد كذا في نسختنا، وصحح شيخنا السبئية بالقصر كالعربية وكلاهما صحيح، من الغلاة، جمع غال وهو المتعصب الخارج عن الحد في الغلو من المبتدعة، وهذه الطائفة من غلاة الشيعة(21).
موقف الإمام علي من السبئية
يقول الدكتور الهلابي:
وهذه الراويات ـ التي تروي بأن السبئية قالت لعلي: أنت خالـقـنا ورازقنا ـ لا يمكن أن يقبلها المنطق السليم، إذ لا نعرف أحدا من العرب عبد إنسانا واعتقد أنه هو الخالق الرزاق، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، بل لا نعرف أن أحدا من المسلمين ارتد عن دين الله ارتدادا صريحا بعد الردة التي حدثت بعد وفاة الرسول (ص) مباشرة …
لماذا يعاقبهم علي بالإحراق في النار وهي عقوبة غير مألوفة لا في عهد الرسول (ص) ولا في عهد الخلفاء الراشدين قبله؟ ألا يمكن أن يضربهم بالسياط ليستتيبهم، فإن لم يتوبوا قتلهم بالسيف.(21)
على أن خبر إحراق علي رضي الله عنه لطائفة من الزنادقة المرتدين تكشف عنه الروايات الصحيحة في كتب الصحاح والسنن والمعاجم.
فقد ذكر الإمام البخاري في كتاب استتابة المرتدين في جامعه الصحيح عن عكرمة قال: “أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي النبي صلى الله عيه وسلم: “لا تعذبوا بعذاب الله”، ولقتلتهم لقول الرسول صلى الله عيه وسلم: “من بدل دينه فاقتلو”(22).
[للمزيد: الفرق الباطنية .. المنهاج والتاريخ]
علاقة لفظ الزندقة بابن سبأ
ولفظ الزندقة ليس غريبا عن عبد الله بن سبأ وطائفته، يقول ابن تيمية: “إن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ(23). ويقول الذهبي: “عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة، ضال مضل”(24).
ويقول ابن حجر: “عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة… وله أتباع يقال لهم السبئية معتقدون الإلهية في علي بن أبي طالب، وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته”(25)، ويقول في موطن آخر بأن أحد معاني الزندقة الإدعاء بأن مع الله إلها آخر”(26)، وهذا المعنى قال به ابن سبأ وأتباعه، وجزم بذلك أصحاب المقالات والفرق والمحدثون والمؤرخون.
وروى خبر الإحراق أيضا أبو داود في سننه: في كتاب الحـدود، باب الحـكم فيمن ارتـد(27)، والنسائي في سننه في كتاب الحدود(28)، والحاكم في المستدرك في كتاب معرفة الصحابة(29)، والطبراني في المعجم الأوسط من طريق سويد بن غفلة أن عليا بلغه أن قوما ارتدوا عن الإسلام، فبعث إليهم فأطعمهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، فحفر حفيرة ثم أتى بهم فضرب أعناقهم ورماهم فيها، ثم ألقى عليهم الحطب فأحرقهم ثُم قال: صدق الله ورسوله(30).
وروي من طريق عبد الله بن شُريك العامري عن أبيه قال:
“قيل لعلي إن هاهنا قوما على باب المسجد يدعون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟ قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا، فقال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم، آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا.
فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال: أدخلهم، فقالوا كذلك، فلما كان اليوم الثالث قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك، فخد لهم أخدودا بين باب المسجد والقصر وقال: احفروا فأبعدوا في الأرض وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعون، فأبوا أن يرجعوا فقذفهم فيها حتى إذا احترقوا قال:
إني إذا رأيت الأمر منكرا أوقدت ناري ودعوت قنبرا
قال الحافظ ابن حجر : وهذا سند حسن “(31).
[اقرأ ايضا: إخوان الصفا جناح فكري للباطنية]
سيف بن عمر في الميزان
يتحامل الدكتور الهلابي على الإخباري سيف بن عمر التميمي تحاملا شديدا، ويقول بأن:
سمعته باعتباره محدثا سيئة للغاية؛ فقد حكم أصحاب الجرح والتعديل عليه بالضعف واتهموه بوضع الأحاديث على الثقات وبالزندقة، كما يتهمه بالتحيز والتعصب، وأنه عبث بروايات التاريخ الإسلامي، خصوصا ما له صلة بالفتنة وما تلاها.(32)
والحقيقة أن هذا الكلام مبالغ فيه، إذ يجب أن نفرق بين سيف بن عمر باعتباره محدثا من جهة وباعتباره إخباريا من جهة أخرى، فالطعن فيه من جهة الحديث، وهو أمر صحيح، لا ينسحب بالضرورة على الأخبار التي يرويها.
فقد أثنى الحفاظ على سيف بالخبرة والمعرفة في التاريخ، فقال: الحافظ الذهبي:”كان إخباريا عارفا”(33)، وقال الحافظ ابن حجر:” ضعيف في الحديث عمدة في التاريخ(34).
على أن الحافظ ابن حجر لم يرض باتهامه بالزندقة وقال: “أفحش ابن حبان القول فيه”(35).
ولسنا ندري كيف يصح اتهامه بذلك وروايته في الفتنة وحديثه عما جرى بين الصحابة رضوان الله عليهم أبعد ما يكون عن أسلوب الزندقة، وكيف يستقيم اتهامه بالزندقة وهو الذي فضح وهتك ستر الزندقة!
الحكم على سيف بن عمر
ويمكن القول إن رواية سيف بعيدة كل البعد أن تضعه موضع هذه التهمة، بل هي تستبعد ذلك؛ إذ إن موقفه فيها موقف رجال السلف في احترامه للصحابة وتنزيهه لهم عن فعل القبيح. فقد انتحى جانبا عن أبي مخنف والواقدي، فعرض تسلسلا تاريخيا ليس فيه تهمة للصحابة، بل يظهر منه حرصهم على الإصلاح وجمع الكلمة، وهو الحق الذي تطمئن إليه النفوس، إذ يسير في اتجاه الروايات الصحيحة عند المحدثين.
وإذا كان المحدثون يتساهلون في الرواية عن الضعفاء إن كانت روايتهم تؤيد أحاديث صحيحة موثقة، فلا بأس إذن من الأخذ بهذا الجانب في التاريخ وجعله معيارا ومقياسا إلى تحري الحقائق التاريخية ومعرفتها. ومن هذا المنطلق تتخذ الأخبار الصحيحة قاعدة يقاس عليها ما ورد عند الإخباريين مثل سيف والواقدي وأبي المخنف، فما اتفق معها مما أورده هؤلا تلقيناه بالقبول، وما خالفها تركناه ونبدناه.
ومما لا شك فيه أن روايات سيف في أغلبها مرشحة لهذه المعاني، إذ تتفق وتنسجم مع الروايات الصحيحة المروية عن الثقات فيما يتعلق بوجود ابن سبأ، علاوة على أنها صادرة ومأخوذة عمن شاهد تلك الحوادث أو كان قريبا منها.
أما وصف سيف بالتحيز فأمر غير صحيح، إذ أن تعصب سيف المزعوم ترده أحوال قبيلته “بني تميم” وموقفها من الفتنة، فمن المعروف أنهم ممن اعتزل الفتنة مع سيدهم الأحنف بن قيس يوم الجمل(36)، وبالتالي فإن روايته للفتنة تشكل من خلال مضمونها على العموم مصدرا حياديا ومطلعا في آن واحد.
……………………………….
هوامش:
- أبو عمر العدنى: كتاب الإمام، ص 249.
- الجوزجاني : أحوال الرجال، ص 38.
- أبو الحسن الأشعري : مقالة الإسلاميين، ج1، ص86.
- القمي : المقالات والفرق، ص 20.
- النوبختي : فرق الشيعة، ص 44.
- الذهبي : ميزان، الاعتدال، ج 1، ص384.
- الملطي : التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، ص 15.
- ابن حزم: الفصل في الملل والنحل، ج4، ص 186.
- البغدادي : الفرق بين الفرق، ص 241.
- الكرماني : الفرق الإسلامية، ص 34.
- الطبري : جامع البيان، ج 6، ص 189.
- ابن قتيبة : عيون الأخبار، ج 2، ص149.
- الذهبي : الميزان، ج 4، ص 162.
- ابن حبان : المجروحين، ج1، ص208.
- الذهبي : الميزان، ج1،ص 384.
- ابن حبان: المجروحين، ج2، ص253.
- ابن حجر: التهذيب، ج9، ص 179.
- الهلابي : عبد الله بن سبأ: دراسة للروايات التاريخية عن دوره في الفتنة، ص 46.
- العكبري : المشوف المعلم، ج1، ص384. وابن منظور : لسان العرب، ج2، ص 77، والزبيدي : تاج العروس، ج1، ص 75.
- ابن منظور : لسان العرب، ج2،ص 77.
- الزبيدي: تاج العروس، ج1، ص 75.
- الهلابي : عبد الله بن سيأ، ص 52.
- أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب استتابة المرتدين، ج 8، ص 50.
- ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج 28، ص 483.
- الذهبي : الميزان، ج2، ص 426.
- ابن حجر : لسان الميزان، ج3، ص 290، 389.
- ابن حجر: الفتح، ج12، ص 270.
- أبو داود : السنن، كتاب الحدود، ج4، ص 126
- النسائي : السنن، كتاب الحدود، ج 7، ص 104.
- الحاكم : المستدرك، كتاب معرفة الصحابة، ج3، ص 538.
- ابن حجر: الفتح، ج 12، ص 170.
- ابن حجر: الفتح، ج12، ص 270
- الهلابي : عبد الله بن سبأ، ص 39، 40، 67.
- الذهبي : الميزان، ج 2، ص 255.
- ابن حجر : التقريب، ج1، ص 344.
- المصدر السابق: ج1، ص 344.
لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:
اقرأ ايضا: