ثمة دراسات تاريخية تنكر ما استفاض في التاريخ الإسلامي من وجود شخصيات محورية في الأحداث، وقد تنعكس على إنكار عقائد ومذاهب مؤثرة في التاريخ وفي مجرى الأحداث، بل وقد انتقلت آفاتها الى مذاهب وطوائف كثيرة أضلتها عن سواء السبيل.. وهذه دراسة لمواجهة أحد هذه الادعاءات التي تفتقر الى الموضوعية، ولها تأثير سلبي ينبغي محاشاته..
ادعاء بالتوهم!
هذه الدراسة نقد للبحث الذي نشره الدكتور عبد العزيز الهلابي ـ أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة الملك سعود ـ في حوليات كلية الآداب الكويتية عن عبد الله بن سبأ، تدخل في مجال اهتمامات التاريخ الإسلامي.
وقد قام فيه المؤلف بتحليل روايات الإخباري سيف بن عمر التميمي عن دور عبد الله بن سبأ في أحداث الفتنة الواقعة في خلافة عثمان وعلي رضي الله عنهما، حيث انتهى بحثه إلى أن تلك الروايات مختلقة ولا أساس لها من الصحة!!
ثم أورد النصوص عن “السبئية” في بعض المصادر المتقدمة، فأوضح أنه من خلال استخدامها في تلك المصادر لا تعني جماعة لها عقيدة دينية أو مذهب سياسي محدد، وأنها أطلقت على أناس مختلفين، وكان يقصد بها في كل الأحوال الذم والتعبير.
وبعد أن ناقش أقوال الباحثين المعاصرين وآراءهم من عرب ومستشرقين خلص في بحثه إلى أن ابن سبأ شخصية وهمية، وأن الدور المنسوب إليه في إثارة الأحداث وتسييرها دور مزعوم.
إن هذا البحث الذي كتبه د. الهلابي يعتبر أحدث دراسة مستقلة ـ أفردت عن عبد الله بن سبأ ـ ولذلك أحببت إبداء بعض الملحوظات حول الآراء التي تبناها حيث نفي في بحثه وجود تلك الشخصية، وأن ابن سبأ في رأيه لا يعدو أن يكون مجرد خرافة سطرتها كتب التاريخ والفرق!!
أصل التشيع الغالي والفكر الباطني
وجدير بالإشارة أن عبد الله ابن سبأ هو أصل التشيع الغالي والفكر الباطني. فمن السبئية تفرعت فرق الضلال التي نبتت في المجتمع الإسلامي. ولذلك فإن ابن سبأ لم ينته شأنه بموته، وإنما استمرت آثاره عبر التاريخ الإسلامي بفعل من جاء بعده متأثرا بأفكاره ومتشبعا بمعتقداته.
فهذا أبو حاتم الرازي، وهو يتحدث عن السبئية يقول:
“ومن السبئية تشعبت أصناف الغلاة وتفرقوا في المقالات، ومنهم أصناف الكيسانية، ومن الغلاة البيانية والنهدية”(1).
ويقول ابن حزم وهو يتحدث عن السبئية:
“ومن هذه الأصول الملعونة حدثت الإسماعيلية والقرامطة…”(2).
ويقول ابن عساكر بعد أن تحدث عن نفي علي لابن سبأ إلى سباط المدائن:
“فتم القرامطة والرافضة(3).
فعددٌ من المقالات كاعتقاد الألوهية في البشر، والقول بالحلول والتناسخ، والقول بالعصمة والوصية والرجعة، كلها أفكار نجدها عند الفرق الباطنية، ولها جذور في فكر ابن سبأ وهذه العقيدة تؤكدها أغلب المصادر الموجودة بين أيدينا والتي أرّخت للفرق والملل والنحل.
[للمزيد: الفرق الباطنية .. المنهاج والتاريخ]
ملاحظات نقدية على الدراسة
ومن الملحوظات على هذه الدراسة ما يلي:
سيف بن عمر لم ينفرد بالرواية
يقول د. الهلابي في ص (13) من بحثه:
“ينفرد الإخباري سيف بن عمر التميمي من بين قدامى الإخباريين والمؤرخين بذكر تلك الشخصية في رواياته، ويجعل له دورا رئيسا في التحريض على الفتنة، وقتل الخليفة عثمان وإنشاب القتال في معركة الجمل في البصرة(4).
في الواقع، إن سيف بن عمر لم يكن المصدر الوحيد الذي استأثر بأخبار عبد الله بن سبأ، بل ورد ذكر أخبار ابن سبأ وطائفته منقولة عن علماء متقدمين ورواة غير سيف بن عمر مثل:
- سويد بن غفلة ـ أبو أمينة ـ الجعفي الكوفي المتوفى عام (85 هـ/ 699 م)، مخضرم ثقة، من أصحاب علي ـ رضي الله عنه(5) . جاء في طوق الحمامة” لحيي بن حمزة الزيدي و”اللفظ” للبرقاني أنه دخل على علي في إمارته فقال: “إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر، يرون أنك تضمر لهما مثل ذلك، منهم عبد الله بن سبأ، فقال علي: مالي ولهذا الخبيث الأسود، ثم قال: معاذ الله أن أضمر لهما إلا الحسن الجميل، ثم أرسل إلى ابن سبأ فسيره إلى المدائن، ونهض إلى المنبر حتى إذا اجتمع الناس أثنى عليهما خيرا، ثم قال: أو لا يبلغني عن أحد يفضلني عليهما إلا جلدته حد المفتري(6).
- زيد بن وهب الجهني أبو سليمان الكوفي المتوفى قبل عام (95هـ/759م)، روى عن علي بن أبي طالب، وهو من جلة التابعين، متفق على الاحتجاج به، أخرج ابن عساكر في “تاريخ دمشق” عنه قال: قال علي ابن أبي طالب: مالي ولهذا الخبيث الأسود، يعني عبد الله بن سبأ، وكان يقع في أبي بكر وعمر”(7).
- إبراهيم بن يزيد النخعي أبو عمران الكوفي الفقيه الثقة المتوفى عام (96 هـ / 714 م)(8)، روى ابن سعد في “طبقاته” أن رجلا كان يأتيه فيتعلم منه، فيسمع قوما يذكرون أمر علي وعثمان، فقال: أنا أتعلم من هذا الرجل وأرى الناس مختلفين في أمر علي وعثمان، فسأل إبراهيم النخعي عن ذلك فقال : “ما أنا بسبئي ولا مرجىء “(9).
- الشعبي عمر بن شراحيل الحميري اليمني المتوفى عام (135هـ/721م)، من رواة الأنساب والأخبار الثقات(10). أخرج عنه ابن عساكر في “تاريخ دمشق” قال : أول من كذب عبد الله بن سبأ”(11).
- سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المدني المتوفى عام (103 هـ/721 م)، كان أحد فقهاء التابعين، ثبتا فاضلا(12)، روى يعقوب بن سفيان الفسوي في كتابه “المعرفة والتاريخ” قال: قال أبو الوليد: سألني سالم بن عبد الله بن عمر: ممن أنت؟ فقلت : من أهل الكوفة، فقال : بئس القوم بين سبئي وحروري”(13).
- أبو الطفيل عامر واثلة الليثي الصحابي المعمر المتوفى عام (110هـ / 728م)، روى عن علي بن أبي طالب، قال فيه الحافظ الذهبي: وبه ختم الصحابة في الدنيا(14). أخرج ابن عساكر عنه قال: رأيت المسيب بن نجبة أتى به ملببه، يعني ابن السوداء، وعلي على المنبر، فقال علي : ما شأنه؟ فقال : يكذب على الله ورسوله (15).
- حُجَية بن عدي الكندي أبو الزعراء الكوفي، روى عن علي وجابر وهو من الطبقة الثالثة. ذكر ابن عساكر عنه أنه رأى عليا على المنبر، وهو يقول : من يعذرني من هذا الحميت الأسود الذي يكذب على الله ورسوله يعني ابن السوداء(16).
- أبو الجلاس الكوفي، روى عن علي بن أبي طالب، من الطبقة الثالثة(17). نقل ابن عساكر عنه قال: “سمعت عليا يقول لعبد الله بن سبأ: ويلك! والله ما أفضي إلي بشيء كتمته أحدا من الناس، ولقد سمعته يقول: إن بين يدي الساعة ثلاثين كذابا وإنك لأحدهم”(18).
- قتادة بن دعامة السدوسي المتوفى عام (117 هـ / 735 م)، من ثقات التابعين وحفاظهم، روى عن أبي الطفيل وأنس بن مالك، كان آية في الحفظ والرواية(19).
- نقل الإمام الطبري في تفسير قوله: ” وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ……﴾ قال : إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري(20)“.
- أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي المتوفى عام (157 هـ/ 773)(21). نقل الإمام الطبري عنه في “تاريخه” رواية يصف فيها أشراف أهل الكوفة لخصومهم من أصحاب المختار بالسبئية(22).
[اقرأ ايضا: إخوان الصفا جناح فكري للباطنية]
الموهوم لا يدفع المعلوم
يقول المؤلف:
لا أعلم فيما اطلعت عليه من المصادر المتقدمة أي ذكر لعبد الله بن سبأ عند غير سيف بن عمر سوى رواية عند البلاذري.(23)
إن المصادر المتقدمة التي اطلع عليها د. الهلابي إذا كانت أغفلت موضوع ابن سبأ والسبئية، فلا يعني ذلك بالضرورة أنه شخصية خرافية، إذ إن عدم ذكرها له لا يقوم دليلا على الإنكار أو التشكيك، فهل استوعبت تلك المصادر كل أحداث التاريخ الإسلامي حتى نقف وقفة المنكر أو المتشكك إذا لم تذكر شيئا عن ابن سبأ؟!
وهل من شروط صحة الرواية التاريخية تضافر كل كتب التاريخ على ذكرها؟!
ثم هل نسي د. الهلابي أن المصادر القديمة ضاع كثير منها فأصبحت مفقودة أو في حكم المفقود، حيث ضاع كثير من مؤلفات الزهري وابن إسحاق والواقدي والمدائني وابن شبة والأصمعي والهيثم بن عدي وعروة بن الزبير وغيرهم، إلا ما استوعبته بعض المصنفات الموسوعية كتاريخ الطبري مثلا؟!
ومن هاهنا ينبغي الرجوع إلى الأمر المعلوم المحقق للخروج من الشبهات والتوهمات، إذ إن الموهوم لا يدفع المعلوم، والمجهول لا يعارض المحقق، فشخصية ابن سبأ وجماعته حقيقة تاريخية تتفق عليها كثير من المصادر المتقدمة غير البلاذري.
فقد جاء ذكر السبئية على لسان أعشى همذان المتوفى عام (83 هـ/702م) وقد هجى المختار وأنصاره من أهل الكوفة بقول:
شـهـدت علـيـكـم سبـئيـة وأني بكم يا شرطة الكفر عارف (24)
كما جاء ذكر السبئية في كتاب “الإرجاء” للحسن بن محمد بن الحنفية المتوفى عام (95 هـ/713م)، الذي أمر بقراءته على الناس وفيه:
“… ومن خصومة هذه السبئية التي أدركنا، إذ يقولون هدينا لوحي ضل عنه الناس”(25).
وفي الطبقات لابن سعد المتوفى عام (230 هـ/844 م) ورد ذكر معتقدات السبئية وأفكار زعيمها، فعن عمرو بن الأصم قال: قيل للحسن بن علي: إن أناسا من شيعة أبي الحسن علي ـ عليه السلام ـ يزعمون أنه دابة الأرض، وأنه سيبعث قبل يوم القيامة، فقال كذبوا، ليس أولئك شيعته أولئك أعداؤه، لو علمنا ذلك ما قسمنا ميراثه ولا أنكحنا نساءه…”(26) علما بأن ما ذكر في هذا النص لا يخرج عما جاء به ابن سبأ من آراء، وأكده علماء الفرق والنحل والمؤرخون في كتبهم(27).
وتحدث ابن حبيب المتوفى عام (245 هـ / 860 م) عن ابن سبأ حينما اعتبره أحد أبناء الحبشيات(28)، كما روى أبو عاصم خُشيش بن أصرم المتوفى عام 259 هـ/ 859م) خبر إحراق علي ـ رضي الله عنه ـ لجماعة من أصحاب ابن سبأ في كتابه “الاستقامة”(29).
وفي “البيان والتبيين” للجاحظ المتوفى عام (255 هـ / 868 م) رواية تشير إلى عبد الله بن سبأ(30) ، كما ذكر الجوزجاني المتوفى عام 259 هـ / 873 م) وهو من علماء الجرح والتعديل، أن من مزاعم عبد الله بن سبأ ادعاؤه أن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي، وأن عليا نفاه بعد ما كان هم به”(31).
ويقول ابن قتيبة المتوفى عام (276 هـ/889 م) في “المعارف”:
السبئية من الرافضة ينسبون إلى عبد الله بن سبأ.(32)
ويذكر البلاذري المتوفى عام (279 هـ / 892م) ابن سبأ في جملة من أتوا إلى علي رضي الله عنه يسألونه عن رأيه في أبي بكر وعمر، فقال لهم: أو تفرغتم لهذا؟ وحينما كتب علي الكتاب الذي أمر بقراءته على أنصاره كان منه عند عبد الله بن سبأ نسخة عنه فحرفها”(33)
وأورد الناشئ الأكبر المتوفى عام 293 هـ / 905 م) عن ابن سبأ وطائفته ما يلي:
وفرقة زعموا أن عليا ـ عليه السلام ـ حيٌّ لم يمت، وأنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه، وهؤلاء هم السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان عبد الله بن سبأ رجلا من أهل صنعاء، يهوديا … وسكن المدائن.(34)
……………………………….
هوامش:
- الزينة في الكلمات الإسلامية، القسم الثالث، ص305.
- الفصل في الممل والنحل، ج 2، ص 109.
- تاريخ مدينة دمشق،(نقلا عن سليمان العودة: عبد الله ابن سبأ، ص241).
- الهلابي : عبد الله بن سبأ : دراسة للروايات التاريخية عن دوره في الفتنة، ص. 13.
- انظر : العجلي : الثقات، ص 212، وابن حجر : تقريب التهذيب ، ج 1، ص 341.
- يحيى بن حمزة الزيدي : طوق الحمامة (نقلا عن إحسان إلهي ظهير : السنة والشيعة، ص 28)، وابن حجر : لسان الميزان، ج 3 ، ص290 ، وتهذيب التهذيب، ج 2، ص 217، قال : رواه البرقاني في اللفظ).
- ابن عساكر : تاريخ دمشق (المخطوط) ج 9، ص 331.
- الذهبي : الكاشف، ج 1، ص 51. وابن حجر : التهذيب، ج 1، ص 177.
- ابن سعد : الطبقات، ج 6، ص 192.
- انظر : الفسوي : المعرفة والتاريخ، ج 2 ص 592. والخطيب : تاريخ بغداد ج 12، ص227.
- ابن عساكر : تاريخ دمشق (المخطوط)، ج 9 ص 331.
- انظر : ابن سعد : الطبقات، ج 5 ص195. وخليفة: الطبقات، ص 246.
- الفسوي المعرفة والتاريخ، ج 2 ص 758.
- انظر ابن حبان : الثقات ج 3، ص 281 . والذهبي : الكاشف، ج 2، ص 52 . وابن حجر : التقريب، ج 1، ص 389.
- ابن عساكر : تاريخ دمشق (المخطوط) ج 9، ص 331.
- انظر : العجلي : الثقات ص 110 . وابن حبان: الثقات، ج 4 ، ص 192.
- ابن عساكر : تاريخ دمشق (المخطوط) ج 9، ص 331.
- انظر : ابن حجر : لسان الميزان، ج 3 ص 289.
- ابن عساكر : تاريخ دمشق (المخطوط) ج9، ص 331.
- انظر : العجلي : الثقات ص 389، وابن معين : التاريخ، ج 2، ص 484.
- الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 3/3/119.
- الطبري : تاريخ الرسل، ج6، ص 25.
- الهلابي : عبد الله بن سبأ :دراسة للروايات التاريخية عن دوره في الفتنة ، ص 16.
- أعشى همدان : ديوان، ص 148.
- أبو عمر العدني : كتاب الإيمان، ص 249.
- ابن سعد : الطبقات ، ج 3، ص 39.
- انظر : الأشعري : مقالات الإسلاميين ج1، ص 86، والقمي : المقالات والفرق ص 119، وابن حبان : المجروحين، ج 2 ص 253، والمقدسي البدء والتاريخ ج 5، ص 129.
- ابن حبيب : المحبر، ص 308.
- ابن تيمية : منهاج السنة، ج1، ص 7.
- الجاحظ : البيان والتبيين، ج 3، ص 81.
- الجوزجاني : أحوال الرجال، ص 38.
- ابن قتيبة: المعارف، ص 267.
- البلاذري : أنساب الأشراف، ج3 ص 382.
- الناشئ الأكبر: مسائل الإمامة، ص 22.
لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:
اقرأ أيضا: