اقتضت سنة الله تعالى في كونه أن تقع أحداث مفصلية تفضي إلى تغيرات كبرى، وتؤثر على موازين القوى.
واقتضت سنته عز وجل أن يرفع أقواما ويضع آخرين، وأن يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء وهو على كل شيء قدير…وسنة الله ماضية في الأولين والآخرين لا تحابي أحدا.
من بركات طوفان الأقصى
لقد مرت سنة على الحدث التاريخي المفصلي: “طوفان الأقصى”، فقد كان امتحانا صعبا للجميع، وظهرت نتائجه مبكرا، فقد سقط القناع عن الكيان الصهيوني الغاصب، وعلم الناس حقيقته، وصارت مقولاته محط نظر وتشكيك، وأبان للناس همجيته وعنصريته وحقده بكل وضوح ” لتجدن”.
وظهرت حقيقة الغرب، واطلع العالم على سوءة ديمقراطيته، وتعرت عنده حقوق الإنسان، ففجأة غابت حقوق النساء والأطفال، ولم تعد للأقليات ميزة، واندثرت حرمة أماكن العبادة والمستشفيات، وفي كثير من بلدان الغرب انسجمت مواقف السياسيين يمينا ويسارا، أغلبية ومعارضة فصموا آذانهم وغضوا أبصارهم عن الإبادة الجماعية.
وأشهرت الأمم المتحدة شهادة العجز والشلل، واكتشف الناس وجه مجلس الأمن القبيح، ولم يعد “الفيتو” حقا، فأصبح باطلا معطلا للحق والعدل والمواساة.
ما هو الاسم المناسب الذي يرتبط بالعام الذي حدث فيه طوفان الأقصى؟
أما ابتلاء أهل غزة فقد كشف عن وجود معدن ثمين ونادر، برؤيتهم يستحضر الواحد منا سيرة رجال ونساء القرون الأولى الفاضلة، صبر ويقين، رضى وتسليم، بذل وجهاد في أعلى المراتب والدرجات.
وملفت للنظر أن أحداثا كبرى وقعت في التاريخ، فسمي العام الذي وقعت فيه باسمها، وهكذا قالوا “عام الفيل” أي العام الذي عزم فيه أبرهة هدم الكعبة، وقالوا “عام الحزن” الذي ماتت فيه خديجة الكبرى وأبو طالب.
ونتساءل، ما هو الاسم المناسب الذي يرتبط بالعام الذي حدث فيه طوفان الأقصى؟
عام طوفان الأقصى
أنقول “عام طوفان الأقصى”، إنه الاسم الذي أطلقته المقاومة لأول وهلة، ولم تكن تدرك الامتداد الزمني للحدث، وطوفان الأقصى حدث تاريخي مفصلي غير محصور في الزمان والمكان، ولا أحد تكهن أو يتكهن بمآل الحدث وما يترتب عليه من آثار، فالأعوام القابلة كفيلة بالكشف عن الخريطة الجغرافية والسياسية والاقتصادية التي امتد إليها أثر طوفان الأقصى. وهذا المصطلح اكتسب قدسيته من كثرة استعماله ومن مصداقيته ودلالاته الواسعة ومراميه البعيدة.
عام الغزو الغربي الصليبى على فلسطين ومقدسات المسلمين
وهناك اسم قد يصلح ليضاف إلى لفظ “العام” معبرا عن الحدث العظيم، وهو مستوحى من تاريخ الاعتداءات والحروب التي قادها الغرب الصليبي على المسلمين وقد تكون صيغته “عام الغزو الغربي الصليبى على فلسطين ومقدسات المسلمين” وهو يومئ إلى اصطفاف الدول الغربية اللامشروط إلى جانب الكيان الغاصب وإمداده بالسلاح والمال والغذاء عبر جسور بحرية وجوية لا تكاد تنقطع… واعتبرت جل الدول الغربية أمن إسرائيل من أمنها وسلامته من سلامتها، وألبست المجرم المحتل المغتصب حق الدفاع عن نفسه زورا وبهتانا، وألصقت بالمقاومة والمدافعين عن أرضهم وعرضهم صفة الإرهاب والقتل.
وجل هذه الدول كانت إلى وقت قريب مستعمرِة ناهِبة لخيرات دول العالم الثالث والمتكون جلها من الدول العربية الإسلامية، وهذا تعبير عن حقد دفين وعداوة شديدة للإسلام والمسلمين “لتجدن” ” ولن ترضى” فهذه الدول لم تخرج عن مبدئها وأصلها وعقيدتها، ومن كان يرجو غير ذلك فقد وهم وأبعد. (وللقاعدة استثناء).
عام الخذلان
وهناك اقتراح آخر قد يكون أكثر رجحانا وهو تسمية العام “بعام الخذلان”. ذلك أن الأصل والقاعدة تقتضي أن الأنظمة العربية الإسلامية جزء من أمة الإسلام وركن من أركان هويتها وانتمائها، فكان المنطق يقتضي أن يتمثل في هذه الأنظمة مفهوم الجسد الواحد، ومعنى الولاية بين المؤمنين، وشعار الرابطة الإسلامية ومدلول الجامعة العربية، وهذه المعاني والمفاهيم تتطلب النصرة والقرب والتأييد والدعم والفداء والوفاء، وهو أمر غاب أثره على أرض غزة والضفة، واستبدلوا كل ذلك بعبارات الشعور بالقلق والحزن وفي أحسن الأحوال الشجب والإدانة والدعوة لوقف القتال.
لاريب أن أهل غزة يبادون ويجوعون ويهجرون، ولم يتجاوز سقف رد فعل الأنظمة العربية الإسلامية الكلام” الشجب والإدانة”، فالأنظمة الإسلامية أسلمت أطفال غزة ونساء غزة لعدوهم، وحققت فيهم أعلى درجات الخذلان، وموقفها لم يتبدل بالرغم من تطور الأحداث وتسارعها وبلوغ الحرب أقصى وأقسى البشاعة في القتل والتدمير، وقد يفسر ذلك بالعمد والإصرار والترصد، وهذا الموقف يخالف ويناقض موقف الشعوب التي اختارت الفطرة ونصرة المظلوم، وتمثلت الشعوب معنى الجسد الواحد والولاية بين المسلمين، وهي مغلوب على أمرها.
وهذا الخذلان الذي بلغ مداه لن يضر أهل غزة ” لن يضرهم من خذلهم”، بل يضر الأنظمة نفسها، فالأمر تأريخ لحدث الخذلان، الذي يصبح حديث الجيل الحالي وما تلحق به من أجيال، فيتساءل الناس عن الأنظمة ومن تولى الأمر فيهم بالأسماء والصفات، فيكونوا لسان ذلة وخذلان في الحاضرين والآخرين.
والأنظمة في “الخذلان” متفاوتة، فدول الطوق ليستا كغيرها، والمطبعون في السر والعلن وغيرهم ليسوا سواء، والساكتون ــ إن وجدوا ـــ فهم شركاء في الخذلان فالموقف لا يقبل وسطا إما الحق وإما الباطل.
وينسحب داء خذلان الأنظمة إلى العلماء، فلم يبينوا للناس ما نزل إليهم من ربهم، كما يلحق بهم أهل الفكر والسياسة الذين لزموا صمت القبور فلا تسمع لهم همسا. وقد بينت السنة سبب داء الخذلان، فقد سماه الرسول صلى الله عليه وسلم بالوهن وفسره بحب الدنيا وكراهية الموت.
والحمد لله رب العالمين.
المصدر
مجلة منار الإسلام، د. إبراهيم الهلالي.