معركة التحرير هذه ليست معركة “حماس” ولا معركة فصائل المقاومة، بل هي معركة الأمة بأسرها، ولا عذر إلا لعاجز قد أقعده عجزه. فعلى كل مؤمن من غير أولي الضرر أن يعيد تموضعه ويحدد موقعه وكل ميسر لما خلق له؛ (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيما) [النساء:95].
معية الله ونصرته لعباده في طوفان الأقصى
ما يجري على أرض غزة منذ السابع من أكتوبر (2023) أصبح خارج نطاق التحليل البشري. فمن درس قواعد التحليل السياسي وأوتي حظاً من النظر الاستراتيجي، يدرك أن تداعيات الحدث تيمم شطر نهايات مرسومة ومقاصد قد حددها الله.
ما أحسب أن العقل الاستراتيجي في كتائب القسام كان يدرك على وجه الدقة مآلات المعركة. لا ريب أن قيادة الكتائب كان لديها تقديراً للمآلات وحصراً للارتدادات المتوقعة، ولكن مسارات المعركة سلكت اتجاهات هي خارج نطاق الخيال الإستراتيجي.
أقول لك بيقين: نحن نعيش أياماً كيوم بدر والأحزاب وحنين … ذات السنن تتنزل وذات النواميس تحكم مسارات المعركة. ومالم تستصحب هذه القاعدة الإرشادية في التحليل فسيستغلق عليك فهم الحقائق على الأرض ويعسر عليك استشراف المآلات.
لست أدعو إلى استبعاد العناصر المادية، هي حاضرة بلا شك وانعكاسها على موازين القوى ثابت بلا ريب. ولكن الوقائع على الأرض تشي أن ثمة قوة غير محسوسة Invisible تحسم النتائج!
أولى فواتح التحرير
إنها المرة الأولى في تاريخ النضال الفلسطيني التي تنتقل فيها القيادة العسكرية والسياسية إلى الأيدي المتوضئة، وتلك أولى فواتح التحرير. وما قبل ذلك كان أضاليل ومسرحيات هزيلة الإخراج هوت بالأمة إلى قاع سحيق. كان أبطالها يشتمون اليهود نهاراً ويسامرونهم ليلاً. إن ظهور المقاومة، وبهذا المستوى من الاستبسال القتاليّ والبصيرة السياسية، يعكس تحولاً استراتيجياً في اتجاهات الصراع ويعبر عن نهاية حقبة وبداية حقبة أخرى عنوانها؛ (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ) [الصافات:173].
اندثار مشروع أوسلو هو ثاني فواتح التحرير
ذلك المشروع البغيض الذي سعى إلى تسويق الوهم وإجهاض المقاومة وبلغ حداً من الابتذال والهوان حتى مجّه داعموه ولفظه الشعب الفلسطيني، ثم جاء الطوفان لينسف بنيانه من القواعد (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الحشر:6].
أما ثالثة الفواتح فهي إنكسار مسارات التطبيع
التي أريد لها هذه المرة أن تعيد تموضع “إسرائيل” في العقل العربي وأن تعيد تشكيل الوجدان العربي فلا يجد حرجاً ولا غضاضة في التصالح مع يهود والمسارعة فيهم.
وأما الرابعة فهي تحرير الضمير العالمي من تراكمات التجهيل والتضليل
الذي تولى كبره أجهزة التفكير ومنصات الإعلام الغربي سنين عدداً. ما كان للرأي العام العالمي أن يشهد انقلابا بهذه الحدة لولا تداعيات الطوفان التي هتكت ستر الصهاينة ونزعت عنهم ثوب الزور الذي تدثروا به حينا طويلاً من الدهر. حالة التحول هذه ليست ومضة عابرة، بل هي حالة أصيلة بدأت تستقر في الوجدان الغربي وتشكل قناعاته الجيوسياسية، واستطلاعات الرأي تشير ليس إلى رفض العدوان الإسرائيلي فحسب، بل إلى مخاطر الوجود الإسرائيلي ذاته وتهديده للسلام العالمي.
وخامسة حسنة جميلة، هي تحرير الأمة من “الوهن”
ذلك الداء العضال الذي حذر منه النبي – صلى الله عليه وسلم- وجعله سببا مفتاحياً للسقوط الحضاري. قدمت فصائل المقاومة أنموذجاً بليغاً للصمود و كسر الرهانات الزائفة وحولت مرامات الوحي، من ثبات وصدق ويقين وبذل وإقبال على الآخرة، إلى مصاديق حيّة، هذا الأنموذج صنع حالة مبهرة ما فتئت تعيد تشكيل العقل المسلم وتحرره من القنوط والعجز وترسم له النهايات الحتمية؛ (وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:139].
طوفان الأقصى بداية النهاية
مسار التحرير طويل، ولكنه بدأ، ودروبه وعرة متعرجة، ولكنها تسير نحو وجهتها المرسومة بخطى ثابتة. ستشهد الأيام القادمة كثيراً من الآلام والفواجع والعثرات، ولكنها معركة الضرورة التي لا مناص من خوضها: (إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء:104]. كما أن الأيام حبلى ببشائر النصر وإرهاصات التحرير.
قطع السابع من أكتوبر مرحلة التيه والوهن والغي، ودشن مرحلة عنوانها الرشد واستعادة الوعي القرآني.
معركة التحرير هذه ليست معركة “حماس” ولا معركة فصائل المقاومة، بل هي معركة الأمة بأسرها، ولا عذر إلا لعاجز قد أقعده عجزه. فعلى كل مؤمن من غير أولي الضرر أن يعيد تموضعه ويحدد موقعه وكل ميسر لما خلق له؛ (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيما) [النساء:95].
المصدر
د. عبدالله الغيلاني.
اقرأ أيضا
طوفان الأقصى.. هل يبلغ مداه الأقصى..؟
دروس ووصايا من ملحمة الإباء في طوفان الأقصى