شهيد الظلال. دقيقةُ إِنصَاف

لقد آن الأوان للحركة الإسلامية أن تأخذ أطروحات قطب موضع الجد، وأن تعيد قراءتها وأن تُقبل على تراثه بوعي الباحث الجاد، لا بعين المشكك المرتاب. لننظر إليه باعتباره إمامًا فكريًا مجددًا، لا متهَماً في قفصٍ زُجّ به ظلمًا.

سيد قطب: مشروع النهضة المختطف بين التكفير والاقتباس المبتور

في زحمة القراءات المتعجلة، والحُكم على الأشخاص من خلف شاشات التحليل السطحي، البعيد كل البعد عن الحقيقة، تبهت الصورة وتختلط الألوان. ويصبح الفكر المستقيم النقي تهمة، والكلمة الصادقة جُرمًا. وما بين مَن اتهم شهيد الظلال الأستاذ سيد قطب رحمه الله بالتكفير، ومَن حاكمه بمنطق التجزئة والاقتباس المبتور.. ضاعت ملامح مشروع حضاري عميق حاول إعادة بناء الوعي الإسلامي على أسس قرآنية صافية. إن هذا المقال ليس دفاعًا عاطفيًا، ولا تسويقًا لفرد، بل شهادة حق ودعوة لإعادة القراءة بعين فاحصة، وعقلٍ حرّ، وقلبٍ لا يُشغل إلا بنهضة الأمة.

الذكرى 59: بين مشروع قطب الحضاري وتيهان الأمة الفكري

تحل علينا هذا الشهر يوم التاسع والعشرين من أغسطس 2025م الذكرى التاسعة والخمسون لاستشهاد الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وهنا يتجدد السؤال: هل أفرزت الأمة في عصرنا الحديث مثل سيد قطب؟! هل شهدت الأمة في عصرنا الراهن عقلًا بصفاء منطقه، وذهنًا بسمو تأمله، وسلامة بصيرته؟

هل رأينا في واقعنا الفكري من يضاهيه في فصاحة التعبير، ونقاء الأسلوب، وشفافية الطرح؟ من ذا الذي يُقاربه، فضلًا عن أن يُجاريه أو يُساويه، في سلاسة العبارة، وروعة البيان، ودقة التركيب، وجزالة المعنى؟! كيف لإنسان أن يتحول بكليّته إلى فكرةٍ خالدة، تمكث في الأرض بعد رحيله، وتنمو عبر الأجيال وتثمر، في حين يذبل جسده ويفنى كيانه؟ إننا اليوم، في زمن التيه وتشتت الاتجاهات بأمسّ الحاجة إلى عبقرية متفردة، تبعث في الأمة روح الحياة من جديد، كما فعل شهيد الظلال رحمه الله.

ليس متهمًا.. بل مجددًا: دفاع عن حق سيد قطب في أن يُفهم لا أن يُشوه

سيد قطب، رحمه الله، ليس مجرد كاتب بارع أو أديب مبدع، ممن يُثنَى عليهم فيقال: أخطأ ولكنه أحسن، وزلّ فقيل له لا تثريب عليك، بل هو أعلى من ذلك بكثير. نعم، هو بشر يخطئ ويصيب، يُؤخذ من كلامه ويُردّ، لكن من الجور أن يُوضَع في موضع المُتَّهَم، ويُعامَل كما يُعامل مَن تُقام عليه الحجج وتُعرض أقواله على محاكم النقد الجائر. لا يصح أن يُخاصمه من لم يبلُغ عُشر علمه، أو يجادله من لم يذق مرارة السجن أو أَلَم الغُربة الفكرية. لم يُقدَّر له أن يُعامَل كما ينبغي لمجدِّد في زمن عزّ فيه المجدِّدون، وندر فيه المصلحون. لقد كانت الأمة -وما تزال- في أمسّ الحاجة إلى نَفَسِه التربوي، وميزانه الفكري، ومنهجه المستقيم في رؤية الواقع وسبل تغييره.

سيد قطب.. أداة نهضة وأساس تجديد

لقد ترك الشهيد سيد قطب رحمه الله إرثاً فكرياً ضخماً لا ينبغي أن تُختزل في أخطاء جزئية أو قراءات مجتزأة؛ بل إن إرثه الفكري أداة نهضة، وأساس تجديد وبعث، ومَعينٌ لا ينضب لمن أراد أن يُقيم مشروعًا للإصلاح أو نهضة حضارية شاملة. من كِتابه (في ظلال القرآن) تُستخرج كنوز الهداية الربانية، وتُستلهم براهين الإيمان. ومن كِتابه (معالم في الطريق) تُضاء المنارات الكبرى التي تهدي الحائرين وتتضح معالم طريق التغيير والهداية. وتُستخرج من (خصائص التصور الإسلامي) رؤى شمولية عظيمة، تُبرز عظمة الخالق وسمو هذا الدين وخلوده، وتُجلي للمتأمل طبيعةَ العلاقة بين العقيدة والواقع، بين الفكرة والحياة. ويبث الأمل ويقر بالمعلوم يقيناً في كتابه بأن (المستقبل لهذا الدين).

هل يعقل أن يُتهم سيد قطب بأنه كفّر المجتمعات؟!

لكن، ويا للأسف، لم نُقْبِل على هذه التركة الفكرية الهائلة بإجلال المستفيد، ولا بتوق الباحث، بل وقفنا موقف الناقد المرتاب، وصرنا نكيل له التقييمات غير المنضبطة، والتقويمات المجحفة. ولو كنّا، حين اقتربنا من قمة كهذه، نحمل أدوات العلم والمنهج، ونتسلح بالنزاهة والإنصاف، لكان لنا عذر. لكننا اقتربنا بلا عُدة، ولا علم، ولا هِمة، فأنتجنا ما يُضحك ويبكي في آنٍ واحد! فهل يُعقل أن يُقال هذا في رجلٍ مثل سيد قطب؟!

هل يعقل أن يُتهم سيد قطب بأنه كفّر المجتمعات؟! ثم يخرج من بين صفوفنا نحن أبناء الحركة الإسلامية من يعتذر عنه بأعذار أشد قسوة من الاتهام نفسه، فيقول: لقد عاش في ظروف نفسية وصحية قاسية، فانعكس ذلك على فكره! أيّ استخفافٍ بعقول الناس هذا؟!

هل يمكن أن يكون ضعيفًا نفسياً؟!

وهل من عاش حياته في كهف الألم والابتلاء، وسُجن في زهرة عمره، وصودرت حريته سنوات طويلة، ثم خرج لنا بهذه الروائع الفكرية، يمكن أن يكون ضعيفًا نفسياً؟! إنّ من يغوص في مؤلفاته، يجد نفسه في أعماق إنسان عملاق، شفاف، عميق، يسمو فوق الجراح والآهات، ويتسامى على السجن والعذابات، كيف يُتّهم هذا بأنه مريض نفسياً؟! إن الحقيقة أن المحنة لم تكن عنصراً نفسياً ضاغطاً على قطب جعلته يؤصل لهذه الأفكار، ولكن كانت المحنة دافعًا له إلى تشخيص الواقع بدقة، وفي كتابة العلاج بمهارة متفردة.

سيد قطب: الضحية التي حُوكمت بجرائم لم يرتكبها

أليس من الإنصاف أن نردّ كلام الكاتب إلى سياقه، ونربط بعضه ببعض قبل أن نبتّ في الحكم عليه؟! أليس من الواجب -عند قراءة نص أدبي رفيع- أن يُفهم في ضوء فنونه البلاغية، لا بمنهج الفتوى والقانون؟! لو قرأ هؤلاء ولو شيئًا يسيرًا من علم البلاغة، لعلموا أن المعنى لا يُفهم من سطرٍ منفصل، بل من نَسَقٍ متكامل. إنّ سيد قطب لا يفكر من داخل منظومةٍ أسيرة، بل من خارجها تمامًا. لا يعيش في صندوق النظام العالمي، كما يفعل غيره من المنظّرين، بل يثقب الجدران، ويخرق السقف، ويُعيد تشكيل الواقع بمنهج رباني متكامل.

مفهوم “الجاهلية” عند سيد قطب والرد على منتقديه

اعترض عليه البعض لأنه وصف الواقع المعاصر بالجاهلية، فليُسمّوا لنا هُم -إن صدقوا- اسمًا آخر لهذا الواقع! أهو واقع إسلاميّ يحكم بشرع الله؟! أم حالة وسطى لا جاهلية ولا إسلام؟! أليس الواقع اليوم -كما نراه ونعيشه- واقعًا يعج بالكفر والفساد، وتُحكم فيه البلاد بأنظمة علمانية طاغوتية، ويُقصى فيه شرع الله؟! أليس الواقع أقرب إلى الجاهلية منه إلى الإسلام؟! وهل يَسقط الوصف لمجرد وجود أفراد مسلمين؟! إنّ وجود المسلمين لا يُغَيّر من طبيعة النظام الحاكم شيئًا، ولا يُبرر التغاضي عن وصف الواقع كما هو. ثم إنّ سيد قطب لم يَقُل أبدًا إنّ كل من يعيش في هذا الواقع كافر، بل ميّز بوضوح بين واقع الجاهلية وبين تكفير الأفراد، لكنهم لم يقرأوا، ولو قرأوا ما فهموا، وإن فهموا تعمدوا التشويه.

سيد قطب وإرهاب الاقتباس

ثم جاءت الموجة الأشد شراسة: اتهامه بأنه أصل للتطرف والإرهاب! فبدلًا من تحميل المنظومة العالمية الجائرة، والأنظمة الطاغية التابعة لها، مسؤولية بروز العنف والغلو، ذهبوا يفتشون في كتب سيد قطب عن كلماتٍ اجتزؤوها لاتهامه زورًا وبهتانًا. عجبًا لهم! أما علموا أن الخوارج قد استندوا إلى قوله تعالى: ﴿إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ﴾ [الأنعام: ٥٧]، فهل نُحَمِّل القرآن مسؤولية أفعالهم؟! إن الانحراف في الفهم لا يعود على النص بالإدانة، بل على العقل الذي أساء الفهم. إنّ سيد قطب دعا إلى فكر نقي، وإلى إسلام متكامل، وإلى منهجٍ ربانيّ يقيم العدل، لا إلى تطرف ولا إرهاب.

سيد قطب ومحنة التشويه: من اتهام التكفير إلى افتراء الحلول!

بل والأدهى، أن تُلصق به تُهَمٌ باطلة، كدعوى الحلول ووحدة الوجود! وهي دعاوى تُشعر السامع بالبؤس الفكريّ لمن أطلقها. إنّ من يُحسن قراءة كتبه يدرك أنّه صاحب توحيدٍ نقيّ، وأنّ رؤيته قائمة على التمييز الحادّ بين الخالق والمخلوق، بين الإلهية والعبودية. كيف يُقال عن رجلٍ كان يُجدد في فهم العقيدة ويعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان وربه بهذه الاتهامات التي لا تُلصق إلا بأهل الانحراف العقدي الحقيقيين؟! هل قرأ هؤلاء (خصائص التصور الإسلامي)؟ هل تأملوا مقالاته عن حقيقة الألوهية والربوبية؟ أم اكتفوا بنقلٍ مُغرض عن فقرات مبتورة؟

سيد قطب: المجدد الحر.. الذي رفض أن يكون تابعًا

سيد قطب ليس نبيًا معصومًا، بل مجدد من مجددي هذا الدين، يُؤخذ من كلامه ويُرد، لكن لا يُحاكم بمنطق الخصومة، ولا يُوضع فكره في ميزان التشكيك، فإن ذلك ظلم لفكره، وإقصاء لميراثه الذي يُعد من أهم ما أنتجه العقل الإسلامي الحديث. لقد كان مجددًا لا تابعًا، حرًا لا سجين فكرٍ أو تقليد. إنّ أفكاره خرجت من رحم المحنة، فنطقت بالحكمة، وتجلّت فيها ملامح الصدق والمعاناة، والهمّ الصادق بقضايا الأمة. لقد كان رحمه الله واضحًا صريحًا غير متلون من البداية، وثبت وضحى بحياته من أجل المبادئ التي آمن بها، وعلى الرغم من إدراكه أن الأمة في هذه اللحظة متعلقة بالحضارة الغربية المتغلبة، ورغم هذا أصر على أن تعريف الحضارة هي الحضارة التي قامت على القيم الإسلامية، ورفض أن يسمي أي تقدم مادي صناعي أو علمي أو اقتصادي لم تتوفر فيه القيم الإسلامية حضارة حقيقية.

كسر أصنام التطبيع: سيد قطب ورفض مسايرة النظم الوضعية بأي اسم

ودافع بجرأة عن كون القيم الإسلامية يمكن تحققها في الواقع وليست مثالية خيالية، ورفض مبدأ التطبيع مع العلمانية تحت مسميات اشتراكية الإسلام أو ديمقراطية الإسلام، أو العلمانية الجزئية وغيرها من المفاهيم التي تريد أن تُتطبع مع الدولة الحديثة؛ فقال بوضوح:

“إن الإسلام ليس هو أي مذهب من المذاهب الاجتماعية الوضعية، كما أنه ليس أي نظام من أنظمة الحكم الوضعية بشتى أسمائها وراياتها جميعاً، وإنما هو الإسلام فقط، الإسلام بشخصيته المستقلة وتصوره المستقل وأوضاعه المستقلة. الإسلام الذي يحقق للبشرية خيراً مما تحلم به كله من وراء هذه الأوضاع”.

وختاماً..

ولئن كان فكر قطب لم تستوعبه الحركة الإسلامية خلال القرن الماضي -فضلاً عن شراسة الهجوم عليه من العلمانية وغيرها من الأيدولوجيات- فإن إرهاصات اللحظة التي تمر بها الأمة والرسائل الربانية تشير إلى صحة هذا المنهج، تقول بوضوح إن فكر الظلال هو فكر القرن القادم، الفكر الذي سوف يمهد الطريق إلى خلافة على منهاج النبوة.

لقد آن الأوان للحركة الإسلامية أن تأخذ أطروحات قطب موضع الجد، وأن تعيد قراءتها وأن تُقبل على تراثه بوعي الباحث الجاد، لا بعين المشكك المرتاب. لننظر إليه باعتباره إمامًا فكريًا مجددًا، لا متهَماً في قفصٍ زُجّ به ظلمًا. لنستفيد من تراثه في فهم الواقع فهمًا متوازنًا، وفي إعادة بناء الأمة على أساس العدل الإلهي والشريعة الربانية. ليكن شهيد الظلال قدوتنا في البذل، وفي الثبات، وفي صفاء الفكرة، وجمال العبارة، وعلو الرؤية. إنّه واحد من أولئك الذين يموتون، فتظل أفكارهم حيّة، وتندثر أجسادهم، فتظل كلماتهم تنبض بالحياة.

﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21].

المصدر

مجلة أنصار النبي، عماد إبراهيم – مدير مشروع بصيرة الدعوي.

اقرأ أيضا

هل كان سيد قطب معاديًا للتراث؟

قضايا سيد قطب التي تبناها، وعاش واستشهد ثمنًا لها (1)

قضايا سيد قطب التي تبناها، وعاش واستشهد ثمنًا لها 2

لماذا أُحِبُّ سيد قطب؟

التعليقات غير متاحة