المراد بالشفاعة الثابتة لرسول الله شفاعته يوم القيامة للناس عند الله تعالى لدفع ما يلاقونه من العذاب؛ وإذ قد أراد الله تعالى إكمال الفضائل لرسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – كان من جملة ما أعطاه أن أعطاه فضيلة الشفاعة وسماها بالمقام المحمود..

حقيقة الشفاعة

الشفاعة توسط سيد أو حبيب أو ذي نفوذ لدى من يملك عقوبة أو حقًا بأن يعدل عن الأخذ به، وقد كانت عند العرب في الغالب من شعار الود، وفي الحديث: «قالوا هذا جدير بأن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع»، وفي شفاعة الحبيب قال الشاعر:

فلا تحرمني نائلاً من شفاعة … فإني امرؤ وسط القباب غريب

وقد تطلق الشفاعة مجازًا وتسامحًا على الوساطة في الخير ورفع الدرجة، ومنه قوله تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا) [النساء: 85]، وقول النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح: «اشفعوا فلتؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء»، وقول دعبل الخزاعي:

شفيعك فاشكر في الحوائج إنه … يصونك عن مكروهها وهو يخلق

ومن الشواهد لذلك نكتة تاريخية قل من يتفطن لها وهو ما وقع في ظهير الخليفة القادر بالله الذي أصدره للسلطان يمين الدولة محمود الغزنوي بولاية خراسان فقد جاء فيه: وليناك كورة خراسان ولقبناك يمين الدولة بشفاعة أبي حامد الإسفراييني.

شفاعة الرسول أمر ثابت على الجملة بأدلة القرآن وبما ثبت في الصحيح

والمراد بالشفاعة الثابتة لرسول الله شفاعته يوم القيامة للناس عند الله تعالى لدفع ما يلاقونه من العذاب؛ وإذ قد أراد الله تعالى إكمال الفضائل لرسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – كان من جملة ما أعطاه أن أعطاه فضيلة الشفاعة وسماها بالمقام المحمود فقال تعالى: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) [الإسراء: 79]، تكميلاً لفضائله في الآخرة على حسب ما له من السؤود عند الله تعالى، فقد أعطى أهل السيادة الدنيوية الزائلة، خصلة الشفاعة الزائلة، وأعطى صاحب السيادة الحقة الدائمة الشفاعة الصادقة في دار الخلود، وخصه بها كما خصه بفضائل لم يشاركه فيها أحد.

فقد روى مالك في الموطأ والبخاري ومسلم في صحيحهما عن جابر بن عبد الله أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» .

وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أنس بن مالك وأبي هريرة وحذيفة قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد وتدنو الشمس من رؤوس الخلائق فيبلغ الناس من الكرب والغم ما لا يطيقون فيهتمون لذلك فيلهمون فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يُريحنا من مكاننا، ثم ذكر أنهم يأتون آدم، ثم نوحًا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى (فكل يعتذر) وأن عيسى يقول: ائتوا محمدًا عبدًا قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: فيأتوني فأستأذن على ربي فيأذن لي، فإذا رأيته وقعت ساجدًا فيدعني ما شاء الله، ثم يقول: يا محمد ارفع رأسك، قل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجدًا» ووصف مثل مما وصف في المرة الأولى «ثم أشفع فيحد لي حدًّا فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة- قال: فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة- فأقول ما بقي في النار إلا ما حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود»، وزاد مسلم عن حذيفة: «ويقوم محمد فيؤذن له فيضرب الصراط ويمر الناس على الصراط فيمر الأول كالبرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير وشد الرحال تجري بهم أعمالهم ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفًا وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به فمخدوش ناج ومكدوس في النار».

وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك يزيد بعضهم على بعض عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «لكل نبي دعوة مستجابة فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا» وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قيل: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قبله»

وفي صحيح مسلم عن أنس قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أنا اول الناس يشفع في الجنة».

وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يخرج قومًا من النار بالشفاعة» يريد بشفاعة محمد؛ لأن التعريف للعهد.

وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد بن حنبل بأسانيدهم عن أنس بن مالك وجابر بن عبد الله أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»، قال الترمذي: هو حديث صحيح غريب.

وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله: أن مقام محمد المحمود هو الذي يخرج الله به من يخرج من النار.

فشفاعة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم القيامة أمر ثابت على الجملة بأدلة القرآن، قال الله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة: 255]، وقال تعالى: (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ: 23]، وثبوتها للنبي – صلى الله عليه وسلم – بأدلة من القرآن، قال تعالى: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) [الإسراء: 79]، وبما ثبت في الصحيح ورويناه آنفًا.

أقسام الشفاعة عند أهل السنة والجماعة

والشفاعات على ما حققه أئمتنا خمسة أقسام:

الأول: الشفاعة إلى الله في إراحة الأمم من هول الموقف بأن يعجل حسابهم.

وتسمى بالشفاعة العظمى؛ لأنها أعم أقسام الشفاعات، وهي من خصائص محمد – صلى الله عليه وسلم – صريح حديث البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان.

الثاني: الشفاعة لإدخال قوم من المؤمنين الجنة بغير حساب، وهذه أيضًا من خصائص النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم.

الثالث: الشفاعة في قوم استوجبوا النار فيعتقهم الله منها.

الرابع: الشفاعة لإخراج المؤمنين من النار بعد أن يعذبوا على ما اقتضاه حديث أنس وأبي هريرة وحذيفة في الصحيحين.

الخامس: الشفاعة لرفع الدرجات في الجنة.

وإطلاق اسم الفاعل على القسم الأخير مجاز وتسامح، وإنما هي وساطة ووسيلة لزيادة النفع، في كلام عياض ما يدل على أن هذا القسم ليس من خصائص محمد – صلى الله عليه وسلم -؛ إذ ورد في صحيح الآثار ما ظاهره أن الأنبياء والملائكة يشفعون هذه الشفاعة وبذلك جزم عياض في إكمال مسلم.

وأما بقية الأقسام فاختصاص رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالقسم الأول الذي هو الشفاعة العظمى، وبالقسم الثاني وبالقسم الثالث ثبت بصحيح الآثار التي لا معارض لها من مثلها، وأما القسم الرابع فقد ورد في بعض صحيح الآثار أن الملائكة والأنبياء يشفعون، وبه جزم عياض في الإكمال أيضًا.

«وأعطيت الشفاعة»..تفصيل هام

ولم يجب عياض عما تضمنه حديث الموطأ والصحيحين من اختصاص رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالشفاعة على الإطلاق، ورأى أن يكون الجواب على مجاراة ما جزم به عياض رحمه الله، أن يكون محمل حديث الموطأ والصحيحين: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي …. » فذكر منها: «وأعطيت الشفاعة»، إما الشفاعة العظمى، فيكون التعريف للعهد أو للكمال، وإما على جنس الشفاعة بقيد تحقق إجابة شفاعته لما ورد في حديث الصحيحين عن جابر وأنس وأبي هريرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لكل نبي دعوة مستجابة فأردت أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة».

وأما حديث: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» فهو يقتضي تخصيص الشفاعة بكونها لأهل الكبائر من المسلمين، فيتعين حمل هذا الحديث على أن المراد بالشفاعة فيه القسمان الثالث والرابع، وهما اللذان يتحقق فيهما معنى الشفاعة بمعناه اللغوي الأتم؛ لأنها شفاعة تتحقق بها النجاة من أثر الجناية نجاة مستمرة بخلاف القسم الأول فإنها شفاعة لنجاة خاصة من آلام الموقف وبخلاف الخامس؛ إذ إطلاق الشفاعة عليه مجاز كما علمته.

والتحقيق عندي في شأن هذه الشفاعات أن ما ورد من الآثار مما ظاهره إثبات شفاعة النبيين وصالحي المؤمنين والملائكة أنها شفاعة مجازية؛ لأنها إما دعاء؛ كقول النبيين على الصراط: اللهم سلم سلم، كما في حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري في الصحيحين، وإما شهادة وتعريض بالتشفيع؛ كقول المؤمنين الناجين في شأن المؤمنين الذين أدخلوا النار: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقول الله لهم: «أخرجوا من عرفتم»، فهذا إذن من الله لهم بعد شهادتهم كما اقتضاه حديث أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم، وإما تلقي إذن من الله تعالى، كما ورد أن الله يأمر الملائكة بإخراج من لا يشرك بالله شيئًا، كما في حديث أبي هريرة وأبي سعيد في الصحيحين، وعليه فما وقع في بعض روايات حديث أبي سعيد في صحيح مسلم، فيقول الله تعالى: «شفعت الملائكة وشفع النبيون» هو من باب المجاز، أي: وسطت الملائكة واستجيب دعاء النبيين بالسلامة وقبلت شهادة المؤمنين لأقوامهم بالإيمان والأعمال الصالحة، وعليه فحمل حديث الموطأ والصحيحين المصرح بأنه أعطي الشفاعة ولم يعطها أحد قبله أن يكون على ظاهره، ويدل لذلك أن حديث الصحيحين المروي عن أنس وأبي هريرة وحذيفة صريح في أن القسم الرابع من الشفاعات من خصائص النبي – صلى الله عليه وسلم -.

مقالة الخوارج والمعتزلة في الشفاعة

وقد أنكر بعض أقسام الشفاعة طوائف من المبتدعة في الدين وأول من أنكر الشفاعة الخوارج في عصر الصحابة، ففي صحيح مسلم عن يزيد الفقير قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج، ثم نخرج على الناس، فممرنا على المدينة، فإذا جابر بن عبد الله جالس إلى سارية يحدث الناس عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإذا هو قد ذكر الجهنميين (أي: أهل المعاصي الذين يخرجون من النار فيسميهم أهل الجنة الجهنميين) كما ورد في حديث عمران ابن حصين وأنس بن مالك قال يزيد: فقلت له: يا صاحب رسول الله، ما هذا الذي تحدثون، والله يقول: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران: 192]، ويقول: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا) [السجدة: 20]، فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: فهل سمعت بمقام محمد يعني قوله تعالى: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) [الإسراء: 79]، قلت: نعم، قال: فإن مقام محمد المحمود الذي يخرج به من يخرج، ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه، وإن إنكار الشفاعة مبني على أصلهم فإنهم يقولون بأن مرتكب الكبيرة مستوجب الخلود في النار إلا أن يتوب، فإن كان قد تاب فالشفاعة عبث؛ لأنها تحصيل حاصل وإن كان لم يتب فالشفاعة محال؛ لأنها لا تفيد المشفوع فيه شيئًا لوجوب خلوده في النار، وأدلتهم في ذلك ظواهر من القرآن تقتضي خلود مرتكب الكبيرة والإيمان إلى أنه كافر، وتلك الأدلة عندهم أقامت لهم أصلاً قاطعًا من أصول الاعتقاد في نظرهم واستدلوا على بطلان الشفاعة بالخصوص بقوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) [البقرة: 48]، وقوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) [البقرة: 254]؛ فلذلك تأولوا الآيات التي تقضي وجود الشفاعة لمنافاتها للأصل القاطع، وقد كان حديث جابر هذا من أعظم الحجج على بطلان مقالة الخوارج، ولذلك لما حدث به عصابة يزيد الفقير التي عزمت على الخروج على الناس تبعًا للخوارج علمت تلك العصابة صدق ذلك الصحابي الشيخ، قال يزيد الفقير: فرجعنا فوالله ما خرج منا غير رجل واحد.

ووافقهم المعتزلة على ذلك مع اختلاف الدليل، وذلك أن المعتزلة يقولون بخلود مرتكب الكبيرة في النار إن لم يتب، ولا يجوزون المغفرة له؛ لأن الإحسان للمسيء والإساءة للمحسن قبيح يستحيل صدوره من الله تعالى، وتأولوا ما ورد في الشفاعة بأنها شفاعة لرفع الدرجات في الجنة.

ومذهبنا معاشر أهل السنة أن الشفاعة ثابتة وسبيلنا في ذلك أنها جائزة عقلاً، وأن الصفح عن بعض عقاب المذنب ليس بقبيح وأدلتنا السمعية واضحة من الكتاب والسنة، ومحمل آيات نفي الشفاعة على الكفار بقرينة قوله: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ) [غافر: 18]؛ لأن اصطلاح القرآن في الظلم أنه الشرك، قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]، (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 29] ونظائر ذلك كثيرة.

واعلم أن الشفاعة التي ينكرها هؤلاء هي الأقسام الثاني والثالث والرابع ولم ينكروا الشفاعة للإراحة من هول الموقف ولا الشفاعة لرفع الدرجات كما حققه عياض رحمه الله في الإكمال.

المصدر

كتاب: “تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة” محمد الطاهر ابن عاشور، ص171-177.

اقرأ أيضا

ثمار التوحيد للفرد (1)

نواقض الإسلام (1)

مصطلحات وتعريفات “الشرك”

التعليقات غير متاحة