تعتبر السنن الإلهية كلية من كليات الدين تنضاف لكليات أخرى مثل: كلية العقيدة، وكلية الأخلاق، وكلية المقاصد، وغيرها، وهذه السنن هي عادة الله تعالى مع خلقه بحيث يقع للثاني ما وقع للأول بناء على فعله.
سُنَّة المداولة من سنن الله الربانية
إنّ من سنن الله في الاجتماع البشريّ سُنَّة المداولة، وهي قاعدة أساسيّة يجري وفقها قيام الدول وانهيارها، وتصريف الأحوال بين الشدّة والرخاء، والنصر والهزيمة، وتعاقب الأجيال، وقد أشار إليها القرآن في قول الله تعالى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران: ١٤٠].
تعريف المداولة
والمداولة: وهِيَ مَصْدَرُ داول فلَان فلَانًا الشَّيْءَ إِذَا جَعَلَهُ عِنْدَهُ دُولَةً وَدُولَةً عِنْدَ الْآخَرِ أَيْ يدوله كلّ مِنْهُمَا1(1) قطب، سيد- في ظلال القرآن، 3/1505، ابن عاشور- التحرير والتنوير، 4/100.، والمراد بها أن تتنقّل الغلبة والتمكين كلّ حين بين أطراف الناس، فتارة تكون الدولة والغلبة للمبطلين من الأعداء، وتارة تكون لأصحاب الحق، وهي ظاهرة بين الناس بصرف النظر عن المحقّين والمبطلين، فهي سُنَّة عامّة متعلّقة بجميع البشر، وإنّما المضمون لأهل الحقّ أن تكون العاقبة لهم، وإنّما الأعمال بالخواتيم2(2) الطبري- تفسير الطبري، 6/83..
سُنَّة المداولة من سنن النصر والتمكين
والآيات نزلت بعد هزيمة المسلمين في غزوة أحد، وأصابهم القرح، فأراد الله أن يعلّمهم أنّهم ليسوا بدعًا في الحياة، فالنّواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلّف، والأمور لا تمضي جزافًا، إنّما هي تتبّع هذه النواميس، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها، تكشّفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبيّنت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنّوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام، واستشرفوا خطّ السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرّد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بأسباب النصر، وفي أوّلها طاعة اللّه وطاعة الرسول3(3) صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب قَوْلِه: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ) [التوبة: 52]، ح2804..
الحكمة من سُنَّة المداولة
وقد أورد الطبريّ عند تفسيره الآية أنّ قتادة قال: “إنّه والله لولا الدُّوَل ما أوذي المؤمنون، ولكن قد يُدال للكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليعلم الله من يطيعه ممّن يعصيه، ويعلم الصادق من الكاذب”4(4) رضا، محمد رشيد- تفسير المنار، 4/148..
وعند البخاريّ عن محاورة أبي سفيان لعظيم الروم في الشام، عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟، فَزَعَمْتَ “أَنَّ الحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَةُ”5(5) قطب، سيد- في ظلال القرآن،4/2213..
واجب إدراك سُنَّة المداولة
والمداولة في واقع الدول والمجتمعات تكون مبنيّة على أعمال الفريقين المتصارعين، فتكون الغلبة لمن أدرك قانونها، وأخذ بأسبابها6(6) الطبري- تفسير الطبري، 13/ 580، الشنقيطي- أضواء البيان، 2/365، ابن عاشور- التحرير والتنوير، 3/256،، وأكمل استعداده للمواجهة، وبذل قصارى جهده وطاقته في التمكّن من وسائلها وأدواتها، وأحكم تخطيطه، وأخذ الأهبة، وأحسن بعد ذلك توكّله على ربّه، مستعينًا بالله، معتمدًا عليه، موقنًا أنّ النصر من عنده، وأنّ العاقبة للمتّقين، فعلى المؤمنين واجب إدراك سُنَّة المداولة، والأخذ بأسبابها؛ ليمكّنهم الله من الإدالة على عدوّهم.
طوفان الأقصى وسنة المداولة
والمعركة اليوم مع اليهود المحتلّين لفلسطين مفتوحة، والصراع مستمرّ، وطريق التحرير طويل، والتضحيات جسام، لكنّ العاقبة محمودة، والنتيجة مضمونة، كما قال موسى لقومه: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:١٢٨] ، أو كما قال الله لخليله محمّد -صلّى الله عليه وسلّم-: (تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَاۖ فَاصْبِرْۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود:٤٩]. فقانون المداولة حتمًا سيجري على هؤلاء اليهود الغاصبين، وستكون لنا الكرّة عليهم وسيغلبون، فالقويّ لا يبقى قويًّا أبد الدهر، والضعيف لا يبقى ضعيفًا أبد الدهر، وقد قضى الله أمر مبرما بالإدالة من بني إسرائيل، وأخبر بإنهاء إفسادهم في الأرض وتدميرهم والقضاء عليهم، وتكرار هذا التدمير مرتين؛ لتكرر أسبابه من أفعالهم.
وإن عدتم عدنا
وأنذرهم بمثله كلما عادوا إلى الإفساد في الأرض، يؤكد على أنها سُنَّة اللّه الجارية فيهم، ولن تجد لسُنَّة الله تحويلا7(7) قطب، سيد، في ظلال القرآن، 3/، 1501، ابن عاشور- التحرير والتنوير، 9/327-328. ، فقال سبحانه في سورة الإسراء: (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا) [الإسراء: 4-5]، وقوله: (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ، وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) [الإسراء: 7]، وقوله: (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) [الإسراء: 104]، وقد عادوا اليوم مجددا إلى الفساد في الأرض المقدسة، ومحاربة الحق، وممارسة الظلم والبغي، وارتكاب الجرائم الموبقة بحق الآمنين وأصحاب الأرض، فهيئ الله طائفة من المجاهدين من أبناء فلسطين للوقوف في وجه فسادهم، ومقاومة عدوانهم، ومدافعة طغيانهم، تحقيقا لسُنَّة الله فيهم بإساءة وجوههم وتتبير علوهم الكبير في هذا العصر، وإنهاء إفسادهم عما قريب بإذن الله.
الهوامش
(1) قطب، سيد- في ظلال القرآن، 3/1505، ابن عاشور- التحرير والتنوير، 4/100.
(2) الطبري- تفسير الطبري، 6/83.
(3) صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب قَوْلِه: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ) [التوبة: 52]، ح2804.
(4) رضا، محمد رشيد- تفسير المنار، 4/148.
(5) قطب، سيد- في ظلال القرآن،4/2213.
(6) الطبري- تفسير الطبري، 13/ 580، الشنقيطي- أضواء البيان، 2/365، ابن عاشور- التحرير والتنوير، 3/256،
(7) قطب، سيد، في ظلال القرآن، 3/، 1501، ابن عاشور- التحرير والتنوير، 9/327-328.
المصدر
موقع هيئة علماء فلسطين، “معركة طوفان الأقصى في ضوء السنن الإلهيّة”، د. مجدي قويدر.
اقرأ أيضا
السنن الإلهية في معركة طوفان الأقصى
من سنن النصر: “وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ”