أجرى الله سننه تعمل بمقتضى حكمته وعلمه، وعزته وحلمه؛ ومنها سنة الابتلاء، وعلى المؤمن استيعابها فهي لا تعجل لعجلته، ليكون واثق الخطو في طريقه بهذا الدين الى ربه.
لا تنخدع
مما أنعم الله تعالى به علينا أن علمنا تعالى من سننه، وأن من هذه السنن “سنة الإملاء والاستدراج لعدوه”؛ حتى لا يُخدع مؤمن ولا تهِن عزيمته ولا يجهل توجه جريان الأحداث ولا ينخدع بانتفاشة ظاهرة وتمكن مؤقت لأعداء الله؛ بل يثق في ربه وينتظر وصول الحق الى محلّه من التمكين والعلو والظهور، وينتظر وصول الباطل الى الهاوية التي تليق به في الوقت والمحل الذي يعلمه الله تعالى..
وكذلك لا يأمن كافر؛ فإن أمِن الى حاله مع كفره فهذا جزء من جريان تلك السنة التي أخبر بها رب العالمين سبحانه.
إخبار القرآن بهذه السنة
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾ (الأنعام: 44).
﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَل لَّا يَشْعُرُونَ﴾ (المؤمنين: 54-56).
﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ (القلم: 44-45).
﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (آل عمران: 178).
يعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية فيقول:
“وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور، والشبهة التي تجول في بعض القلوب، والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح، وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق متروكين لا يأخذهم العذاب، ممتَّعين في ظاهر الأمر بالقوة والسلطة والمال والجاه! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس مَن حولهم؛ ومما يجعل ضِعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية:
يحسبون أن الله ـ حاشاه ـ يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان، فيملي له ويرخي له العنان!
أو يحسبون أن الله سبحانه لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل، فيدَع للباطل أن يحطّم الحق ولا يتدخل لنصرته!
أو يحسبون أن هذا الباطل حق، وإلا فَلِمَ تركه الله ينمو ويكبُر ويغلب؟!
أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض، وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر! ثم.. يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين يلجّون في عتوّهم، ويسارعون في كفرهم، ويَلِجّون في طغيانهم، ويظنون أن الأمر قد استقام لهم! وأنْ ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم.
وهذا كله وهْمٌ باطل، وظنٌّ بالله غير الحق، والأمر ليس كذلك، وهاهو ذا الله سبحانه يحذّر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن؛ إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه، وإذا كان يعطيهم حظًّا في الدنيا، يستمتعون به ويلْهون فيه.. إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء فإنما هي الفتنة؛ وإنما هو الكيد المتين، وإنما هو الاستدراج البعيد! ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾.
ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة بالابتلاء الموقِظ لابتلاهم؛ ولكنه لا يريد بهم خيرًا وقد اشتروا الكفر بالإيمان وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه! فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة ـ غمرة النعمة والسلطان ـ بالابتلاء، والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء.
وهكذا يتكشف أن “الابتلاء” من الله نعمة لا تصيب إلا مَن يريد له الله به الخير؛ فإذا أصابت أولياءه فإنما تصيبهم لخير يريده الله لهم ـ ولو وقع الابتلاء مترتبًا على تصرفات هؤلاء الأولياء ـ فهناك الحكمة المغيبة والتدبير اللطيف، وفضل الله على أوليائه المؤمنين، وهكذا تستقر القلوب وتطمئن، وتستقر الحقائق الأصيلة البسيطة في التصور الإسلامي الواضح المستقيم”. (1«في ظلال القرآن» (1/524، 525))
[للمزيد: سُنة الله في المدافعة بين الحق والباطل]
من ثمرات العلم بهذه السنة
للعلم بهذه السنة آثار في قلب المؤمن ونظرته للأمور ومواجهته للباطل وفي سيره الى ربه تعالى؛ ومنها:
الثمرة الأولى: زيادة العلم بالله تعالى
زيادة العلم بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته وآثارها ومقتضياتها؛ لأن سنة الإملاء وما يعقبها من العقوبة والانتقام من الظالمين تُطلِع العبد على قوة الله عز وجل وعزته وحكمته ولطفه وقهره وسعة علمه وحلمه، وبهذه المعرفة تزداد محبة الله عز وجل في القلوب ويزداد بذلك المؤمنون إيمانًا.
الثمرة الثانية: الخوف من عقوبة الله
الخوف من الله عز وجل وعقوبته ومكره بمن عصاه وخالف أمره، وهذا الخوف من الله عز وجل إنما ينشأ من شعور المسلم حين يعصي ربه، وهو في رغد من العيش بالخوف من أن يكون هذا من باب الإملاء والاستدراج، الذي تعقبه العقوبة الشديدة إما في الدنيا أو في الآخرة.
الثمرة الثالثة: حثُّ السعي لإصلاح ما أفسده العصاة
وهي نتيجة للثمرة السابقة؛ حيث إن العالِمِين بهذه السنة من الدعاة والمصلحين حينما يرون أن الله عز وجل يسبغ نعمه على عباده وهم يعصونه فإنهم لخوفهم من كون هذا إملاءً واستدراجًا يسعون في إصلاح ما أفسده الناس، ويحذّرونهم من عاقبة المعاصي، فيتضاعف جهدهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الخير، ومحاربة الفساد، حتى لا تَحلّ بالناس عقوبة الله عز وجل بغتة وهم لا يشعرون.
[للمزيد: سُنة الله عز وجل في العصاة والمكذبين]
الثمرة الرابعة: اطمئنان قلب المؤمن الى ربه
الاطمئنان إلى وعد الله عز وجل وحكمته وعلمه، الذي يثمر في قلب المؤمن العالمِ بهذه السنة حسن ظنه بربه وزياة معرفته بكمال علمه وحكمته في جميع أفعاله، فهو سبحانه وإن أملى للظالمين مدة من الزمن طالت أو قصرت، فإنه له سبحانه الحكمة في ذلك..
وإن الجهل بهذه السنة هو الذي ينشأ عنه الشكوك في وعد الله سبحانه، وسوء الظن به وأفعاله سبحانه، أو اليأس من نصره..
فمثلًا حين يرى الجاهلون بهذه السنة أحداث هذا الزمان وما فيه من الظلم، ثم تظل الجهة التي قامت بالظلم ومارسته وتسلَّطت على البلاد والعباد، وظلمت الناس في أنفسهم، وفي أرزاقهم، وفي حقوقهم، وفي أعراضهم، تظل هذه الجهة الظالمة ـ لحقبة ما ـ ممكنة في الأرض، منهمكة في قهرها للناس، وتسلطها وطغيانها، فحينئذ قد يشك بعض الناس ـ أصحاب النظر التقصير في هذه السنن ـ ويقولون: أين السنة الإلهية من هذا الظلم الفادح الواقع الذي لم تأت عقوبته؟
وحين تقع عقوبة هذا الظلم بعد زمان يطول أو يقصر ـ الله تعالى أعلم به، فهو مقدّر الأقدار سبحانه، بعلمه وحكمته وعزته ـ فَلَرُبَّما أدرك بعض الناس هذه السنة ووعوا أن هذه العقوبة نتيجة ظلم قديم يتذكرونه، ويبقى آخرون على جهلهم أو تجاهلهم لهذه السنة، محتجين بواقع آخر ظالم لم تظهر عليه عاقبة السُنة بعْد؛ فإذا قلت لهم اليوم مثلًا: إن ما حصل لهذه الجهة أو تلك بسبب الظلم الذي حصل قبل عشر أو عشرين أو ثلاثين أو مائة سنة، قالوا: لو كان هذا كذلك، فلماذا تجد المكان الآخر فيه ظلم، ومع ذلك لم تَحِقَّ عليه السنة الإلهية، ولم يؤاخذه الله تعالى بظلمه؟!
﴿أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ (الشعراء: 205-207).
الثمرة الخامسة: التلازم بين سُنّتين
وهي إدراك حقيقة مهمة تظهر؛ وهي التلازم والتزامن بين سُنّتي “الابتلاء” للمؤمنين و”الإملاء” للكافرين والظالمين والمتسلطين؛ أي أنَّ كلا السنتين تعملان في وقت واحد، ففي الوقت الذي يبتلي الله عز وجل عباده المؤمنين ليطهّرهم ويمحِّصهم ويميز فيه المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن هذا يتزامن مع إملاء الله عز وجل للظالمين المستكبرين واستدراجهم، ليزدادوا إثما، ويسارعوا إلى نهايتهم المحتومة، التي فيها هلاكهم ومحْقُهم، والتي تَحِقُ عليهم حينما تؤتي سنة الابتلاء أُكُلها، وتظهر حكمة الله عز وجل منها، ويتميز الصف المؤمن الصادق الذي يستحق أن ينصره الله عز وجل، ويَمحق من أجله الكافرين الظالمين، ويورثهم الأرض من بعدهم.
وقبل أن تحقق سنة الابتلاء أثرها من التمحيص والتمييز؛ فإن سنة الإملاء للظالمين قد تطول، ويتأخر محقهم وأخذهم، قال الله عز وجل: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران: 141).
ولعل في هذه الآية ما يُفهم منه أن المَحْقَ للكافرين بعد الإملاء لهم لا يكون إلا بعد تمحيص المؤمنين وتطهير صفوفهم من الخبث.
ولعل أيضًا في مجيء الآية التي فيها تمييز الخبيث من الطيب ـ بالابتلاء ـ بعد الآية التي فيها ذكْر الإملاء للكافرين في سورة آل عمران ما يُستأنس به، ويُستدل على ما سبق ذكره من ظهور الحكمة في التلازم والتزامن بين سنتي الابتلاء والإملاء.
[للمزيد: سُنة الابتلاء للمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين]
خوف ورجاء
من تدبر سنة الله تعالى في الإملاء للكافرين والظالمين لم يخْلُ قلبه من الخوف من أي تقصير ومعصية، كما لا يخلو قلبه من الثقة بوعد الله والثقة في حكمته واليقين بدينه وطريقه، كما لا يخلو من وجوب التسليم لله الذي يعلم مواقيت وقوع الأقدار واستقرار الأمور ﴿لكل نبأ مستقر﴾.
ومن تدبر هذه السُنة لم يخْلُ من الاستعلاء على الكفر والاستخفاف بالباطل، وهو يرى عاقبته ماثلةً قبل أن تقع، ويرى ناصيته مأخوذة بيد الله.
ومن تدبر هذه السنة لم يجد موقفا أكثر اطمئنانا من مثل هذا الموقف «وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت» فأقوم بالعهد الذي أمرتَ، وأنا مصدّق بالوعد الذي وعدتَ، متطلع بنظري الى ما أعددت، مرهونةٌ ناصيتي بما قضيت، ماضٍ في طريقي بما أنعمت وأعنْتَ.. والله الهادي الى صراط مستقيم.
……………………………………….
هوامش:
- «في ظلال القرآن» (1/524، 525).