يسعى الإسلام لإحياء كرامة الانسان، وتحقيق مشاركة الأمة في التغيير، ومشاركتها بعد التمكين، بينما وسيلة الاستعمار الحديث هو السلطات العلمانية المستبدة.

مقدمة

يرفع الاسلام من كرامة “الإنسان” ومن شأنه. وعندما يأمره بالطاعة لحكامه فلا يطلب منه المذلة بل لتسير حياة “المجتمع” و”الأمة” على استقامة، بشرط ألا تُسحق كرامة الأفراد ولا تُستذل الأمة. ومن لم يدرك هذا اختلطت عليهم أحكام الشريعة وقيمها.

وفي الجانب الآخر أراد الغرب الصليبي، بعد أن حطّم قوى كثيرة في الأمة إبّان فترة الاستعمار وسرق ما أراد من الثروات، وصنع النخبة التي تخلفه؛ أراد أن يوفر جنده وماله ليجني ثمرة قرنين من الاستعمار؛ فعمد الى أداة “الاستبداد” ليصنع بنخبته في الأمة تغييرات اجتماعية وقيمية جذرية تؤمّنه من مخاوفه من إحياء هذا الدين في نفوس أبنائه وإحياء فرائضه وحضارته ودوره التاريخي.

إحياء واجب

وإن كان هذا ما يسعى اليه العدو لترسيخه، حيث يشوّه نفوس المحكومين ويتلف خاماتهم البشرية، ويُقصيهم عن المشاركة في أمورهم العامة من خلال شدة السطوة وقوة اليد على الناس؛ فيبتعد الناس عن الأمور العامة فتسقط أمور “الأمة” في يد فئة محدودة، مصنوعة بيد الغرب تحت مسمى “النخبة” يسهل التلاعب بها؛ تفترق أهدافها عن الأمة وتفترق قيمها وعقائدها، وأجندتها “مخوفة” إذ يضعها لهم العدو مستهدفا بها “دين” الأمة وهويتها.

لا يبالي أمثال هؤلاء بما حطموا من الأمة وبما خسرت من مقدراتها وبما سرقوا من أموالها وبما أهدروا من عقولها ومستقبلها.

وإذا كانت الشورى أمرا شرعيا واجبا ذكره الله تعالى بين الصلاة والزكاة؛ فيجب إحياؤها ممارسةً وتأصيلا، في هيئة جماعية من أجل تحقيق أمرا شرعيا، وتحقيق كرامة الأمة، وقطع الطريق على العدو وغلق مداخله.

أخلاق محطِمة جاء بها العدو

بعد سقوط دولة “الخلافة” العثمانية (1لسنا هنا نؤرخ لأحداث التاريخ الإسلامي وإنما نرسم خطوطاً عريضة لظواهر تاريخية رئيسية كان لها الأثر الأكبر في تغييب مشاركة الأمة في التغيير) ـ التي كان الحكم فيها في النهاية داخل دائرة الإسلام، مع شيء من الشذوذ أو المفارقة عن خط الخلافة الراشدة ـ بدأت الأمة الإسلامية حقبة تاريخية جديدة هي حقبة “الاستعمار المباشر”، والتي حرص الاستعمار فيها علي صرف الأمة عن الجهاد، وتلهيتها بشتى الوسائل لكي لا تتجه نحوه، ولا تلتفت إليه.

ثم قام الاستعمار بنشر أخلاقيات “الضعف” و”الانسحاب” و”الخوف”، وتقوية إحساس الفرد بـ “فرديته”، و”تغييب الرابطة الاجتماعية” التي تشدهّ إلي الآخرين من أفراد الأمة، فكان من نتائج ذلك أن بدأت الأمة تعاني من سيئات “الروح الانفرادية” التي تجعل الأمة تقف في معركة الظلم والعدل موقف “المتفرج” الذي لا يدعم المعركة، ولا يحارب فيها، بل يكتفي بملاحقتها بنظراته التي تنتقل بين المنتصر والمهزوم في حماس ساذج مهزوم !!

لقد كان أشقي ما شقيت به الأمة الإسلامية في عهود الاستعمار هو “الخضوع” الذي أصبح عادة للأفراد حتى رأوا فيه الطريق الوحيد إلي السلامة، وما علموا أن السلامة الكاملة كل الكمال ما سيطرت على شئ إلا انتهت به إلي الموت، وأن الجسم الميت هو وحده الذي لا يقاوم.

ذلك “أن الفرد بادئ ذي بدء يخضع للباطل ويستسلم له، وقلبه غير مطمئن به، ثم يأخذ قلبه في الاستئناس به يوماً بعد يوم حتى يطمئن به، ويحسّ من نفسه ميلاً وتشوقاً إليه، وهكذا يتدرج في الركون إليه والاستئناس به إلي أن يكون عوناً له ومؤازِراً في توطيد دعائمه، حتى يأتي عليه اليوم الذي لا يضن فيه ببذل النفس والمال في سبيل إقامة صرح الباطل، والصد عن الحق”. (2مستفاد من كتاب “الجهاد في سبيل” ـ أبو الأعلى المردودي)

وإذا بلغ الفرد هذا الحد، فلا فرق في الحقيقة بينه وبين الميّت؟!

لقد حرص الاستعمار علي إبقاء الشعوب ساكنة هادئة تنعم في (الجهالة والخضوع) بالخيرات التي يتفضل بها السادة على عبيدهم؛ حتى إذا بدأت النذُر بأن السماء قد تمطر ناراً أو دماراً على أعداء الله، بأيدي أولياء الله عندها بدأ “الاستعمار الغربي في (لعبة) سياسية جديدة هي (الانقلابات العسكرية) التي يقوم بها ضباط اشتهروا بهذه الصناعة، ثم يظهرون في صورة (الأبطال) و(المحررين) الذين هبطوا من السماء لإنقاذ شعوبهم من الخضوع والذل، وإخراجهم إلي العزة والكرامة”..!! (3مستفاد من كتاب “الجهاد الأفغاني ودلالاته” ـ محمد قطب)

فإذا أسلمت الأمة قيادها لهؤلاء (العملاء) بدأت حكوماتهم في عزل جماهير الأمة عن “المشاركة” في أداء مهمات الحكم، ومارست عليها (استبداداً) سياسياً، فصادرت حرياتها وحقها في اختيار حكامها، بل وحقها في بناء حياتها؛ ليصبح الحُكم في النهاية هو أن تمارس (فئة) من البشر التسلط والتحكّم في جماهير الأمة مستخدمة في ذلك إعلامها، وشرطتها، وأجهزتها المختلفة.

الاستبداد المُفسد

وهكذا عاد الغرب الاستعماري ليخترق الأمة الإسلامية عبر الحكومات العميلة التي تُغْلق سبل المشاركة في وجه جماهير الأمة، فتحدث ظواهر الاغتراب، ويقِلّ الانتماء، وتنهار قوى الأمة، وتصبح بلا أثر في الأحداث، ولا تستطيع إيقاف (سرَطانات) الحكومات الاستبدادية التي تسير في طريق التخلف والفرقة والضعف.

إن الحكومات والأنظمة العلمانية العميلة هي في مجملها نظم سلطوية يحل فيها (الحاكم) محل (الأمة)، وتكون الدولة فيها هي منشئة الكيان الاجتماعي، والمتحكمة في الوضع الاقتصادي، والنظام العسكري وغيره، ولا تسمح هذه الحكومات للأمة بأدنى مشاركة فيدفع ذلك أفراد الأمة إلى اليأس من الإصلاح السياسي والاجتماعي؛ فتكون النتيجة هي تقوقع الأفراد في دائرة الهموم الفردية، وشقاء الأمة بحكامها الذين تعوّدت على الخضوع لأوامرهم، مهما كانت هذه الأوامر، كما يدق الجرس على الفور وراء ضغط الزر واتصال التيار !!

ولا شك أن هذا الواقع الذي تعيشه الأمة يفرض على الحركة الإسلامية أن تكون (الشورى) مقوّماً في طبيعتها، وتكوين صفوفها الأساسية، وأن تبقى عندها نهجاً مبدئياً، وفعلاً إيجابياً،  وأحد شروط الحياة من البداية للنهاية.. شورى حقيقية تبدأ فيها الحركة الإسلامية بنفسها وبين أفرادها، قبل أن تستخدمها كشعار في الصراع السياسي مع الخصوم.. ذلك أن هذه الشورى هي التي تربِّي الأفراد علي روح الإسلام التي ترفض الاستبداد، ولا تسمح للفرد أو الأقلية أن تستبد بالجماهير وتُغَلب مصالحها الخاصة على المصالح العامة للأمة الإسلامية.

إن الحركة الإسلامية الطليعة هي التي تدرك أن الاعتماد على سطوة الحكم ليس هو السبيل إلى إقامة الحكم الإسلامي، وإنما لا بد من:

“منهج بطيء وطويل المدى، يستهدف القاعدة لا القمة، ويبدأ من غرس العقيدة من جديد، والتربية الإسلامية الأخلاقية” (4لماذا أعدموني ؟ ـ سيد قطب ص 69) التي تُخْرج الإنسان الجديد والأمة الجديدة، التي هي الأساس في حركة التغيير، وفي بناء الحكم الإسلامي بعد التغيير.

دور الأمة في التغيير، ودورها في الحكم

إن المواجهة مع أعداء الله مواجهة عالمية، والحكم الإسلامي الذي نُريد إقامته سيكون مستهدَفاً من كفار الأرض جميعاً، ولذلك فإنه لا يكفي:

“الضغط الشعبي لإقامة الحكم الإسلامي إن لم يكن (الشعب) الذي يمارس الضغط مستعدّاً للجهاد، ومستعداً لخوض معركة طويلة الأمد، يصبر فيها علي الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات كما بيّن الله في كتابه المنزّل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ *  وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة 153-155). (5واقعنا المعاصر ـ محمد قطب ص 481 بتصرف)

وإذن فلابد من وجود “عقيدة” تدين بها الأمة، و”قضية” تجنّد الجماهير نفسها لها، و”غاية” تدفع الأفراد إلى التضحية في سبيلها.. وبغير هذه “العقيدة” و”القضية” و”الغاية” فإن غاشية واحدة من غواشي الفتن ستثير الوهن، وتنشر التمرد في صفوف جماهير الأمة، فتخرج تلك الجماهير التي طلبت بإقامة الحكم الإسلامي لتطالب بالرخاء والحرية، وتهتف بسقوط الكهنوت والرجعية..!!

إن الحركة الإسلامية الصحيحة لا تتحرك كـ (بديل) للأمة أو بالوكالة عنها، ولكنها تتحرك كـ (طليعة) لجماهير الأمة، وترفع غشاوة التضليل عن عيونها، وترفع العقبات من طريقها، لتنطلق تلك الجماهير في طريق التغيير؛ فالحركة الإسلامية تقوم بدور المُبَلّغ والداعي، وتضحّي من أجل ذلك ومن أجل توعية جماهير الأمة.. أمّا بعد ذلك فإن الأمة هي التي تقوم بالتغيير، وهي التي تبني الحكم الإسلامي.

الخلاصة

إن “النظام الإسلامي” هو النظام الذي يسمح بمشاركة الأمة في التغيير وفي الحكم، ويعدّ مبدأ “الشورى” أصلاً من أصول هذا النظام، ولذلك يختلف هذا النظام اختلافاً كلياً وجذرياً مع كل النظم الاستبدادية التي يكون الحكم فيها فردياً تستقر فيه سلطة الأمر والنهي بين يدي حاكم فرد، ويغيب فيه دور الأمة في التغيير والحكم.

إن “الاستبداد السياسي” الذي هو قرين كل نظام سلطوي لا يتحقق بمجرد تسلط فرد أو حزب أو طبقة على الأمة، وإنما هو في الحقيقة ينشأ في رحم الأمة عبر أخلاقيات “الضعف” و”الخوف”، وممارسات “الانعزال في دائرة الهموم الفردية”، وبفعل ما يسري في الأنفس من “استعداد للخضوع” و”قبول للاستعداد”؛ ومن ثم فإن أخطر ما يتهدّد أمة ليس تسلط المستبدين عليها، بل (قابلية) أفرادها للاستبداد.

إن الطلائع المؤمنة ليست بديلة عن جماهير الأمة، ولكنها ذراع هذه الجماهير، وقلبها النابض، وعقلها المفكّر..

وهي ترى أهداف الإسلام وتسلك السبيل القاصد إلي تحقيقها في واقع الأمة، ولكنها في ذات الوقت لا تغفل عن “دور الأمة” في الوصول إلي هذه الأهداف، وتدرك أن (الأمة) لا بد أن تكون (حاضرة) و (شاهدة) في ساحة المواجهة مع أعداء الإسلام.

الهوامش

  1. لسنا هنا نؤرخ لأحداث التاريخ الإسلامي وإنما نرسم خطوطاً عريضة لظواهر تاريخية رئيسية كان لها الأثر الأكبر في تغييب مشاركة الأمة في التغيير.
  2. مستفاد من كتاب “الجهاد في سبيل” ـ أبو الأعلى المردودي.
  3. مستفاد من كتاب “الجهاد الأفغاني ودلالاته” ـ محمد قطب.
  4. لماذا أعدموني ؟ ـ سيد قطب ص 69.
  5. واقعنا المعاصر ـ محمد قطب ص 481 بتصرف.

المصدر:

  • راجع كتاب “الأمة الإسلامية من الريادة الى التبعية” الدكتور محمد محمد بدري.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة