إن مسؤولية العلماء ليست محصورة بقُطر أو ببلد؛ بل ينبغي أن يعيشوا ويعايشوا هموم الأمة، ويناصروا المسلمين، ويردّوا على أعدائهم ويرفعوا الظلم عنهم بما يستطيعون، لا يخشون في ذلك أحداً إلا الله سبحانه، وإن دعوتهم ورسالتهم لا ينبغي أن تحصرها الأقطار ولا الجنسيات؛ لا سيما في أيام الفتن وظهور البدع وانتشار الفساد والظلم والعدوان.

يدور المقال حول أحد الأئمة الكبار الذين كان لهم دور بارز في تهيئة الأمة لتحرير بيت المقدس، وهذا الإمام يمكن أن يعد نموذجا يحتذى به من قبل أهل العلم في هذا الزمن من أجل قيامهم بدورهم في واجب تحرير بيت المقدس من الصهاينة المغتصبين…

ناصر السُّنة ابن عساكر

وإمامنا هو الإمامُ العلَّامةُ، الحافِظُ الكبيرُ المجَوِّد، مُحَدِّثُ الشام، ثِقةُ الدين، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين المعروف بابن عساكر، الدمشقي الشافعي صاحب (تاريخ دمشق). من أعيانِ الفُقَهاء الشافعيَّة، ومُحَدِّث الشام في وقته. لقب بناصر السُّنة، وصدر الحُفَّاظ، وثقة الدولة أما لقبه ابن عساكر؛ فيقول الإمام السُّبكي في الطبقات: ولا نعلم أحداً من جدوده يسمّى عساكر، وإنما اُشتهر بذلك. ولد في سنة تسع وتسعين وأربعمائة للهجرة.

كلام العلماء في بيان فضل الإمام الحافظ ابن عساكر 

قول تاج الدين السبكي: هو الشيخ الإمام، ناصر السنة وخادمها وقامع جند الشيطان بعساكر اجتهاده وهادمُها، إمام أهل الحديث في زمانه وختام الجهابذة الحفاظ، ولا ينكر أحد منه مكانة مكانه، محط رحال الطالبين.

وقال الإمام  النووي: هو حافظ الشام بل هو حافظ الدنيا الإمام مطلقا الثقة الثبت.

وقد كان للبيئة التي نشأ فيها الحافظ ابن عساكر أثر كبير في اتجاهه نحو العلم ونبوغه فيه فقد نبت في بيت قضاء وحديث وفقه وكان رجال هذا البيت من كبار علماء دمشق وقضاتها فما رأى ابن عساكر منذ نشأته غير العلماء وما وعى غير العلم.

قال عنه الإمام أبو المواهب: لم أر مثله ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر، والاعتكاف في شهر رمضان، وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك، وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخَطابة، وأباها بعد أن عرضت عليه وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم.

وقد قال الحافظ ابن عساكر لتلميذه أبي المواهب: لما عزمت على التحديث والله المطلع أني ما حملني على ذلك حب الرياسة والتقدم بل قلت: متى أروي كل ما سمعت؟ وأي فائدة من كوني أخلُّفه صحائف؟ فاستخرت الله، واستأذنتُ أعيان شيوخي ورؤساء البلد وطُفت عليهم فكلهم قالوا: من أحق بهذا منك؟ فشرعت منذ ثلاث وثلاثين وخمسمئة.

أما بالنسبة لشيوخه الذين أخذ عنهم العلم فقد قال الذهبي: وعدد شيوخه في معجمه ألف وثلاثمائة شيخ، وبضع وثمانون امرأة.

الدور العلمي للإمام الحافظ ابن عساكر في التهيئة لتحرير بيت المقدس

ويعد الحافظ ابن عساكر من أهم العلماء الذين هيئوا الأمة لتحرير بيت المقدس، حيث كان له دور علمي منهجي وكان دوره مكملا لدور الملك العادل نور الدين محمود بالإضافة للسلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، وقد بينت لنا كتب التراجم هذا الدور البارز لهذا الإمام الفذ، ويمكن أن نلخص الدور العلمي للإمام الحافظ ابن عساكر في التهيئة لتحرير بيت المقدس بأربعة محاور رئيسة:

يتمثل المحور الأول بالدور التعليمي

حيث بنى الملك العادل نور الدين محمود دار الحديث للحافظ ابن عساكر، وهي أكبر دار بنيت في الإسلام إلى ذلك الوقت لتعليم الحديث الشريف، وقد كان الملك العادل بالإضافة إلى السلطان صلاح الدين ممن يحضرون دروسه في هذه الدار، وهذا يؤكد على ضرورة بث العلم الشرعي وأثر المدارس العلمية والمعاهد الشرعية في معركة الجهاد والتحرير.

أما المحور الثاني فيتمثل بالتأصيل لفقه الجهاد

والحث على جهاد الصليبيين والمحتلين وبيان فضل الهجرة والشهادة ومن الكتب التي صنفها في هذا المحور:

كتاب الاجتهاد في إقامة فرض الجهاد وهو أربعون حديثا وهو الأربعون في الحث على الجهاد.

قال الحافظ ابن عساكر في مقدمة كتاب الأربعون في الحث على الجهاد في بيان سبب تأليفه لهذا الكتاب وهو من أفضل ما انتقي في هذا الباب: (فَإِنَّ الْمَلِكَ الْعَادِلَ الزَّاهِدَ الْمُجَاهِدَ الْمُرَابِطَ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِلسَّدَادِ وَأَعَانَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْعباد وأمده من فَضله بِصَالح الإمداد وأعز نَصْرَهُ بِجُنْدِهِ وَشَدَّ أَزْرَهُ بِالأَمْدَادِ أَحبَّ أَنْ أَجْمَعَ لَهُ أَرْبَعِينَ حَدِيثًا فِي الْجِهَادِ تَكُونُ وَاضِحَةَ الْمَتْنِ مُتَّصِلَةَ الإِسْنَادِ تَحْرِيضًا لِلْمُجَاهِدِينَ الأَجْلادِ وَأُولِي الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ وَالسَّوَاعِدِ الشِّدَادِ وَذَوِي الْمُرْهَفَاتِ الْمَاضِيَةِ وَالأَسِنَّةِ الْحِدَادِ لِيَكُونَ لَهُمْ تَحْضِيضًا عَلَى الصِّدْقِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَالْجِلادِ وَتَحْرِيضًا عَلَى قَلْعِ ذَوِي الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ الَّذِينَ سَعَوْا بِكُفْرِهِمْ فِي الْبِلادِ وَأَكْثَرُوا فِيهَا مِنَ الْبَغْيِ وَالْفَسَادِ صَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّنَا سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّهُ لَبِالْمِرْصَادِ فَسَارَعْتُ إِلَى امْتِثَالِ مَا الْتُمِسَ مِنَ الْمُرَادِ وَجَمَعْتُ لَهُ مَا يَرْتَضِيهِ أَهْلُ الْمِعْرِفَةِ وَالانْتِقَادِ وَاجْتَهَدْتُ فِي جَمْعِهَا غَايَةَ الاجْتِهَادِ رَجَاءَ أَنْ يَحْصُلَ لِي أَجْرُ التَّبْصِيرِ وَالإِرْشَادِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ فِي الإِصْدَارِ وَالإِيرَادِ وَالْمُسَدِّدُ فِي الأَقْوَالِ فِي الإِسْهَابِ وَالاقْتِصَادِ)

وقد صنف في هذا المحور مصنفات عديدة أخرى منها:

الزهادة في فضل الشهادة

الاقتداء بالصادق في حفر الخندق

ثواب الصبر على المصاب بالولد

أما المحور الثالث فقد تمثل بتعزيز انتماء المسلمين لبلادهم الإسلامية

وبيان أهمية تلك المدن والبلدان وإبراز حضارتها وذلك من أجل حث المسلمين لضرورة الدفاع عنها وحمايتها والجهاد لتخليصها، فقد أدرك الحافظ ابن عساكر خطة الصليبيين الخطيرة والتي تتمثل في استلاب حضارة المدن والبلدان التي احتلوها وتغيير هويتها، حيث ألف العديد من الكتب التي تبين فضائل البلدان والتي فيها ذكر لعلمائها ومحدثيها ومن ذلك: ” فضائل بيت المقدس”، وفضل مكة وفضل المدينة و”فضل عسقلان” و”فضائل المدن الإسلامية” فضائل الربوة والنيرب، وجزء في مقام إبراهيم وبرزة، جزء كفر سوسة، وجزء أهل كفر بطنة، وفضل مقام إبراهيم، تاريخ المزة، (معجم القرى والأمصار)، مسند أهل داريا. ((رواية أهل صنعاء)، (أهل الحمريين)، (فذايا)، (بيت قوفا)، (البلاط)، (قبر سعد)، (جسرين)، (كفر بطنا)، (حرستا)، (دوما مع مسرابا)، (بيت سوا)، (جركان)، (جديا وطرميس)، (زملكا)، (جوبر)، (بيت لهيا)،) (يعقوبا).

تاريخ دمشق

وبتشجيع من الملك العادل نور الدين محمود ألف الحافظ ابن عساكر أكبر مصنف عن تاريخ دمشق، وقد جاء في مقدمة هذا الكتاب: ورقى خبر جمعي له إلى حضرة الملك الكامل العادل الزاهد المجاهد المرابط الهمام، أبي القاسم محمود بن زنكي… وبلغني تشوقه إلى الاستنجاز والاستتمام ليُلم بمطالعة ما تيسر منه بعض الإلمام، فراجعت العمل فيه راجياً الظفر بالتمام، شاكراً لما ظهر منه من حسن الاهتمام.

ويعد هذا العمل من الآثار العلمية المجيدة التي تبناها الملك نور الدين محمود ، وبذلك كان ابن عساكر أحد أولئك الذين استخدموا التراث كوسيلة لتحريض البلاد الإسلامية للوقوف في وجه الخطر الذي يحيق بها.

قال فيه الأستاذ محمد كرد علي: “يقع في ثمانين مجلدة، لم يترك شيئاً عن دمشق إلا وذكره فيه، ولا نعرف مدينة من مدن الدنيا حظيت بمثله، ففي المجلدتين الأولى والثانية تكلم عن تخطيط دمشق وسورها وأبوابها وخططها، وأنهارها، وتخطيطها، وقد ترجم ابن عساكر في بقية المجلدات لكل من يصح أن يترجم له من أهل دمشق، وخلفائها، وأمرائها، وحكامها، وقضاتها، وعلمائها، وأدبائها، منذ الفتح الإسلامي وإلى زمانه”.

ولم يقدم لنا الحافظ ابن عساكر تاريخا دمشقيا ولا تاريخا شاميا فحسب وإنما قدم تاريخا حضاريا لهذه البلاد كلها التي انتشر فيها الاسلام وسادت فيها العربية وانساحت فيها مهاجرة العرب المسلمين بين أقصى الشرق فيما وراء النهر وبين أطراف المحيط.

وإن نظرة سريعة للأحاديث التي ذكرها ابن عساكر نلاحظ أنه اختارها بدقة كبيرة من بين الأحاديث الكثيرة التي تطرقت إلى الجهاد.

أما المحور الرابع فيتمثل بوضع الكتب والمصنفات المختصة بالتحصين من خطر المذاهب الباطنية المنحرفة:

الأربعون في مناقب أمهات المؤمنين، فضل الصديق، فضل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، الأحاديث المتخيرة في فضائل العشرة.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث على الجهاد

ولم يقتصر دور هذا الإمام المجاهد الحافظ على مساندة الملك العادل نور الدين محمود بل كان له دور كبير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي توجيه السلطة وحثها على الجهاد وعدم إعذارها بالتقصير أو ترك الجهاد، ومن ذلك شعره لما أعفى الملك نور الدين أهل الشام من تقديم الخشب لبناء المنبر وللجهاد:

لمَّـا سمحتَ لأهل الشَّام بالخَشَبِ .. عوَّضْتَ مِصـرَ بما فيها من النَّشبِ

وإن بذَلْتَ لفتح القُدس مُحتَسِبــــــــاً .. للأجر جُوزيتَ خيراً غير محتسِبِ

ولست تُعذر في تَرْك الجِهَــادِ وقد .. أصبَحْتَ تملكُ من مِصرَ إلى حَلَبِ

وفاة الإمام ابن عساكر

ظل الإمام محل تقدير الناس والولاة، فكان يحضر مجالسه نور الدين محمود سلطان دمشق الذي قربه وبنى له “دار السنة” وكان “صلاح الدين الأيوبي”  يُجلّه ويحضر مجالس تدريسه … ومكث الإمام ابن عساكر يؤدي رسالته حتى لبّى نداء ربه، حيث توفي رحمه الله في ليلة الإثنين حادي عشر شهر رجب سنة 571هـ – 1176م، وعندما حضرته الوفاة سار السلطان صلاح الدين الأيوبي في جنازته، وصلَّى عليه القطب النيسابوري.

المصدر

مركز معراج للبحوث والدراسات المؤلف: د. محمد همام ملحم التصنيف: تراجم العلماء الذين خدموا قضية بيت المقدس.

اقرأ أيضا

دور العلماء العاملين في تحقيق النصر والتمكين

وظيفة العلماء في تثبيت الأمراء .. نموذج تاريخي

نور الدين الشهيد.. حامل رايتيْ العدل والجهاد

ما استقامت بكم أئمتكم .. الناس على دين ملوكهم

الأمة تفتقدكم .. فأين أنتم يا معشر العلماء

التعليقات غير متاحة