إمام أرجفت صيحاته الخانعين والخاضعين الخائفين، و قائد جسور، وبطل مغوار، وقائد فذ، ومن أبرز السباقين إلى رفع راية الجهاد من أجل فتح القدس الشريف، والمنتصر على الصليبيين في موقعة الصنبرة فمن هو؟
احتلال القدس وحصار حلب
لقد قام الصليبيون بدعايات كبيرة في الغرب للقدوم إلى الشرق من أجل إقامة الإمارة الصليبية في بيت المقدس، وذلك بعد النجاح الذي حققته التحركات والحملات الصليبية السابقة، التي توجت مسارها العدواني ضد المسلمين بطرد عشرات الآلاف من المدينة المقدسة، وقتل حوالي سبعين ألف في ساحة الأقصى، كما تم تكوين عدة مستوطنات إزاء مدينة القدس، ومن أشهرها: البيرة وبيت جبريل والرملة وبيتونيا وعين سينيا ومستوطنة رماتيس وكفر مالك… مما زاد شرَه الكنيسة لالتهام بلاد الشام في غفلة من أهله.
حصار حلب
وإن الأطماع الصليبية لم تتوقف حيث توجهت إمارة أنطاكيا الصليبية لحصار العاصمة الثانية التجارية لبلاد الشام – حلب – لاستنزاف خيراتها وحصارها اقتصاديا باعتبار موقعها الاستراتيجي مع باقي الجهات التي كانت تابعة للحكم الإسلامي.
وأمام تخاذل حكام حلب ومحاباتهم للمغتصبين وضع الصليب على مسجد حلب، التي كان يحكمها الأمير رضوان الذي تصفه كتب التاريخ بأنه كان خانعا ومتخاذلا لا يعبأ بمقارعة الصليبيين بل يسعى لمداهنتهم.
العلماء يقودون حملة شعبية ضد الصليبين
وما لبثت أن استقرت في القدس الإمارة الصليبية التي أقامها الغزو الصليبي في غفلة من المسلمين، حتى ظهرت صحوة دينية إسلامية تنبهت للمخاطر التي يعنيها استمرار السيطرة الصليبية على الأقصى، وقد انطلقت من حلب، واتخذت طابعَ حراكٍ شعبيٍّ بتحريض من علماء الدين وأئمة المسلمين وفي هذا المنعطف، دخل المسلمون مرحلة تطهير أراضيهم، وشرعوا في حروب ضد الصليبيين، مما أدى إلى ظهور قيادات حربية بارزة بالمنطقة من قبيل زين الدين الهروي والقاضي أبو الفضل بن الخشاب، وهكذا تمخضت عن تلك الصحوة سلسلة انتصارات في معارك تاريخية من قبيل معركة الصنبرة سنة 1113م في دمشق، وتمت استعادة إمارة الرها سنة 1144م، ليبدأ فصل جديد في سلسلة الحروب الصليبية.
الحياة التاريخية والسياسية لأبي الفضل بن الخشاب
شهدت الساحة السياسية في مدينة حلب منذ مطلع القرن الرابع الهجري إلي نهاية القرن السادس الهجري متغيرات اجتماعية وسياسية وعسكرية أفرزت العديد من الأسر العتيقة والثرية؛ ومنها أسرة بني الخشاب الحلبية، التي تقلد أفرادها المناصب والمراكز المهمة – الدينية والسياسية والعسكرية – في تسيير شؤون مدينة حلب، وما فتئوا يدافعون عن مقدسات الأمة إبان الغزو الصليبي على بلاد الشام في القرن الخامس، في وقت تخاذل فيه أمراء وملوك حلب وبغداد في الدفاع عن قضايا الأمة الجوهرية ومقدساتها.
الأدوار الفاعلة للقاضي ابن الخشاب
ويعد القاضي ابن الفضل بن الخشاب من الشخصيات المشهورة في حلب، الذي ينحدر من أسرة غنية عرفت بتجارة الخشب، وله دور أساسي في إدارة حلب، بوصفه قاضياً، بالإضافة إلى أنه يتمتع بسلطة دينية ومعنوية كبيرة، ويضطلع بأمر تسوية النزاعات المتعلقة بالناس والأموال.
وهو علاوة على ذلك يشغل مهمة أمين التجار وشيخهم، وممثل مصالح الشعب لدى الملك السلجوقي في قلعته، وقائد الحركة الفكرية والثورية ضد الحكام المتخاذلين الخاضعين للفرنجة في بلاد الشام، إذ يتعدى نشاطُه إطارَ وظائفِه الرسمية، وحَوْلَه عدد كبير من المريدين، ولهذا كان يحرك الآراء السياسية والدينية لمواجهة الغزاة الفرنج، ولا يخشى أن يعبر لأمير حلب رضوان السلجوقي عن رأيه في سياسته الاسترضائية الخضوعية وويلاتها على المسلمين، وانتقاده له علانية، كما لم يتوانى في الاحتجاج على أعمال الفرنجة حول حلب، في المقابل انتهج السلطان السلجوقي سياسة التقرب والموادعة تجاه أسرة بني الخشاب توخيا لاستقرار الحكم فيها، وخشية الدخول في صدام مع القاضي نظرا لولاء أهل حلب لشخصه.
المقاومة الحلبيَّة الشعبيَّة بقيادة ابن الخشاب
ظهرت بحلب معارضة داخلية قوية مع مطلع القرن الخامس الهجري تزعمها العلماء والفقهاء وكان قائدها ابن الخشاب؛ إمام أرجفت صيحاته الخانعين والخاضعين الخائفين، و قائد جسور، وبطل مغوار، وقائد فذ، ومن أبرز السباقين إلى رفع راية الجهاد من أجل فتح القدس الشريف، والمنتصر على الصليبيين في موقعة الصنبرة، فهو شخصية من الشخصيات البارزة في التاريخ الإسلامي، والتي لا يزال أثرها بارزا حتى يومنا هذا، لما أبرزته من مواقف بطولية، وسطر التاريخ انجازاتها المتسمة بالوحدة والإرادة والتصميم، وإعادة الهيبة للأمة الإسلامية، في وقت كان المجتمع الإسلامي يعاني فيه من التفكك والانحلال، بالإضافة إلى تخاذل سلاطين الشام ومحاباتهم للصلبيين.
ابن الخشاب في بغداد عاصمة الخلافة
فقد تحرك ابن الخشاب بنفس الطريقة التي تحرك بها الشيخ الإمام زين الدين الهروي، حيث اتجه إلى جهة بغداد عاصمة الخلافة، وأثارت في نفسه يقظة وهمة كانت تفتقد عند غيره، فقد غاظه تكالب أعداء الإسلام في وقت لم تتحرك فيه أي من السلطات الإسلامية لوقف الزحف الصليبي، ولم يكتف بالتحريض على التصدي للصليبيين بل ساهم فعليا في الحروب بما تيسر من أسلحة وأدوات ذلك الزمن.
من حلب انطلق الشيخ ابن الخشاب وجمْعٌ من العلماء إلى بغداد لحثّ الخليفة على التصدي لهذا الغزو المباغت لسواحل المتوسط، حيث أرض النبوات وإرث السماء ومسرى الرسول، ومهبط الوحي على قلبه في سماء الأقصى.
التعبئة الواسعة التي قام بها ابن الخشاب لوقف الزحف الصليبي
وما أن وصل بغداد حتى نادى في الناس، فاجتمعت حوله الجموع، وتعالت الأصوات، فخطب ابن الخشاب خطبة بليغة حاول من خلالها أن يستنهض الهمم في مسجد بغداد الجامع، ويشجعهم على قتال الصليبيين، وإخراجهم من بلاد المسلمين، وتحرير الأقصى من سطوتهم، ليكون جامع بغداد بذلك المنارة التي تنطلق منها المقاومة الفكرية والجهادية.
فظهرت يقظة فكرية وأدبية ساهمت فيها دروس العلماء وأشعار الأدباء وأصوات الخطباء، مما أحرج خليفة بغداد، ودفعه هذه المرة لتحرك أقوى من خطوات تعاطفه السابقة، فاستدعى السلطان السلجوقي وأمره على الفور بالتحرك لرد الاعتبار للخلافة الإسلامية، وكلف قائد الموصل بتجميع الجيش ورفع الحصار المفروض على حلب، وكان من المنتظر أن يتم ضم قوات الموصل لقوات حلب فينشأ تكتل جديد يسهم في تحرير المدن ومواجهة الغزو الصليبي، لولا تخاذل ملك حلب الأمير رضوان.
فك الحصار الصليبي عن حلب
في وقت لم يكتف الصليبيون بالتقتيل، في معاركهم ضد الجنود القادمة من الموصل ومجاهدي حلب بل راحوا يمثلون بكل من يقع بأيديهم من المسلمين ، فاضطر هؤلاء إلى مجازاتهم بالمثل، وكان يقود المقاومة الإسلامية القاضي أبو الفضل بن الخشاب الذي كان قد تمرَّس على أعمال الدفاع منذ بداية العقد، وله شعبية واسعةً في حلب، فأصدر أوامره بتوجيه ضربات مباشرة في قلب معسكرات الغزاة ، فكانت جماعة من مقاتلي حلب تخرج سرَّاً لتغير على هذه المعسكرات.
وبعدما استطاعت جيوش المسلمين القادمة من الموصل فك الحصار الصليبي عن حلب، اتجه الأمير رضوان للقبض على العلماء وأهل الرأي الذين تحركوا باتجاه الخلافة للاستنجاد بها، وسجن من رفعوا راية الجهاد ضد العدو وفي مقدمتهم القاضي أبو الفضل بن الخشاب.
استشهاد ابن الخشاب
وقد استشهد ابن الخشاب بسيوف الغدر والخيانة (519 هجرية 1125م) بعدما أسقط أمراء تاج الدولة تتش صاحب الشام، وكان له فضل جمع المسلمين لقتال الصليبيين في موقعة الصنّبرة، وقيادة المسلمين في معركة ساحة الدم، وأسس محور «حلب الموصل» وقضى على هيمنة الحصار الصليبي، وألحق بهم هزائم شديدة، واسترجع أجزاء واسعة من الأراضي المغتصبة.
ابن الخشاب مُلهم موقعة الصنبرة
بعد النجاح الذي حققته التعبئة الواسعة التي قام بها ابن الخشاب لوقف الزحف الصليبي، وحماية المسجد الأقصى من تدنيس الصليبيين، سارع أهل الرأي من العلماء والشعراء والقضاة إلى الاستنجاد بخليفة بغداد، فظهرت حركة ضغط واسعة دفعت الخليفة إلى التصدي لهذا الغزو، حيث أصدر السلطان السلجوقي (التركي) محمد بن ملكشاه توجيهاته للأتابكة التابعين له، وخصوصا إلى قائد الموصل مودود بن التونتكين الذي أمره بتجهيز الجيوش لمحاربة الصليبيين، وفك الحصار عن حلب، فلم ييأس مودود جراء تخاذل أمير حلب – رضوان – وخيانته، بل اتجه للتعبئة ضد الخطر الصليبي مستفيدا من جهود العلماء وتجييشهم لحركة الجهاد الإسلامي، وكان جاهزا عندما استنجد به “طقتكين” حاكم دمشق، فسارع لنجدة عاصمة الشام التي كانت معرّضة لهجوم من مملكة بيت المقدس الصليبية، لكنه فك الحصار عنها، وفرض التراجع على الصليبيين في معركة الصنّبرة سنة (507هـ/1113م) التي التقى فيها جيش مودود مع جيش “بالدوين” ملك المملكة الصليبية الوليدة في القدس، وانتصر المسلمون في هذه المعركة انتصارا كبيرا.
موقعة الصِّنَّبْرَة بداية تحرير القدس وبلاد الشام من الغزاة الصليبيين
إن موقعة الصِّنَّبْرَة كانت أول انتصار على مؤسس مملكة القدس، أهم ممالك النصارى، فرفعت بذلك معنويات المسلمين، وأحيت في أنفسهم الأمل والثقة بالقدرة على تحرير القدس وبلاد الشام من الغزاة الصليبيين، وشكلت الحجر الأساس للتحولات التي ستشهدها الساحة الإسلامية وإماراتها، وللانتصارات التي سيحققها القادة اللاحقون، ومن بينها انتصار المسلمين تحت قيادة صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين، ودخولهم مدينة القدس محررين إياها من الصليبيين.
فهل للمسلمين من صلاحٍ جديد يصلح الدنيا بالدين، ويجدِّد للناس دينهم ؟!
بوعد الله هذه الأمة أمة ولود، وسيقيض الله لها فاتحين يؤيدهم الله بنصره وعزته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود».
ابن الخشاب قائدا لمعركة ساحة الدم
كان الملك السلجوقي رضوان بن تتش قد توارى عن الأنظار في قلعته بحلب بعد مرضه، وتراجع سلطانه، وما أن توفي سنة (507 هـ – 1113 م) خلفه في حكمها أبناؤه (آلب أرسلان وولاية أخيه سلطان شاه)، حيث كانوا ضعافا غير قادرين على تسيير شؤون البلاد، فتحكم فيهم أوصياؤهم، وصارت حلب سهلة المنال، كما عرفت مرحلتهم قتال كبير فيما بينهم على السلطة، وسوء تدبير، وكان أهالي حلب يدعونهم لدفع الفرنج عنها فلم يجب أحد منهم إلى القتال، ضمانا لمصالحهم، ومهادنتهم للفرنج.
فقرر سكان مدينة حلب بقيادة القاضي ابن الخشاب أن يقبضوا على زمام مصيرهم بأيديهم، وأن يمنحوا حكمها أميرا قويا، يُؤْثِر مصالح الإسلام على مصالحه الشخصية، خصوصا وأن الفرنج يستعدون لحصار المدينة، وبسط نفوذهم عليها، وتعيين حاكم عليها يخدم مصالحهم، ويحمي أنطاكية الإمارة الفرنجية.
وكانت أحوال حلب في هذه الفترة غير مستقرة، وبدأ الضعف يدب فيها خصوصا بعد تحالف روجر أمير أنطاكية مع كبار مسؤوليها كي يمنع إيلغازي الأرتقي صاحب ماردين من الاستيلاء عليها وضمها إلى دولته بعد تحالف وجهاء حلب معه، ووصل الأمر بحلب أن أصبح المسؤولون عنها يعتمدون على روجر الصليبي في رد الطامعين في الاستيلاء عليها من أمراء المسلمين.
إيلغازي بن أرتق وجهاده ضد الوجود الصليبي في بلاد الشام
ولم تأت سنة (511هـ – 1118م) حتى صارت حلب تحت رحمة أنطاكية، وهو ما جعل أهلها يستنجدون بإيلغازي بن أرتق، وكان واحدا من أبرز المجاهدين ضد الوجود الصليبي في بلاد الشام، وقامت سياسته على أساس التحالف مع الأمراء المسلمين ضد الصليبيين.
في يوم الجمعة (28 يونيو 1119م) ازدادت غارات الفرنج على حلب وأراد أهلوها الاستعجال في القتال؛ وقرر إيلغازي بتشاور مع ابن الخشاب أن يبدأ القتال قبل وصول الإمدادات العسكرية للفرنجة بناء على طلب أمراء جيوشهم، فاستدرج الفرنجة إلى سهل سرمدا وطلب من القاضي أبي الفضل بن الخشاب أن يُحرِّض الجند على القتال.
تقدم القاضي الصفوف وألقى على العساكر خطبة حماسية بليغة استنهض فيها العزائم والهمم فأبكى الناس وعَظُم في أعينهم، وركب القاضي ابن الخشاب على فرسه ورمحه بيده، يتزعم جيش المسلمين.
معركة ساحة الدم
ولما شعر “روجر” أمير أنطاكية بالخطر الذي يتهدده اضطر إلى طلب النجدة من “بونز” أمير طرابلس ومن بلدوين الثاني ملك بيت المقدس، وعسكر خارج أنطاكية في انتظار المدد من رفاقه الصليبيين، لكنه لم يصبر لحين وصول النجدة، وتقدم صوب القوات الإسلامية على رأس ثلاثة آلاف فارس، وتسعة آلاف راجل، ومنهم 500 فارس أرمني في “تل عفرين” وهو موضع ظن روجر أنه مانعهم من هجمات المسلمين حتى تأتيهم الإمدادات.
وفي الوقت نفسه كانت عيون إيلغازي تأتي إليه بأخبار روجر وجيشه، وكانت جماعة من جواسيسه قد تزيت بزي التجار، ودخلت معسكر الصليبيين لمعرفة استعداداته، وأراد إيلغازي أن ينتظر حليفه طفتكين القادم من دمشق قبل الدخول في المعركة، لكن أمراءه رفضوا وحثوه على قتال العدو، فأسرع بالسير إلى ملاقاة أعدائه، الذين فوجئوا بجيوش المسلمين تحاصرهم في فجر يوم السبت (16 ربيع الأول 513هـ/28 يونيو 1119م)، ودارت معركة هائلة لم تثبت في أثنائها قوات الصليبيين وتراجعت أمام الهجوم الكاسح، وسقط آلاف القتلى، وكان من بينهم روجر نفسه.
ولكثرة أعداد القتلى اشتهرت هذه المعركة لدى مؤرخي الصليبيين باسم معركة ساحة الدم، وفضلا عن القتلى فقد وقع في أيدي المسلمين من السبي والغنائم والدواب ما لا يمكن إحصاءه.
المصدر
د. عبد القادر، مركز معراج للبحوث والدراسات.
اقرأ أيضا
دور العلماء العاملين في تحقيق النصر والتمكين
الأمة تفتقدكم .. فأين أنتم يا معشر العلماء
مصيبة العلماء في واقعنا المعاصر