عندما تتعدد “صور” الجاهليات؛ ينبغي للمسلمين ألا ينخدعوا بصورها عما تحتها من مضمون الشرك، ومن هذه الصور “العلمانية” بين حقيقتها وشعاراتها.

أنواع من الجاهليات

للجاهليات صورة متعددة؛ فبعضها يتمثل في إلحاد بالله سبحانه وإنكار لوجوده؛ فهي جاهلية اعتقاد وتصور كجاهلية الشيوعيين.

وبعضها يتمثل في اعتراف مشوَّه بوجود الله سبحانه وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الاتباع والطاعة، كجاهلية الوثنيين من الهنود وغيرهم.. وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك.

وبعضها يتمثل في اعتراف بوجود الله سبحانه وأداء للشعائر التعبدية، مع انحراف خطير في تصور دلالة شهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، مع شرك كامل في الاتباع والطاعة، وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم (مسلمين) من العلمانيين، ويظنون انهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحقوقه بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية، مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين، ومع استسلامهم لغير الله من العبيد. وكلها جاهلية، وكلها كفر بالله كالأولين، أو شرك بالله كالآخرين.

والعلمانية الديمقراطية تجعل “العقيدة” و”الشعائر” لله وفق أمره، وتجعل “الشريعة والتعامل” لغير الله وفق أمر غيره. وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله. لأن الدارس لعقائد الجاهلية العربية يجد ـ من أول وهلة ـ أنها لم تكن تنكر وجود الله أبداً، بل كانت توحده في معظم أفعاله تعالى، كالخلق والرزق والتدبير والإحياء والإماتة، ﴿ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: 25]

وكانوا يقرون بمشيئة الله النافذة في الكون وقدَره الذي لا يُرد؛ ﴿سَيَقُولُ الَذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا ولا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام:148]، وأنه يدبر الأمر، ﴿ومَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾ [يونس: 20]، وكانوا يؤمنون بالملائكة، ﴿وَقَالَ الَذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ﴾ [الفرقان: 31]

وكان منهم من يؤمن بالبعث والحساب، كقول زهير:

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر … ليوم حساب، أو يعجل فينقم (1شرح ديوان زهير/ 81)

وكذلك كان لدى الجاهليين العرب بعض الشعائر التعبدية، منها: تعظيم البيت الحرام، وطوافهم حوله، ووقوفهم بعرفات، وتعظيم الأشهر الحرام. وكذلك ذبحهم ونذرهم لله كما في قصة نذر عبد المطلب، وإهدائهم للبيت الحرام، أو تخصيص شيء من الحرث والأنعام لله، ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ والأَنْعَامِ نَصِيباً﴾ [الأنعام: 136]

ومن الناحية التشريعية: كانت الجاهلية العربية تقيم بعض الحدود، كحد السرقة، فقد ذكر الكلبي، والقرطبي في (تفسيره): أن قريشاً كانت تقطع يد السارق (2أضواء البيان للشنقيطي 3/ 392)، وهو حد معروف في الشرائع السابقة ـ كما في حديث المخزومية وشفاعة زيد لها ـ وشيء آخر سبقت ـ بل فاقت ـ به الجاهلية العربية الجاهليات اللادينية المعاصرة وهو: “حرية التدين”، فكان منهم الحنفاء الذين يتعبدون ببقايا دين إبراهيم، عليه السلام، وكان منهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكان منهم عبَدة الكواكب، وعُبّاد الأوثان، وبعضهم كان يعبد الجن أو الملائكة.

موقف الإسلام من الجاهليات بأنواعها

ولكن ـ وهذا هو المهم ـ بماذا حكم الله على هذا المجتمع؟

إن الله تعالى حكم على هذه البيئة وعلى الواقع الأرضي حينئذ بأنها “كفرٌ” و”جاهلية”، وعدَّ تلك الأمور جميعهاً صفراً في ميزان الإسلام، ولذلك نشبت المعركة الطويلة بينهم وبين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واشتد النزاع، معركةً شرسة ونزاعا حادا، حتى أن السيف كان الحكم الأخير.

والشيء المثير أيضاً: أن موضوع هذه المعركة العنيفة الطويلة لم يكن سوى كلمة واحدة، هي كلمة: “لا إله إلا الله”، كلمة يصرّ عليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى أقصى حدود الإصرار، وترفضها الجاهلية إلى أبعد مدى للإنكار والرفض؛ لماذا؟

لأنه منذ اللحظة الأولى حين دعاهم النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى شهادة “أن لا إله إلا الله”، كان الجواب الفوري: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً واحِداً إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: 5].

فالقضية واضحة في أذهانهم: إن الالتزام بهذه الكلمة معناه الرفض الجازم والتخلّي الكامل عن كل ما عدا الله من معبوداتهم وطواغيتهم المختلفة، طاغوت الأوثان وطاغوت الزعامة وطاغوت القبيلة وطاغوت الكهانة وطاغوت التقاليد.. الخ، والاستسلام الكامل لله ورد الأمر كله؛ جليله وحقيره وكبيره وصغيره.. إلى الله تعالى وحده لا شريك له.

تساؤلات منذ الجاهلية الأولى..!

كذلك فإن بيننا اليوم ـ ممن يقولون إنهم مسلمون ـ من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق وبخاصة أخلاق المعاملات المادية..

وبيننا اليوم حاصلون على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم يتساءلون أولاً في استنكار: ما للإسلام وسلوكنا الشخصي؟ وما للإسلام والعري على الشواطئ؟ وما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟ وما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل؟ وما للإسلام وتناول كأس من الخمر لإصلاح المزاج؟ وما للإسلام وهذا الذي يفعله “المتحضرون”..؟

فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين: ﴿أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ [هود: 87]

وهم يتساءلون ثانياً، بل ينكرون بشدة وعنف أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد؛ فما للدين والمعاملات الربوية؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي؟ وما للدين والسياسة والحكم؟

لا؛ بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده!! فلا يذهبن بنا الترفع كثيراً على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى؛ ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدَّعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في الله والسلوك الشخصي في الحياة والمعاملات المادية في السوق والسياسة والحكم.. تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود، وبعد أن استهلكت هذه الألفاظ أضافت الجاهلية اليوم وصفهم بـ “التطرف”!!

أليس هذا هو بعينه ما يريده رافعو شعار “الدين لله والوطن للجميع”؟ وشعار “لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين” من أدعياء الإسلام من العلمانيين أو غيرهم؟

إن من عادة المنافقين والزنادقة أن يرفعوا شعارات يحاولون بها خداع أكبر عدد ممكن من المسلمين، وتهدئة نفوس القِلّة التي قد ساورتها الشكوك تجاه نوايا هؤلاء الذين يرفعون شعارات “العلمانية”، بينما يسعون بواقعهم العملي لاقتلاع الإسلام من جذوره ولكن رويداً رويداً..!!

فارتفعت لذلك شعارات (المدرسة العقلانية)، وشعار (حكم الشعب للشعب)، وشعار (الحرية الشخصية)، وشعار (الأمة مصدر السلطات)، وشعار (حرية الثقافة والفكر)، وحاول البعض منهم تهدئة بعض مشاعر الإسلاميين فرفعوا شعار (تطوير الشريعة)، (مرونة الشريعة لتلبية حاجات العصر) ، وشعار (تقنين الشريعة).

وبعد أن نفد صبر بعضهم أعلنوها صريحة ورفعوا شعار (فصل الدين عن الدولة)، و(لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين)، و(الدين لله والوطن للجميع)، و(دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) أوَ ليس هذا أيضاً ما يطبّقه الذين يجعلون للدين برامج تسمى برامج “روحية” ضمن أجهزة الإعلام الشيطانية والذين يجعلون أحكاماً للأحوال الشخصية ضمن قوانين الحكم الجاهلية، والذين يجعلون في كل صحفهم ومجلاتهم “العلمانية” “الجاهلية” صفحة يسمونها صفحة الفكر الديني؟! ويقولون: إن مكان الدين هو المسجد فقط، ويُظهرون لعامة المسلمين أنهم يحجون لبيت الله في العمر مرة، ويتعمدون إبرازها في أجهزة إعلامهم، بينما هم يقصدون بيوت أعداء الله، شرقاً وغرباً، كل حين، يتلقفون منهم المناهج، ويتلقون التشريعات والأوامر والنواهي والحلال والحرام!!

سؤال يبحث عن جواب

إننا نتوجه بالسؤال إلى هؤلاء العلمانيين.. إلى كل من يدعي الإسلام من هؤلاء، فنقول:

إذا أخرجنا ـ على سبيل التحكم ـ جزءاً من النشاط الإنساني في الحياة ـ إما السياسة وإما غيرها ـ عن دائرة الإسلام.. فمن أين نتلقى منهج وقيم وموازين وتشريعات هذا الجزء؟

وأياً ما كان الجواب فإن نتيجته ومؤدّاه واحد لا ريب فيه؛ التلقي عن غير الله والطاعة والاتباع لغير الله.

والنتيجة هي الشرك بالله.

وهل هناك صورة من صور الاعتراف بالشرك أصرح من هذه؟ أعني شرك الطاعة والاتباع!! إنه شرك في عبادة الله، وإن كان الذين يمارسونه قد يجهلون معنى عبادة الله وحده، وما ذلك بغريب على الجاهليين،

«فإن عدي بن حاتم، رضي الله عنه، في الجاهلية لم يكن يتصور أن ذلك عبادة، فإنه لما دخل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، (تلا ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ﴾، فقال عدي، وكان نصرانياً: يا رسول الله: لسنا نعبدهم، قال: أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلّونه، ويحرمون ما أحل الله تحرمونه؟ قال: بلى. قال النبي، صلى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم». (3انظر رواياته في الدر المنثور: 3/ 230، وأصله في الترمذي: كتاب التفسير، وسنده صحيح)

قال ابن تيمية، رحمه الله، تعليقاً على ذلك:

“قد جعله الله ورسوله شركاً وإن لم يكونوا يصلّون لهم ويسجدون لهم”. (4فتح المجيد: 86 نقلاً عن الإيمان)

نتائج لا بد منها

إن “العلمانية” التي ولدت وترعرعت في أحضان “الجاهلية” لهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة ولا التباس، ولكن الخفاء والمداورة والالتباس إنما يحدث عمداً من دعاة العلمانية أنفسهم، لأنهم يعلمون أنه لا حياة ولا امتداد لجاهليتهم في بلاد المسلمين إلا من خلال هذا التخفي والمداورة والتلبيس على جماهير المسلمين، وذلك من خلال راياتهم الزائفة التي تُخفي حقيقة أمرهم وباطن دعوتهم عن المسلمين، وتُلبّس على العامة أمر دينهم وعقيدتهم، بل وتحفزهم ضد إخوانهم الصادقين الواعين بحقيقة هذا الصراع المنبّهين إلى خطره الداهم على الدين وأهله.

إن المعارك والجبهات التي تفتحها الفرق الضالة والمنتسبة لهذا الدين ضد أهل السنة والجماعة، وأخطرها دائما جبهة الرفض الباطنية. والتي تغذيها وتدعمها القوى والمعسكرات الجاهلية العالمية لتدمير أهل السنة والجماعة ـ باعتبارهم الخطر الحقيقي والفعال ضد هذه القوى..

أقول: إن هذه المعارك، وهذه الجبهات يجب أن لا ينسى معها أهل السنة والجماعة أن حصونهم لازالت مهددة من داخلها، وأن القوى العلمانية المتكتلة ضدهم من الداخل والتي تصارعهم في معارك خافية غالباً، وسافرة أحياناً؛ هي التي تمثل الآن جوهر الصراع القائم بين الإسلام والجاهلية في العصر الحديث. وإن أخطر مراحل هذا الصراع هي مرحلة “تعرية” هذه القوى العلمانية القبيحة وفضحها أمام المسلمين؛ ليستبين لكل مسلم سبيل المجرمين الذين يحاولون خداعهم وتلبيس أمر دينهم عليهم وهم لا يعلمون.

خاتمة

أما آن لأهل السنة والجماعة أن يتنبهوا لهذه الأخطار الماحقة في الداخل والخارج، والتي تهددهم في دنياهم وآخرتهم؟ أما آن لهم أن يتكتلوا هم أيضاً دفاعاً عن وجودهم وعقيدتهم ضد تجمعات الجاهلية الشرسة؟ .

أما آن لهم ـ أو لكثير منهم ـ أن يتخلوا عن معاركهم الوهمية وخلافاتهم الجانبية والشكلية ليفرغوا طاقاتهم، ويركزوا جهودهم المشتركة ـ المادية والمعنوية ـ لمواجهة هذه التحديات التاريخية والمعارك الفاصلة الحقيقية والجذرية؟

أما آن لهم هذا؟ ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ومَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ﴾ [الحديد: 16]

نسأل الله الهدى والرشاد، فمنه وحده التوفيق والسداد وهو على كل شيء قدير.

هوامش:

  1. شرح ديوان زهير/ 81.
  2. أضواء البيان للشنقيطي 3/ 392.
  3. انظر رواياته في الدر المنثور: 3/ 230، وأصله في الترمذي: كتاب التفسير، وسنده صحيح.
  4. فتح المجيد: 86 نقلاً عن الإيمان.

راجع:

  • مجلة البيان ربيع الآخر – 1408هـ، ديسمبر – 1987م، (السنة: 2). بقلم: محمد المصري

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة