إن حقيقة العبادة لو كانت مجرد كلمة تقال باللسان أو هي الشعائر التعبدية فقط لما استحقت كل ذلك الموكب من الرسل والرسالات، ولما استحقت كل تلك الجهود المضنية التي بذلها الرسل.
مقدمة
مر في “الجزء الأول” بعد بيان قيمة العلم وطرق الحصول عليه، وضرورة بذل الجهد وتقييده بالكتابة وتعليمه ونشره، ثم بيان ما بدأت به السيرة النبوية من بداية بالعقيدة والتوحيد ورد الأمر الى الله تعالى وحده، وبيان الأصلين الذيْن يقوم عليهما دين الله تعالى مطلقا للأولين والآخِرين، ونزع السلطان من البشر ورده الى الله تعالى، المستحق للعبادة والطاعة وحده، لتستقيم الحياة ويكون مردها الى إله واحد، هو الله تعالى بلا شريك
الدين حزمة واحدة
﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام:162-163).
يقول صاحب الظلال رحمه الله في تفسير هذه الآية:
ولا نفهم هذا التعليل كما كان يفهمه الرجل العربي إلا حين ندرك معنى العبادة التي يخص بها الله وحده.
إن معنى: عبد في اللغة : دان وخضع. ولم يكن معناه في الاصطلاح الإسلامي في أول الأمر أداء الشعائر، إنما كان هو معناه اللغوي نفسه.
فعندما نزل هذا النص أول مرة (في المرحلة المكية) لم يكن شيء من الشعائر قد فُرض حتى ينطلق اللفظ إليه؛ إنما المقصود هو معناه اللغوي الذي صار هو معناه الاصطلاحي.
كان المقصود به هو الدينونة لله وحده والخضوع له وحده، واتباع أمره وحده؛ سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية أو تعلق بتوجيه أخلاقي، أو تعلق بشريعة قانونية.
فـ “الدينونة” لله وحده في هذا كله هي مدلول “العبادة” التي خص الله سبحانه بها نفسه ولم يجعلها لأحد من خلقه.
وحين نفهم معنى العبادة على هذا النحو، نفهم لماذا جعل يوسف عليه السلام اختصاص الله بالعبادة تعليلا لاختصاصه بالحكم؛ فالعبادة أي “الدينونة” لا تقوم إذا كان الحكم لغيره، وسواء في هذا حكمه القدري القهري في حياة الناس وفي نظام الوجود، وحكمه الشرعي الإرادي في حياة الناس خاصة. (1)
وبهذا المعنى كان العرب يدركون أن “لا إله إلا الله” رفض للسلطان الوضعي الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية وهي العبادة والطاعة، وخروج على كل من يحكم بشريعة أو قوانين لم يأذن بها الله: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾ (الشورى:21).
ولذلك لم يكن يغيب عن المشركين وهم يعرفون المدلول الحقيقي لدعوة “لا إله إلا الله” ماذا تعني هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ومصالحهم وسلطانهم.
وإلى ذلك نبّه “ورقة بن نوفل” بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة فقال:
«ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك»؛ فيسأله النبي، صلى الله عليه وسلم، في استغراب «أو مخرجي هم؟» ! فيقول ورقة: «لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إل عودي». (2)
وأخرج الحاكم والبيهقي وأبو نعيم من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما خرج في موسم الحج يدعو قبائل العرب إلى الإسلام، عرض نفسه على بني شيبان بن ثعلبة، فدعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنه عبده ورسوله، وأن يؤووه وينصروه ليبلغ رسالة ربه.
فقال له المثنى بن حارثة الشيباني: «وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكره الملوك»، فرد عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، بقوله: «وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه». (3)
الإيمان قول وعمل
إن شهادة أن “لا إله إلا الله” لم تكن مجرد كلمة تقال باللسان، ولا يمكن أن تكون كذلك في مرحلة من مراحل الدعوة، فضلا عن مرحلة التأسيس التي هي أشق المراحل وأهمها؛ وإلا فما معنى تلك المعاناة القاسية التي لقيها المسلمون من المشركين وما موجبها؟!
وإنما كانت هذه الشهادة نقلة بعيدة ومَعلما فاصلا بين حياتين لا رابطة بينهما: حياة الكفر وحياة الإيمان، وما يستلزمه ذلك من فرائض وتعبدات ومشقات أعظم وأكبر من فريضة الصلاة والزكاة ونحوها.
فرائض تفرضها “لا إله إلا الله”
من ذلك فريضة التلقي الكامل في التشريع والحكم وكل ميادين الحياة عن الله ورسوله، ونبذ موازين الجاهلية وقيمها وأخلاقها وأعرافها وتشريعاتها.
ومن ذلك الولاء المطلق لله ورسوله، والعداء الصارم للكفار ولو كانوا آباء وإخوانا وأزواجا وعشيرة.
ومن ذلك فريضة الصبر على الأذى في الله الذي لا تطيقه إلا نفوس سمَت إلى القمة، تحمل الفرائض والواجبات؛ حتى إن الواحد ليكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار. (4)
وهذا ما كان يعانيه “بلال” رضي الله عنه وهو يلبس أدرع الحديد ويُسحب في رمضاء مكة وقت الظهيرة، وما كان “آل ياسر” يلقونه وهم يتعرضون لأشد بلاء شهدته أسرة مضطهدة (5) .. ذلك كثير مما سجلته كتب السيرة والحديث.
إن في إمكان أي إنسان أن يصلي ما شاء الله له، وينفق بما شاء الله له دون أن يناله كبير مشقة، ولكن أي إنسان هذا الذي يستطيع أن يخالف عادات وأعراف اجتماعية درج عليها المجتمع أجيالا ويتحداه بمخالفتها؟ فما بالك إذا كان الأمر ليس مجرد مخالفة عادة أو عرف، وإنما هو مفاصلة كاملة ومنابذة تامة لكل عبادة جاهلية وقيمة جاهلية وعرف جاهلي.
ثم هو مع ذلك زجر قاطع للنفس عن شهواتها وملذاتها ومراقبة شديدة لها.
ولهذا كانت النماذج الكثيرة في الجيل الأول ممن يشهد ألا إله إلا الله، فيعود من فوره إلى بيته ليحطم الأصنام التي طالما عبدها، وليقطع العلائق التي طالما وثقها. (6)
وهكذا فهم المسلمون دلالة هذه الكلمة المتميزة، كما فهمها الكافرون على حد سواء: ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾ (الأنفال:42)؛ فهمها المسلمون فالتزموا بما فرضه عليهم من تبعات وتكاليف، وقاومها الكافرون؛ لأنهم فهموا مقتضاها وما يترتب عليها من ذهاب سلطانهم وتحطم كيانهم، وتهافت أساطيرهم وأوهامهم.
فيما أُنفق جهد الرسل..؟
إنه حتى على “المنطق الجاهليّ” لا يصح للمرء أن يتصور شهادة بلا أثر في واقع الحياة، وإلا أفكان الجاهليون يقتلون مَواليهم ويعذبون أبناءهم وإخوانهم ويقْطعون أرحامهم لمجرد كلمة تقال باللسان أو نظرية ذهنية في المعرفة؟!. (7)
إن حقيقة العبادة لو كانت مجرد كلمة تقال باللسان أو هي الشعائر التعبدية فقط لما استحقت كل ذلك الموكب من الرسل والرسالات، ولما استحقت كل تلك الجهود المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله عليهم وعلى رأسهم محمد؛ إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الخضوع للعباد ولأهوائهم إلى الإذعان لرب العباد، في كل أمر وفي كل شأن.
ولأجل ذلك؛ فإن كلمة التوحيد “لا إله إلا الله” إعلان إلهي عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية لغيره ولهواه، وذلك بإعلان العبودية لله وحده المتمثلة في إفراده بالطاعة.
على أن سياد الشريعة الإلهية وحدها، وإلغاء القوانين البشرية التي تخدم فئة من الناس وهم “الملأ”، كل ذلك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان؛ لأن المتسلطين على رقاب العباد المغتصبين لسلطان الله في الأرض لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان(8)، بل حتى الأفراد أنفسهم، وهم ليس لدى أكثرهم ـ الذين عبدوا أنفسهم لغير الله من الطواغيت والأنداد المختلفة والأصنام الفكرية ـ استعداد لترك ما ألِفته النفس، وسار عليه الآباء والأجداد، ويعيش عليه المجتمع كله، لمجرد التبليغ والبيان، بل إن ما في نفوسهم من حواجز “الكبر” و”العناد” و”التمرد” لا يقل عن الحواجز الضخمة التي يضعها البشر المتألهون دون شعوبهم المستعبدة. (9)
وإزاء هذه الاعتبارات، فإن هذا الإعلان العام لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله بإعلان ألوهيته للعالمين: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ (الزخرف:84) لم يكن إعلانا نظريا فلسفيا سلبيا، وإنما كان إعلانا حركيا واقعيا وإيجابيا، إعلانا يراد به التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله، ويخرجهم بالفعل، من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك.
ومن ثم لم يكن بد أن يتخذ هذا الإعلان شكل “الحركة” أي “الجهاد” (10) إلى جانب شكل البيان أي التبليغ(11) وهو ما جمعته آية سورة الحديد في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحديد:25).
هذا وقد رسّخ القرآن الكريم في قلوب الصحابة رضي الله عنهم العقيدة الصحيحة بهذا المفهوم، وآتت تربية الرسول، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه ثمارها المباركة في هذا الجانب، فلم يحتكموا إلا لله، ولم يطيعوا ويتبعوا أحدا على غير مرضاة الله، ولم يوالوا ويعادوا إلا في الله، ولم يستغيثوا ويستعينوا إلا بالله ..
إلى غير ذلك من حقائق ومعاني هذا الأصل العظيم التي قررها القرآن الكريم والسنة النبوية في المرحلة المكية.
…………………………………………………………..
الهوامش:
- سيد قطب : في ظلال القرآن، ج 4 (ص 139)
- البخاري: الجامع الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا يحيى بن بكير، ج 1، صـ 3،4.
- أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة، رقم 214 ، ج 1. وقال ابن كثير في تاريخه : رواه الحاكم والبيهقي، ج3 ، صـ 144، وقال الحافظ في الفتح : إسناده حسن، ج7 صـ 220.
- سفر بن عبد الرحمن : ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر، رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى بمكة المكرمة ص 25.
- أحمد: المسند، ج 1،ص62.
- سفر بن عبد الرحمن: ظاهرة الإرجاء، ص 26.
- سفر بن عبد الرحمن: ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر.
- سيد قطب: في ظلال القرآن، ج 3( 1433- 1434).
- سفر بن عبد الرحمن: ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر، ص31-32.
- أي الجهاد الشرعي الذي لا يستهدف الأبرياء العزل، وإنما يواجه الطغمة الحاكمة بعد الإعداد على المدى الطويل وامتلاك القدرة على المواجهة .
- سيد قطب: في ظلال القرآن، ج3، ص1434.