يصفها بعض المفكرين بـ “قنبلة بيولوجية”.. ويصفها بعض الصهاينة بـ “عش الزنابير”…!
في كل عصر خنساء
الخنساء الفلسطينية في غزة وغيرها لا تنشغل بمتابعة مجلات الأزياء وأحدث صيحات الموضة وعبقريات خبراء التجميل، فقد انهمكت في حِياكة الأكفان، ولا تعرف من ألوان الطيف سوى الأحمر، فإما دماء شهيد تُسنده إلى صدرها فيُعطِّر جِيدَهَا بشذاه، ويصبغ خمارها بلون الورود، وإما جراح مناضل تُضمِّدها فيترك في كفيها الأثر كما الحِنَّاء.
عفوًا، خنساء فلسطين ليست مثل النساء تَحَارُ في انتقاء العطور، فأنفها الشامخ لا يعرف سوى رائحة القنابل والبارود.
وصية الخنساء لأولادها
في ليلة القادسية لم تكن ثَمّة دموع تسيل من مُقلَتي الخنساء تليق بوداع فلذات الأكباد، بل كانت وصايا حازمة تُعلي مصلحة الإسلام على عاطفة الأمومة، فها هي تقول لأبنائها الأربعة: “يا بني، إنكم أسلمتم وهاجرتم مختارين والله الذي لا إله غيره إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خُنْتُ أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجّنت حسبكم، ولا غيّرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين”.
فلما دفعتهم إلى ساحة النزال قاتلوا كالأسود حتى لقوا ربهم، فلما بلغها الخبر قالت: “الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته”.
كأن هذه الأمة تقدم لنا في كل عصر خنساء، تحمل هذا الاسم ووصف حاملته، وعندما نُقلِّب الأبصار بحثا عنها، تقع لا محالة على المرأة الفلسطينية، وعلى وجه التحديد في غزة الأبية،
خنساء فلسطين قدم لأمتها شهيدًا تلو الشهيد
تلك المرأة التي تُسْرِج خيْل المنايا بحثًا عن حياة الكرامة والحرية والعزة. لَئِنْ كانت أرحام النساء تدفع الأجِنَّة للحياة إرضاءً للفطرة والتماسًا لتذوق طعم الأمومة، فالخنساء الفلسطينية تُرهق رحمها بالولادات المتتابعة، لكي تقدم لأمتها شهيدًا تلو الشهيد، ترجو أن تُوهب بموتهم الحياةُ للأوطان.
خنساء فلسطين “قنبلة بيولوجية”
يتحدث العالم الموسوعي الراحل عبد الوهاب المسيري في موسوعته الضخمة “اليهود واليهودية والصهيونية”، عن قصة الحالمة للكاتبة “بنيناه عاميت”، وكيف أن بطلة القصة سيطرت عليها الكوابيس التي ترى فيها القنابل والمعارك والحروب، وعندما تسألها أمها: لماذا لا يكون لي حفيد في النهاية يا ابنتي؟ فتلوذ الابنة بالصمت، في إشارة واضحة إلى أن عزوف الإسرائيليات عن الإنجاب إنما هو انعكاس للقلق داخل المجتمع الإسرائيلي من وضعه الشاذ على اعتبار أن دولتهم المزعومة كيان لقيط تم غرسه بالقوة في تلك البقاع. أما الفلسطينية صاحبة الحق والأرض والجذور والهوية، فهي كما يصفها بعض المفكرين “قنبلة بيولوجية”..
والصهاينية يصفونها بأنها “عش الزنابير”، فهي تقضُّ مضاجع الصهاينة بمعدل خصوبتها المرتفع عن المرأة الإسرائيلية، ذلك لأن التباين الكبير في معدلات المواليد بين الفلسطينيات والإسرائيليات يُنذر بتقويض الوجود الصهيوني، وقد عبّر “أرنون سابير” أستاذ الجغرافيا الإسرائيلي عن تلك المخاوف، بقوله أن السيادة على تلك الأرض لن تُحسم بالبندقية وإنما من خلال الإنجاب والجامعات، وهو ما يتوقع أن يتفوق فيها الفلسطينيون على الصهاينة خلال فترة قصيرة.
المرأة الفلسطينية تهز المهد بيمينها، وتهز العالم بشمالها
يومًا ما، قال نابليون بونابرت: “المرأة التي تهز المهد بيمينها، تهز العالم بشمالها”، ربما لو كان حيًا وأنصف، لقال: المرأة الفلسطينية تهز المهد بيمينها، وتهز العالم بشمالها”، نعم، فخنساء غزة التي تُربي صغارها على النضال والكفاح، يختلط حليبها بكل معاني الأنفة والعزة، قد أذهلت العالم بصمودها وثباتها وجرأتها.
فإذا رأيتَ ثَمّ، رأيتَ حُرَّةً تجوع ولا تأكل بثدييها، تُواجه الغلاء بالاستغناء، وتجابه الحصار بآمال الانتصار، في كفيها آثار العجين والطحين في البكور، وفي حر الظهيرة تحمل الحجارة وتسير كسفينة صحراوية إلى حيث الأبطال على الحدود.
خنساء فلسطين صدرها عامرٌ بالإيمان بالله، عامرٌ بالإيمان بالقضية
إنها الجبل الأشمُّ الذي لا تُحركه الرياح والعواصف، ولله در الأديب الرافعي إذ يقول: ” ألا إن المرأة كالدار المبْنية، لا يسهل تغيير حدودها إلا إذا كانت خرابًا”، وخنساء فلسطين لم تتغير حدودها ولا هويتها رغم جَلَد الفُجّار وضراوة الاستهداف، لأن صدرها عامرٌ بالإيمان بالله، عامرٌ بالإيمان بالقضية، ويشهد القاصي والداني على أنها حافظت على مدى عقود على هوية أبنائها فلم تتغير حدودهم رغم المحاولات المستمرة لهدم شخصية هذا الجيل، فكان نتاج جهدها صِبْيَة يواجهون رصاص الاحتلال بالحجارة.
تلك الخنساء هي وقود الجهاد، تؤزُّ الأشاوس أزًا، هي القابعة على أبواب الأقصى، تقيم الصلاة، وتتلو القرآن فتغيظ أعداء الله، وتُكبر في وجه الصهيوني فتبث الرعب في أوصاله.
المرأة الفلسطينية تفك حصار 70 أسدًا من أشاوس المقاومة
من ينسى يوم الجمعة الثالث من نوفمبر 2006م، عندما نهضت المرأة الفلسطينية لفك حصار 70 أسدًا من أشاوس المقاومة حوصروا بمسجد النصر شمال غزة، فخرجت النساء من جميع أنحاء القطاع في مسيرة حاشدة، وواجهن طلقات الرصاص في ملحمة الصمود، وسقطت منهن الشهيدة والجريحة في الطريق إلى المسجد، فلما دخلْنَهُ لإشغال جنود الاحتلال تمكّن المُحَاصَرون من الخروج، فنظم أحد الشعراء في الفلسطينية يُمجّدها:
مِن بيت حانونَ جاء النُّورُ مُنبثِقاً……. يُحيي قُلوباً جَحيمُ البُؤسِ مَأواها
نَزفُ الجِراحِ بها أَحيا لنا قِيَماً……… ما كان يُدركُ هذا العصرُ مَعناها
على رُباها رأيتُ النصرَ مدَّ ………….لنا من الحَرائرِ أسباباً نَسيناها
فرَّ اليهودُ دَجاجاً عندما اقتَحَمَت……. تلكَ الحشودُ وعَينُ الله تَرعاها ..
يا كل خنساء في فلسطين
يا كل خنساء في فلسطين قد سحلها الاحتلال في الخان الأحمر وغيرها فانكشفت طرف كعب قدمكِ الكريم، ارفعي رأسكِ، فأنت لم تتكشفي، إنما انكشفت سوءات المُترنّمين بحقوق المرأة في العالم الحيران، وبدَتْ عورات المُتخاذلين المُنبطحين من حكام العرب، فلا تهني ولا تحزني وأنت العُلْيا إن كنتِ من المؤمنين.
فيا خنساء فلسطين، يا خنساء غزة، يا أم الشهيد، يا زوجة الأسير، يا ابنة الجريح، مسيرة العودة تناديك “أن حي على الجهاد”، حطمي القيود، افتحي الحدود، ألهبي أديم الأرض، تزيني بكفنك الأبيض كما العروس، كبِّري، هلِّلي، حوْقلي، سبِّحي، وعلى الله توكلي.
لن تكوني وحدك، فكل خنساء في العالم ستكون معك، ستلتقي القلوب، ستحلق الأرواح، ستعلو الصيحات، ويشق التكبير سكون الكون، ودونك قول عنترة:
لا تسقني ماءَ الحياة بذلةٍ ……. بل فاسقني بالعزَّ كأس الحنظلِ…
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المصدر
إحسان الفقيه.