المسلمون اليوم في حاجة شديدة للاطلاع على سيرة الأنبياء الكرام والتعرف على حياتهم ومنهجهم في التغيير؛ خاصة في زماننا وغربتنا التي نعانيها اليوم.

مقدمة

لما كانت حياة الأنبياء هي النموذج الكامل ومحل التأسي في العقيدة والأخلاق، في الدعوة والحركة وفقه سنن التغيير، في التعبد والرغبة في الآخرة؛ وقد ألقينا إضاءات على أسباب الاطلاع على حياتهم الكريمة في المقال السابق (حياة الأنبياء عليهم السلام .. نماذج في الكمال) ننظر هنا على بقية الجوانب وما تقتضيه غربتنا المعاصرة لطلاع على حياتهم وفقههم سننن الله تعالى في التغيير.

الغربة المعاصرة تطل على الأنبياء

تأتي دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في عصرنا الحاضر ونحن في أشد الحاجة إلى دراستها من أي وقت مضى؛ وذلك لما يشهده عصرنا من غربة في أحوال كثير من المسلمين وفُرقة بين دعاة الحق، وتسلط الأعداء، وكيد المنافقين، وتخبط في بعض المناهج الدعوية ما بين يائس، ومداهن، ومستعجل.

وهذا يُبرز أهمية التعرف على حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في واقعنا المعاصر؛ لعلّ في الدراسة الواعية لهذه الحياة المباركة أن يقي الله سبحانه بها من التخبط والانحراف، وأن يهدينا بها إلى الصراط المستقيم الذي يوحّد صفوفنا، ويُبطل كيد أعدائنا، ويوصلنا في النهاية إلى النصر والتمكين الذي نصر الله عز وجل به أنبياءه والمتبعين لهم بإحسان.

دروس من حياة الأنبياء

لا زالت حياة الأنبياء مليئة بالدروس والقيم والخير الذي نحتاجه ـ وتحتاجه البشرية ـ طول الطريق؛ منها:

التعرف على سنن التغيير

في دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تعرُّف على سنن الله عز وجل في التغيير، وتعرُّف على سننه سبحانه في الدفع والمدافعة، كما أنها تكشف للدعاة إلى الله عز وجل ذلك الصراع الطويل المرير بين الحق والباطل، وفي هذا أكبر العزاء لأهل الحق؛ وذلك لإيمانهم بحتمية هذا الصراع، وأن الدولة والعاقبة في نهاية الأمر للحق وأهله، وهذا كله لا يَبرُز بوضوح كما يَبرُز في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصراعهم مع أقوامهم: بالحجة والبيان، والهجرة، والجهاد، حتى أتاهم الله تعالى بنصره وتمكينه؛ قال تعالى: ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40]، وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 140].

وقال سبحانه عن السنن: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران: 137].

وإن في التعرف على هذه السنن الربانية لَأعظمُ فائدة في تجنب الأخطاء وتوقّي موارد الهلكة، ومعرفة أسباب النصر والتمكين.

يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

“ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس واطراد فعله وسنته لم يصح الاعتبار بها؛ لأن الاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره؛ كالأمثال المضروبة في … القرآن”. (1جامع الرسائل، (ص 552))

من سنن الله في حياة الأنبياء

ومن السنن التي يمكن التعرف عليها من خلال دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما يلي:

1- سوء عاقبة المكذبين للرسل وإهلاكهم.

2- نصره سبحانه لعباده المؤمنين.

3- مداولة الأيام بين الناس من الشدة إلى الرخاء.

4- زوال الأمم بسبب الترف، والفساد، وفشو الظلم، والتجبر على الناس.

5- أن البشر يتحملون مسؤوليتهم في الخير والشر.

6- أن انهيار الأمم وهلاكها يكون بأجل.

7- أن الابتلاء للمؤمنين سنة جارية.

8- تقرير سنة التدافع والصراع بين الحق والباطل (2انظر لمزيد من التفصيل: منهج التاريخ الإسلامي، للدكتور محمد بن صامل السلمي، ص 58-74)

الانتظام في القافلة المباركة

ولعل في دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بصدق ورغبة في اتباع هديهم سبيلاً إلى الانتظام في سلكهم والسير في قافلتهم المباركة. ولعل الله عز وجل أن يلحق من هذه نيته بركبهم الميمون، وأن يحشره في زمرتهم، فيصدق عليه قول الله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً﴾ [النساء: 69-70].

نسأل الله سبحانه أن يفيض علينا رضاه وجنته، وأن ينعم علينا باللحوق بهذه الصفوة المباركة باتباعنا لهم، وحبنا إياهم، وإن قصرت أعمالنا وأحوالنا عنهم كثيراً كثيراً.

فعن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: «وما أعددت لها؟» قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، فقال: «أنت مع من أحببت» ، قال أنس: فأنا أحب النبي – صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل أعمالهم». (3البخاري، ح/6167 في كتاب الأدب، ومسلم، ح/2639 في كتاب البر والصلة)

خاتمة

يعلق الشيخ السعدي رحمه الله تعالى على صفات عباد الرحمن الواردة في آخر سورة الفرقان ورسل الله عليهم الصلاة والسلام أول من تصْدُق عليهم هذه الصفات فيقول:

“ما أعلى هذه الصفات، وأرفع هذه الهمم، وأجل هذه المطالب، وأزكى تلك النفوس، وأطهر تلك القلوب، وأصفى هؤلاء الصفوة، وأتقى هؤلاء السادة … ولله منّة الله على عباده، أن بيّن لهم أوصافهم، ونعَت لهم هيئاتهم، وبين لهم هممهم، وأوضح لهم أجورهم؛ ليشتاقوا إلى الاتصاف بهم، ويبذلوا جهدهم في ذلك، ويسألوا الذي منّ عليهم وأكرمهم الذي فضْلُه في كل مكان وزمان، وفي كل وقت وأوان أن يهديهم كما هداهم، ويتولاهم بتربيته الخاصة كما تولاهم.

اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك، لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضرّاً، ولا نقدر على مثقال ذرة من الخير إن لم تيسر ذلك لنا، فإنا ضعفاء عاجزون من كل وجه، نشهد أنك إن وكلتنا إلى أنفسنا طرفة عين وكلتنا إلى ضعف وعجز وخطيئة، فلا نثق يا ربنا إلا برحمتك التي بها خلقتنا ورزقتنا وأنعمت علينا بما أنعمت من النعم الظاهرة والباطنة، فارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك، فلا خاب من سألك ورجاك”. (4تفسير السعدي، 3/ 455)

……………………

الهوامش:

  1. جامع الرسائل، (ص 552).
  2. انظر لمزيد من التفصيل: منهج التاريخ الإسلامي، للدكتور محمد بن صامل السلمي، ص 58-74.
  3. البخاري، ح/6167 في كتاب الأدب، ومسلم، ح/2639 في كتاب البر والصلة.
  4. تفسير السعدي، 3/ 455.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة