يتميز البيت المسلم، بتميز المرأة التي تقيمه؛ حين تكون مسلمة مجاهدة تعرف دورها وتدركه، في تكوين البيت، وفي تصورها للذرية المأمولة.
مقدمة
لا شك يا أختاه أن بيتك (بيت الدعوة) لا يعرف الخراب لأنه يتكون، ومعه أسباب حمايته؛ من الحب والرضا.
وليس معنى هذا أنه بيت لا يقع فيه شقاق أو عتاب أو خلاف فهذا أمر لا يمكن أن يتحقق في عالم البشر، ولم يتحقق في بيوت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدوة البشرية كلها؛ وإنما معناه أن الخلاف بين المرأة المسلمة وزوجها لا يستمر بل يثوب كلاهما إلى الله سريعاً فيذهب الشقاق
ويبقى الوئام والحب والرضا.
روابط مميزة بين الزوجين المسلمين
فالزوج المسلم هو أحب الناس لزوجته، وهي أحب الناس إليه؛ يربطهما الحب في الله ـ أوثق عرى الإيمان ـ وتزداد مشاعر الحب بينهما باستمرار العلاقة الزوجية.
ومع ذلك فإن هذه المشاعر لا تدفع الزوج إلى الركون للبيت والزوجة، ولا تدفع الزوجة إلى محاولة الاستئثار بزوجها؛ لأن كلا منهما يعلم أن من حلاوة إيمان المرء «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» (1صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان رقم 16).. فكل منهما يقدّم حب الله ورسوله على أيّ حب، وهذا يجعل حياة الدعوة والجهاد من أجل الإسلام منبعاً للحب لا يجفّ بين الزوجين؛ فالحياة في “بيت الدعوة” إما لحظة وداع وأمل، أو لحظة حنين وشوق، أو لحظة لقاء وفرحة؛ فهي حياة طيبة وعيشة راضية وعمر مبارك.
وهكذا بيتك ـ يا أختاه ـ بيتٌ يملؤه الحب وينعم بظلال الرضا بعيداً عن ظلمات المادية الطاغية وموبقات الفساد والإباحية؛ فماذا عن ذريتك؟ ذرية (بيت الدعوة)..؟
لا شك – يا أختاه – أن الذرية في بيتك ليست مجرد الرغبة في التناسل، بل الرغبة في استمرار الدعوة بما في هذا الاستمرار من طاقة وإمكانية.
تعليم الطفل “عبودية” ربه
وبعد إتمام الرضاع، وإعطاء القدر المضبوط من الحب والحنان للطفل؛ تأتي أولى محاولات تحقيق “عبودية الطفل لخالقه” عند سن سبع «علِّموا أولادكم الصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع». (2رواه أحمد وأبو داود والترمذي)
والصلاة تؤسس في نفس الطفل إحساس التناقض مع أي مجتمع لا يقيم الصلاة، ويبقى هذا الإحساس في نفس الطفل حتى يأخذ صورة العمل لتمكين دعوة الإسلام حتى يُسلم المجتمع ويُقيم الصلاة ﴿الَذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ﴾ [الحج:41].
وكما ينبغي تعليم الأطفال “الصلاة” ينبغي أيضاً الاهتمام بتكوين شخصيتهم؛ قوية قادرة على مواجهة الحياة من خلال طاعة الله والإيمان بالقدر، ولذلك يقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لابن عباس: «يا غلام … احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رُفعت الأقلام وجفّت الصحف». (3رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيحٌ)
تمرين الطفل على الدعوة الى ربه
ومن الأمور المهمة في التربية الحث على ممارسة “الدعوة إلى الله”، وهذه كانت نصيحة لقمان لابنه ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنكَرِ واصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [لقمان:17].
وفي الحقيقة ـ يا أختاه ـ أن قضية تربية الأولاد ليس هذا موضع استيفائها، ولذا أنصحك ـ أختاه ـ بمراجعة كتاب (منهج التربية الإسلامية) للشيخ “محمد قطب”، وكتاب (تربية الأولاد في الإسلام) للشيخ “عبد الله ناصح علوان”.
وأخيراً.. يا أختاه؛ فإن الدور الذي تقومين به هو لون من ألوان الجهاد، وأنا أعلم أن لديك من إيمانك زاداً يستعلي بك على الجاهلية، ويصمد بك في وجه مكائدها، غير أن النفس تحتاج دائماً إلى سلوى تعضدها، ولا أجد سلوى للنفس أعظم من القدوة، ولذا أدعوكِ ـ أختاه ـ إلى زيارة بيت قدوة من بيوت الدعوة، وهو بيت “الرميصاء” امرأة “أبي طلحة” وكنيتها “أم سليم”.
قدوات لبيوت مسلمة
قدوة في بيت مسلم زمن النبوة
فأما كيف تكوّن هذا البيت؟ فقد طلب أبو طلحة زواج الرميصاء فاشترطت عليه أن يكون صداقها إسلامه (وقد كان مشركاً) فأسلم وتزوجته.
وتكوّن بيتٌ مسلم، ويجىء ضيف إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في بيته طعام، فيسأل من يستضيف ضيف رسول الله فيقول أبو طلحة: أنا يا رسول الله.
ويذهب بالضيف إلى بيته ويسأل زوجته “أم سليم” عن الطعام، فتقول: لا يوجد غير طعام الأولاد. وتنيم “أم سليم” أطفالها، وتضع طعامهم أمام الضيف، وتتصنّع أنها تصلح السراج فتطفئه، وتتصنّع هي وزوجها أنهم يأكلون حتى أكل الضيف وشبع!!
ويذهب أبو طلحة إلى صلاة الفجر فيستقبله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قائلاً: «يا أبا طلحة لقد ضحك الله من صنيعكما الليلة». (4رواه البخاري: 3798)
وهكذا أطعمت “الرميصاء” ضيف رسول الله طعام الأولاد وعلمتنا نحن معنى إكرام الضيف، ففي المعنى طعم الإيمان ورائحة الجنة، ويبارك الله تعالى كرم “الرميصاء” فيُطعم بطعامها جميع الصحابة إذ صنعت الرميصاء طعاماً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبعثَت ابنها “أنس بن مالك” يدعو الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى الطعام فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، للصحابة: «لقد صنع لكم أبو طلحة طعاماً».
وذهب جميع الصحابة إلى بيت الرميصاء، فقال أبو طلحة: ماذا نصنع؟! فقالت “الرميصاء”: رسول الله أعلم بما يفعل، فأمَر الرسول الصحابة أن تدخل عشرة عشرة؛ حتى أكلوا جميعاً ولم ينقص من طعام الرميصاء شيء!!. (5صحيح البخاري ، كتاب المناقب 3385)
ويروي لنا “أنس” حادثة وفاة غلام في بيت الرميصاء..
عن أنس قال: «مات ابن أبي طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها: لا تُحدّثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه، قال فجاء فقرّبت إليه عشاء فأكل وشرب، ثم تصنّعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك؛ فوقع بها فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟
قال: لا. قالت: فاحتسب بما كان ابنك.
فغضب أبو طلحة، وانطلَق حتى أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ فأخبره.
فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لكما في غابر ليلتكما».
قال: فحملت وأنجبت بعد ذلك عشرة أولاد كلهم يقرءون القرآن. (6صحيح مسلم ، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي طلحة رضي الله عنه 2144)
بل وتقاتل “أم سليم” بنفسها يوم أُحُد، وتنقل القِرَب، وتفرغها في أفواه الجرحى..!!
وكانت تلك معالم بيت من بيوت الدعوة في خير القرون؛ امرأة جعلت صداقها إسلام زوجها، وأطعمت الصحابة من طعامها، وأضحكت الله بكرمها، وقاتلت في سبيل الله بنفسها.
قدوة في بيت مسلم معاصر
ربما قلتِ ـ يا أختاه ـ وأين نحن من هؤلاء الذين عاش رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بين أظهرهم؟
وأنا أقول لك ـ يا أختاه ـ إن هذه الدعوة ما زالت تؤتي تلك الثمار الطيبة في عصرنا اليوم.
فبين أظهرنا قام بيت من بيوت الدعوة، وقلعة من قلاع العقيدة تحرسها أخت لكِ هي “أمينة قطب”، فكيف تكوّن هذا البيت..؟
لقد تقدم لخطبتها علية القوم فآثرت أن تُخطب لأحد المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة في عام 1963 م، وهوالأخ “كمال السنانيري”. وكان هذا الارتباط في وقته قمة التحدي للحاكم الفرد الطاغية الذي قرر أو تُقرِر له من قِبل صانعيه القضاء على دعاة الإسلام بالقتل أو الإهلاك بقضاء الأعمار داخل السجون..!!
وانتظرت “أمينة قطب” زوجها عشر سنوات.. وفي عام (1973) خرج زوجها من السجن وتكوّن البيت.
خاتمة
لعلك تدركين الآن ـ يا أختاه ـ أن تاريخ هذا الدين وقد رُسم فيه وجوهٌ كريمة تمثّله، فوجه المرأة ليس أقلها بروزاً ووضوحاً.
وليس من العبث أن تاريخ هذا الدين يحفظ في ذاكرته أسماء نساء عشن في لحظات ما قضية هذا الدين..
فلتأخذي دورك يا أختاه.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً.
…………………………………….
الهوامش:
- صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان رقم 16.
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
- رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيحٌ.
- رواه البخاري: 3798.
- صحيح البخاري ،كتاب المناقب 3385.
- صحيح مسلم ،كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي طلحة رضي الله عنه 2144.
المصدر:
- مجلة البيان شوال – 1409هـ، مايو – 1989م، (السنة: 3)، د. محمد محمد بدري