العالم اليوم يحتاج الى الإسلام كما كان يحتاج اليه قبل ألف عام، ليخلصه من الشرك بألوانه، ومن الطغيان والاستبداد، ومن الإغراق المتلف في الشهوات.
مقدمة
هل تخلصت البشرية من الخرافة؟ هل تخلصت من سلطان الطغاة والجبارين..؟ هل تخلصت من ضغط الجسد وصراخ الشهوات..؟
نصف سكان العالم ما يزالون وثنيين يعبدون الأصنام، في الهند والصين والقبائل المتفرقة في أنحاء الأرض. وما يقرب من نصفهم يعبدون خرافة أخرى لا تقل انحرافاً بالناس عن الحق، ولا إفساداً لضمائرهم ومشاعرهم وعلاقات بعضهم ببعض، بل ربما كانت أكثر انحرافاً وأشد خطراً: تلك الخرافة هي “العلم”..!!
فما أحوج العالم اليوم إلى الإسلام، كما كان محتاجاً إليه قبل ألف وثلاثمائة عام..! ما أحوجه إليه ينقذه من الخرافة، ويرفع عقله وروحه من التردّي فيها، سواء كانت الخرافة هي “عبادة الأوثان”، أو “عبادة العلم” على الصورة الزريّة التي يمارسها أهل الغرب “المتقدمون”.
بل ما أحوجه إليه يعيد السِلْم بين الدين والعلم، ليعيد الاستقرار إلى الكائن البشري الذي تمزقه عقائد الغرب الفاسدة، فتفصل بين عقله ووجدانه، وتخالف بين حاجته إلى العلم وحاجته إلى الله..!
نزع عقيدة الصراع مع الله
ما أحوجه إليه يزيل بقية الروح الإغريقية الخبيثة، التي ورثتها أوربا الحديثة من تاريخها القديم في عصر الإحياء، والتي كانت تصور العلاقة بين البشر والآلهة علاقة خصام وصراع، وتجعل كل سر من أسرار المعرفة أو كل خير يتوصل إليه بشر، شيئا منتزعا من الآلهة قسراً عنهم، لو استطاعوا لمنعوه، وبذلك يعتبر كل كشف علمي انتصاراً على هؤلاء الآلهة وتشفيا فيهم..!
تلك الروح الخبيثة ما تزال في العقل الباطن الأوربي والغربي عامة، تتبدى حيناً في بعض تعبيراتهم مثل “قهر الإنسان للطبيعة” أو “العلم ينتزع الأسرار”.. الخ. وتتبدى في طريقة إحساسهم بالله، وشعورهم بأن عجز الإنسان هو ـ وحده ـ الذي يضطره للخضوع لله، فكل كشف علمي يتوصل له الإنسان يرفعه درجة، ويخفض الإله درجة، وهكذا حتى يعرف الإنسان كل أسرار العلم، ويخلق الحياة (وهو الحلم الذي يخايل ” للعلماء ” اليوم) وعندئذ يتخلص نهائيا من الخضوع لله، ويصبح هو الإله..!
ما أحوج العالم للإسلام اليوم، ينقذه من هذه الضلالة، ويرد لروحه الأمن والسلام. ويشعره بعطف الله عليه ورحمته، وأن كل معرفة يصل إليها أو خير يصيبه إنما هو منحة من الله يمنحها له، وهو راض عنه ـ مادام يستخدمها في خير المجموع ـ وأن الله في الإسلام لا يغضب على الناس حين “يعرفون” ولا يخشى منافستهم له سبحانه..! وإنما يغضب عليهم فقط حين يستغلون معرفتهم في الضرر والإيذاء.
التخلص من الجبارين
وما أحوج الناس إلى الإسلام اليوم ينقذهم من الطغاة والجبارين كما كان ينقذهم منهم قبل ألف وثلاثمائة عام..!
والجبارون اليوم كثيرون، بعضهم ملوك، وبعضهم أباطرة، وبعضهم رأسماليون يمتصون دماء الكادحين ويقهرونهم بذل الفقر والحاجة، وبعضهم دكتاتوريون يحكمون بالحديد والنار والتجسس، ويقولون: إنهم ينقذون إرادة الشعوب أو إرادة البروليتاريا..!
والإسلام ينقذ الناس من الجبابرة في عالم الواقع لا في عالم الأحلام. ولقد يطيب لبعض الناس أن يسأل: فما بال الإسلام لم ينقذ أهله من حكامه الجبابرة الذين ما يزالون يكتمون أنفاسه ويمتصون دماءه وينتهكون حرماته، باسم الإسلام؟
والجواب أن الإسلام لا يحكم في هذه البلاد، بل ينطبق عليهم قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44] وقوله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].
حين يحكم الإسلام
والإسلام الذي ندعو إليه ليس بطبيعة الحال ذلك الإسلام الذي يزاوله الحكام في الشرق الإسلامي، ويخالفون به كل شرائع الله، ويحكمون بدساتير أوربا مرة، وبنظرية الحق الإلهي مرة، ولا يعدلون بين الناس في هذا ولا ذاك.
الإسلام الذي ندعوا إليه هو الإسلام الذي يهز العروش، ويطيح من فوقها بجبابرتها، وينزلهم على حكمه أو ينفيهم من الأرض: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الرعد: 17].
وحين يحكم هذا الإسلام ـ وهو لا بد حاكم بإذن الله وتأييده ـ فلن يكون جبار في أرض الإسلام، لأن الإسلام لا يقبل الجبابرة، ولا يسمح لأحد أن يحكم بأمره في الأرض. وإنما بأمر الله ورسوله. والله يأمر بالعدل والإحسان.
وحين يحكم هذا الإسلام، أي حين يتربى جيل من الشباب يؤمن به ويجاهد في سبيله، لن يكون للحاكم إلا تنفيذ شريعة الله، وإلا فلا طاعة له على الناس بصريح قول الخليفة الأول: «أطيعوني ما أطعْتُ الله فيكم، فإن عصيتُ الله فلا طاعة لي عليكم”. ولن يكون للحاكم حق في المال أو في التشريع زائد على حقوق أي فرد من أفراد الشعب، ولن يتولى ذلك الحاكم سلطانه إلا بانتخاب الناس له انتخاباً حراً طليقاً من كل قيد، إلا قيد الرشد والعدل والإحسان.
وحين يحكم هذا الإسلام فلن يخلِّص المسلمين من الجبروت الداخلي فحسب، بل يخلصهم كذلك من الطغيان الأجنبي في صورة “استعمار” أو “تهديد بالاحتلال”؛ ذلك أن الإسلام دين عزة ومنعة، يأبى الخضوع لهذا الاحتلال ويستنكره، ويجعل حساب الله عسيراً على الرضا به أو الخنوع لسلطانه. ويدعو لمقاتلته بكل ما في الطاقة من وسائل الجهاد.
فما أحوجنا إلى الإسلام اليوم، نقف تحت رايته، فنطهر أرضنا من دنس الاحتلال، ونستخلص من قبضته الخبيثة أرواحنا وأموالنا وأعراضنا وعقائدنا وأفكارنا، لنصير جديرين باسم الله الذي نعبده، وبدينه الذي ارتضاه لنا يوم قال سبحانه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة:3].
الإنقاذ من الشهوات
وما أحوج العالم للإسلام ينقذه من سلطان الشهوات..
هذه هي أوربا قد غرقت في شهواتها الدنسة لا تفيق منها. فماذا كانت نتيجة ذلك في العالم كله؟ لقد تقدم العلم، نعم، ولكن البشرية لم تتقدم، ولم يحدث قط أن تقدمت البشرية وهي مستعبدة لشهواتها، غارقة في المتاع الحسي الغليظ.
ولقد يُبهر التقدم العلمي بعض الناس في الشرق والغرب، فيحسبون أن الطائرة الصاروخية والقنبلة الذرية وجهاز الراديو والغسالة الكهربائية هي التقدم..! ولكن ذلك ليس مقياسه الحق، وإنما المقياس الذي لا يخطئ هو مقدار “استعلاء الإنسان” على ضروراته؛ فهو مرتفع كلما استطاع، وهو هابط كلما أخفق، مهما ارتقت علومه ومعارفه.
شهادة التاريخ والواقع المعاصر
وليس هذا مقياساً تحكمياً تضعه الأديان، أو علم الأخلاق، بغير مبرر ولا رصيد من الواقع.
فلنستعرض التاريخ.. كم أمة استطاعت أن تعيش قوية متماسكة، تعمل لخير البشرية وتقدمها، بينما أهلها مشغولون بالمتاع الزائد عن الحد؟
ما الذي حطم مجد اليونان القديمة؟ وروما القديمة؟ وفارس القديمة؟
ما الذي حطم العالم الإسلامي في نهاية العصر العباسي؟
وكيف صنعت فرنسا “الداعرة” في الحرب الأخيرة؟ ألم تسلّم عند أول ضربة، لأنها أمة مشغولة بمباذلها وشهواتها عن الاستعداد النفسي والمادي للدفاع عن بلادها؟ أمة تخاف على عمائر باريس ومراقصها من تدمير القنابل، أكثر مما تخاف على كيانها وكرامتها “التاريخية”..؟!
وربما كانت أمريكا هي المثل الذي يخايل للمستغفلين في الشرق، فهي أمة غارقة في المتاع الدنس، ومع ذلك فهي قوية مسيطرة ذات سلطان، وإنتاجها المادي هو أضخم إنتاج في الأرض. كل ذلك صحيح؛ ولكن الذين تخايل لهم أمريكا ينسون أنها أمة فتية مذخورة القوة ما تزال في عنفوانها النفسي والجسدي. والشباب دائماً أقدر على احتمال المرض، بحيث يبدو من الظاهر كأنه لا يترك أثراً فيه. ولكن عين الخبير تستطيع ـ مع ذلك ـ أن تبصر أعراض المرض من وراء مظاهر القوة الخادعة. ويكفي أن نذكر هذين الخبرين الصارخين اللذين وردا في الصحف ليعرف المخدوعون أن سنة الله في خلقه لا تتغير، وأن العلم بكل مخترعاته لا يغير طبائع النفوس، ولا طبائع الأشياء، لأنه هو ذاته جزء من سنة الله ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾.
الخبر الأول هو طرد (33) موظفاً من وزارة الخارجية الأمريكية لأنهم مصابون بالشذوذ الجنسي، ولأنهم بهذه الصفة لا يؤتمنون على أسرار الدولة..!
والخبر الثاني هو فرار مائة وعشرين ألفاً من التجنيد الإجباري في أمريكا، وهو عدد ضخم بالنسبة لمجموع الجيش الأمريكي، وبالنسبة لأمة فتية تريد أن تكافح للسيادة على العالم..!
والبقية تأتي ـ ولا بد أن تأتي ـ إذا استمر القوم على المتاع الدنس الذي هم غارقون فيه.
هذه واحدة. والثانية أن إنتاج أمريكا الضخم هو إنتاج في عالم المادة وحدها. ولكنها على ثرائها وفتوتها وعظم الطاقة المذخورة في أرضها وناسها لم تنتج شيئاً يذكر في عالم المبادئ والقيم العليا، لأنها غارقة في انطلاقة جسدية فارهة، ولا ترتفع كثيراً عن محيط الحيوان، وتهبط كثيراً إلى ما يشبه اندفاعات الآلات..! ويكفي أن تكون هي الأمة التي تعامل الزنوج تلك المعاملة الوحشية البشعة، لكي نعرف مستواها النفسي، وآفاقها البشرية.
كلا..! لا يرتفع العالم بالهبوط في حمأة الشهوات.
خاتمة
ما أحوج العالم إلى الإسلام اليوم، كما كان في حاجة إليه قبل ألف وثلاثمائة عام، لينقذه من العبودية للشهوة، ويطلق طاقته الحيوية إلى آفاقها العليا، لتنشر الخير، وتصبح جديرة بما كرمها الله به..!
المصدر:
- كتاب “شبهات حول الإسلام” محمد قطب رحمه الله، ص13-19.
اقرأ أيضا:
الغرب والاسلام .. يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
نسل قوم لوط .. قانون وإعلام ودولة!!