بلّغ النبي، صلى الله عليه وسلم، الحق وأقامه. ومضى من بعده العلماء يبلغون رسالته، وأمراء المسلمين يقيمون السلطان بالحق؛ فإن اعوجّ الأمراء قوّمهم العلماء. وإن سقط تمكين الحق فلا يسقط واجب البلاغ وجهاد العلماء.

مقدمة

قال الله عز وجل: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 51-52]. قال الشيخ السعدي:

“يخبر تعالى عن نفوذ مشيئته وأنَّه لو شاء لبعث في كلِّ قرية نذيرًا، أي: رسولًا ينذرهم ويحذِّرهم، فمشيئته غير قاصرة عن ذلك، ولكن اقتضت حكمته ورحمته بك وبالعباد ـ يا محمد ـ أنْ أرسلك إلى جميعهم، أحمرهم وأسودهم، عربيهم وعجميهم، إنسهم وجنهم.

﴿فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ﴾ في ترك شيء مما أرسلت به؛ بل ابذل جهدك في تبليغ ما أرسلت به. ﴿وَجَاهِدْهُمْ﴾ بالقرآن ﴿جِهَادًا كَبِيرًا﴾ أي: لا تُبق من مجهودك في نصر الحق وقمع الباطل إلَّا بذلته ولو رأيت منهم من التكذيب والجراءة ما رأيت، فابذل جهدك واستفرغ وسعك، ولا تيأس من هدايتهم ولا تترك إبلاغهم لأهوائهم”. اهـ  (1تيسير الكريم الرحمن (ص 585))

ولهذه الآية نظائر كثيرة في القرآن؛ منها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ [آل عمران:100]. وقال تعالى: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف:28]. وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [الأحزاب:1-3].

وقوله تعالى: ﴿جِهَادًا كَبِيرًا﴾ يذكّرنا بعظم الأمانة التي في أعناق العلماء وعموم المنتسبين للعلم؛ فمهمَّتهم أنْ يصدعوا بقول الحق في كل موطن ومحفل، وخاصة عند تجبر المتجبرين وغطرسة المتغطرسين، ولذلك كان عند الله عزَّ وجلَّ من يقتل لصدعه بالحقِّ سيد الشهداء؛ قال رسول الله صـلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله». (2أخرجه الحاكم (3/ 195) وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة (374))

قال المناوي:

“«ورجل قام إلى إمام جائر فأمره» بالمعروف «ونهاه» عن المنكر «فقتله» لأجل أمره أو نهيه عن ذلك، فحمزة سيد شهداء الدنيا والآخرة، والرجل المذكور سيد الشهداء في الآخرة لمخاطرته بأنْفَسِ ما عنده وهي نفسه في ذات الله تعالى. اهـ (3فيض القدير (4/ 121))

أول الجهاد

وقد  كان أول جهاد النبي، صـلى الله عليه وسلم، للمشركين بالقرآن؛ يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

“..ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان، وهذا المشارك فيه كثير. والثاني: الجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادَين لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه؛ قال تعالى في سورة الفرقان ـ وهي مكية ـ: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾؛ فهذا جهاد لهم بالقرآن وهو أكبر الجهادَين وهو جهاد المنافقين أيضًا؛ فإنَّ المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين، بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم ومع هذا فقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾، ومعلوم أنَّ جهاد المنافقين بالحجة والقرآن. اهـ (4مفتاح دار السعادة (1/ 70))

ويقول شيخه ابن تيمية، رحمه الله تعالى:

“فمعلوم أنَّ الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد، ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾. فأمره الله سبحانه وتعالى أن يجاهد الكفار بالقرآن جهادًا كبيرًا، وهذه السورة مكية نزلت بمكة قبل أن يُهاجر النبي وقبل أن يُؤمر بالقتال، ولم يؤذن له، وإنما كان هذا الجهاد بالعلم والقلب والبيان والدعوة لا بالقتال..”. اهـ (5منهاج السنة النبوية (8/ 63))

استهداف أهل القرآن والعلم

وتسلُط الكفار على أهل القرآن ـ القائمين به حقًّا ـ مشاهَد معلوم؛ فها هي عدن تقدم ثلَّة من أولئك الأبرار، وقدّمت أفغانستان جماعات منهم في قصف غادر قبل سنوات قليلة، وتقدم مصر والشام وغيرهما كل يوم جماعات من هؤلاء الأبرار..

وحمَلة القرآن حقًّا هم أشد خطرًا على الكفار من غيرهم؛ لأنهم هم الذين يخشون الله عزَّ وجلَّ ويلتزمون أحكامه الداعية للإيمان والطُهر، وهم الذين يدْعون الناس لكل خير؛ فهم صمام أمان الأمة الإسلامية.. أمَّا الغافلون والجهلة فمهما اشتدَّ خطرهم فإنهم لا يمثلون أي قيمة تُذكر عند أعداء الله عزَّ وجلَّ؛ لسهولة فتنتهم بالشهوات والشبهات؛ عن معاوية رضي الله عنـه يقول: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَاتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ». (6أخرجه البخاري (3641) ومسلم (1037))

فليجتهد كلُّ مُنتسب للعلم ـ بل كلُّ مسلم ـ أن يكون من تلك الطائفة القائمة بأمر الله عزَّ وجلَّ مهما خذلها الناس ومهما خالفوها؛ فمن يتخلَّى عن شرعة الله عزَّ وجلَّ ويميل مع جهات لا ترفع راية الإسلام؛ فلن يضرَّ إلَّا نفسه.. وهذه هي العلامة الفارقة بين من يدعو إلى سبيل الرحمن وبين من يدعو إلى سبل الشياطين.

خطورة الرايات العِمّيّة

وليحذر كلُّ مسلم من نصرة الرايات الجاهلية، وكذلك من نصرة الرايات العِمّية الخفية التي لا يتبين الحقُّ فيها من الباطل؛ عن أبي هريرة رضي الله عنـه عن النبي صـلى الله عليه وسلم أنه قال: «.. مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عميَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ». (7رواه مسلم (1848))

وما أشبه قوله صـلى الله عليه وسلم: «يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا..» بما يحدث في زماننا هذا في اليمن شماله وجنوبه ومصر والشام وغيرها من مجرمين يغتالون عباد الله المصلين والدعاة والعلماء..

وليس العجب من الرؤوس المدبرة والموجهة لهذه الأفعال الإجرامية؛ فهم كما يعلم القاصي والداني لا يراعون حرمة لله عزَّ وجلَّ؛ بل العجَب ممن يعينهم على ذلك ممن انتسب للعلم والدِّين الذين لا يبالون بسفك الدماء الزكية على أيدي هؤلاء المجرمين؛ طمعًا في دنيا لن تبقى لهم ولن يبقوا لها..

مواقف مشرفة للتأسي اليوم

وفي تاريخ علماء الإسلام مواقف عظيمة امتلأت بها صفحاتهم البيضاء؛ فمن هؤلاء:

الإمام الأوزاعي

قال عنه الخريبي: كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه. (8سير أعلام النبلاء (7/ 107-134))

قال يَعْقُوْبُ بنُ شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الملكِ بنُ الفَارِسِيِّ ـ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِـ حَدَّثَنَا الفِرْيَابِيُّ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَلِيٍّ ـ يَعْنِي: عَمَّ السَّفَّاحِ ـ مِنْ قَتْلِ بَنِي أُمَيَّةَ، بَعَثَ إِلَيَّ، وَكَانَ قَتَلَ يَوْمَئِذٍ نَيِّفًا وَسَبْعِيْنَ مِنْهُم بِالكَافِركُوبَاتَ ـ المقارع ـ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا تَقُوْلُ فِي دِمَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ؟ فَحِدْتُ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمتُ مِنْ حَيْثُ حِدْتَ، فَأَجِبْ. قَالَ: وَمَا لَقِيْتُ مُفَوَّهًا مِثْلَه، فَقُلْتُ: كَانَ لَهُم عَلَيْكَ عَهْدٌ. قَالَ: فَاجْعَلْنِي وَإِيَّاهُم وَلاَ عَهْدَ، مَا تَقُوْلُ فِي دِمَائِهِم؟ قُلْتُ: حَرَامٌ؛ لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ صـلى الله عليه وسلم: «لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ…» الحديث. (9رواه البخاري (6878) ومسلم (1676)) فَقَالَ: وَلِمَ، وَيْلَكَ..؟! وَقَالَ: أَلَيْسَتِ الخِلاَفَةُ وَصِيَّةً مِنْ رَسُوْلِ اللهِ، قَاتَلَ عَلَيْهَا عَلِيٌّ رضي الله عنـه بِصِفِّينَ. قُلْتُ: لَوْ كَانَتْ وَصِيَّةً مَا رَضِيَ بِالحَكَمَينِ. فَنَكَسَ رَأْسَهُ، وَنَكَسْتُ، فَأَطَلْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: البَولَ. فَأَشَارَ بِيَدِهِ: اذْهَبْ. فَقُمْتُ، فَجَعَلتُ لَا أَخطُو خُطوَةً إِلَّا قُلْتُ: إِنَّ رَأْسِي يَقَعُ عِنْدَهَا.

وقال سُلَيْمَانُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عِيْسَى: حَدَّثَنَا أَبُو خُلَيْدٍ عُتْبَةُ بنُ حَمَّادٍ القَارِئُ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: بَعَثَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَلِيٍّ إِلَيَّ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيَّ، وَقَدِمْتُ، فَدَخَلْتُ وَالنَّاسُ سِمَاطَانِ ـ صَفَّان ـ فَقَالَ: مَا تَقُوْلُ فِي مَخْرَجِنَا وَمَا نَحْنُ فِيْهِ..؟ قُلْتُ: أَصلَحَ اللهُ الأَمِيْرَ، قَدْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ دَاوُودَ بنِ عَلِيٍّ مَوَدَّةٌ. قَالَ: لَتُخْبِرَنِّي. فَتَفَكَّرْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: لأَصْدُقَنَّهُ. وَاسْتَبسَلْتُ لِلْمَوْتِ، ثُمَّ رَوَيتُ لَهُ عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ حَدِيْثَ الأَعْمَالِ، وَبِيَدِهِ قَضِيبٌ يَنكُتُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! مَا تَقُوْلُ فِي قَتْلِ أَهْلِ هَذَا البَيْتِ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ مَرْوَانَ، عَنْ مُطَرِّفِ بنِ الشِّخِّيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ: عَنِ النَّبِيِّ، صـلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لاَيَحِلُّ قَتْلُ المُسْلِمِ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ…»، وَسَاقَ الحَدِيْثَ.

فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الخِلاَفَةِ، وَصِيَّةٌ لَنَا مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صـلى الله عليه وسلم؟ فَقُلْتُ: لَوْ كَانَتْ وَصِيَّةً مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صـلى الله عليه وسلم مَا تَرَكَ عَلِيٌّ رضي الله عنـه أَحَدًا يَتَقَدَّمُهُ.

قَالَ: فَمَا تَقُوْلُ فِي أَمْوَالِ بَنِي أُمَيَّةَ؟ قُلْتُ: إِنْ كَانَتْ لَهُم حَلاَلًا، فَهِيَ عَلَيْكَ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِم حَرَامًا، فَهِيَ عَلَيْكَ أَحرَمُ.

فَأَمَرَنِي، فَأُخْرِجْتُ.

قُلْتُ ـ القائل الذهبي ـ : قَدْ كَانَ “عَبْدُ اللهِ بنُ عَلِيٍّ” مَلِكًا جَبَّارًا، سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ، صَعبَ المرَاسِ، وَمَعَ هَذَا فَالإِمَامُ الأَوزَاعِيُّ يَصْدَعُهُ بِـمُـرِّ الحَقِّ كَمَا تَرَى، لاَ كَخَلْقٍ مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ الَّذِيْنَ يُحَسِّنُوْنَ لِلأُمَرَاءِ مَا يَقْتَحِمُوْنَ بِهِ مِنَ الظُّلمِ وَالعَسْفِ، وَيَقلِبُوْنَ لَهُمُ البَاطِلَ حَقًّا ـ قَاتَلَهُمُ اللهُ ـ أَوْ يَسكُتُوْنَ مَعَ القُدْرَةِ عَلَى بَيَانِ الحَقِّ”. (10سير أعلام النبلاء (7/ 125))

عزُّ الدين بن عبد السلام

وهو سلطان العلماء، عزُّ الدين بن عبد السلام، رحمه الله تعالى؛ يقول الحافظ ابن حجر:

“ومما اشتهر من شهامته أنَّه حضر مجلس السلطان؛ وَكَانَ اطلع عَلَى حانة يباع فِيهَا الخمر، ويفعل فِيهَا المنكرات؛ فقال:  يَا أيوب كيْفَ يسعك فِي دينك أن تكون الحانة الفلانية فِي سلطانك؟ فقال: يَا مولانا، أنا مَا عملت هَذَا، بل هو من زمان أبي.

فقال: أفترضى أن تكون ممن يقول يوم القيامة: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾..؟

فما وسعه إِلَّا أن أمر بإِبطال ذَلِكَ.

وسُئل الشيخ بعد أن انفصل المجلس: كيْفَ تجسرت عَلَى هَذَا السلطان مع شدة سطوته؟ قال: رأيته قَدْ تعاظَم فِي موكبه، فأردتُ أن أهينه. فقيل لَهُ: فما خفتَه؟ فقال: استحضرت هيبة الله فِي قلبي، فصرتُ أراه كالقط. اهـ (11رفع الإصر عن قضاة مصر (ص240)، وانظر طبقات الشافعية للسبكي (8/ 211))

تقي الدين ابن تيمية

شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ الذي جعله الله عزَّ وجلَّ صمام أمان لأمة الإسلام في عصره ، بل وما بعده من خلال تراثه؛ قال أبو حفص البزار:

“الفصل الحادي عشر في ذكر قوة قلبه وشجاعته.

كان رضي الله عنـه من أشجع الناس وأقواهم قلبًا؛ ما رأيت أحدًا أثبت جأشًا منه، ولا أعظم عناء في جهاد العدو منه؛ كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده ولا يخاف في الله لومة لائم..”.

إلى أن قال:

“ولما ظهر السلطان “غازان” على دمشق المحروسة جاءه ملك “الكرج” وبذل له أموالًا كثيرة جزيلة على أن يمكّنه من الفتك بالمسلمين من أهل دمشق، ووصل الخبر إلى الشيخ فقام من فوره وشجّع المسلمين ورغّبهم في الشهادة، ووعدهم على قيامهم بالنصر والظفر والأمن وزوال الخوف، فانتدب منهم رجال من وجوههم وكبرائهم وذوي الأحلام منهم، فخرجوا معه إلى حضرة السلطان “غازان” فلما رآهم السلطان قال: من هؤلاء؟ فقيل: هم رؤساء دمشق. فأذن لهم فحضروا بين يديه، فتقدم الشيخ رضي الله عنـه أولًا، فلما أن رآه أوقع الله له في قلبه هيبة عظيمة حتى أدناه وأجلسه، وأخذ الشيخ في الكلام معه أولًا في عكس رأيه عن تسليط المخذول “ملك الكرج” على المسلمين، وضمن له أموالًا وأخبره بحرمة دماء المسلمين، وذكّره ووعظه؛ فأجابه إلى ذلك طائعًا، وحُقنت بسببه دماء المسلمين وحميت ذراريهم وصين حريمهم. اهـ (12الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (ص 67، 69))

وهكذا ينبغي أن يكون أهل العلم أَوْلَى بالشجاعة من الجنود والمقاتلة؛ فهم من يحملون في صدورهم الآيات البينات التي تَثْبُت بها أفئدتُهم وتتيقن بوعد الله عزَّ وجلَّ بالظفر والتمكين والجنة..

خاتمة

لْنتأمل قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّ‍ينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران:21].

ففيه بيان لما يتعرَّض له أهل القرآن جَرَّاء أمرهم بالقسط على يد من يكفر بآيات الله عزَّ وجلَّ؛ قال القاضي أبو بكر بن العربي عند تفسيره هذه الآية:

“قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِ الْآمِرِ بِهِ..

الْمُسْلِمُ الْبَالِغُ الْقَادِرُ يَلْزَمُهُ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالْأَخْبَارُ مُتَظَاهِرَةٌ، وَهِيَ فَائِدَةُ الرِّسَالَةِ وَخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ..

وَأَمَّا الْقُدْرَةُ فَهِيَ أَصْلٌ، وَتَكُونُ مِنْهُ فِي النَّفْسِ وَتَكُونُ فِي الْبَدَنِ إنْ احْتَاجَ إلَى النَّهْيِ عَنْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تَغْيِيرِهِ الضَّرْبَ أَوْ الْقَتْلَ، فَإِنْ رَجَا زَوَالَهُ جَازَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ الِاقْتِحَامُ عِنْدَ هَذَا الْغَرَرِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجُ زَوَالَهُ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِيهِ..؟”. اهـ (13أحكام القرآن (1/ 349 – 350))

يحتاج العلماء اليوم كثيرا الى استحضار معنى الآيات، ومواقف التاريخ، ليكفوا عن الترخص المحرم، وعن الانزلاق في الفتنة، وعن النكوص عن واجب البيان.. وليقوموا بواجب جهاد البيان؛ ليستنقذوا ملايين الخلق من الفتن المتلاحقة التي تبتلعهم كل يوم وتقتنص فريقا منهم الى الهلاك.

وفقنا الله عزَّ وجلَّ وعلماء أمتنا للقيام بما أخذ الله علينا من العهد والميثاق.

الهوامش

  1. تيسير الكريم الرحمن (ص 585).
  2. أخرجه الحاكم (3/ 195) وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة (374).
  3. فيض القدير (4/ 121).
  4. مفتاح دار السعادة (1/ 70).
  5. منهاج السنة النبوية (8/ 63).
  6. أخرجه البخاري (3641) ومسلم (1037).
  7. رواه مسلم (1848).
  8. سير أعلام النبلاء (7/ 107-134).
  9. رواه البخاري (6878) ومسلم (1676).
  10. سير أعلام النبلاء (7/ 125).
  11. رفع الإصر عن قضاة مصر (ص240)، وانظر طبقات الشافعية للسبكي (8/ 211).
  12. الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (ص 67، 69).
  13. أحكام القرآن (1/ 349 – 350).

اقرأ أيضا:

استهداف العلماء

العلماء ومسؤولية البلاغ

أمور يجب على أهل العلم بيانها للناس

الأمة تفتقدكم .. فأين أنتم يا معشر العلماء

التعليقات غير متاحة