ثغور المسلمين كثيرة ومتعددة ومتنوعة، وكل ثغر له أهميته وخصوصيته؛ سواء أكان هذا الثغر ساقةً، أو حراسةً، أو قيادةً؛ فكلٌّ له دورُه المكمِّل لدور الآخرين.
مقدمة
في ظل الانفتاح العالمي، وتزايد سبل الانحراف، وإغراء الشباب، وجذبهم إلى متاهات الفساد؛ حيث أصبح كُلٌّ من “الشارع، والصاحب، والنت، والكمبيوتر المحمول، والفضائيات” يؤدِّي دوراً خطيراً وعميقاً في التأثير عليهم بشكل أوسع، وأكثر عمقاً من ذي قبل، ويزاحم روادَ الإصلاح في عملية التربية والتوجيه بشكلٍ سلبي، في ظل ذلك كله يُفترَض أن نُلقِيَ إلى الشباب طوقَ النجاةِ ليتشبَّثُوا به في خضم هذا التيه الجارف المظلم.
قصور العمل التربوي
إلا أنَّ الواقع اليوم ينبئك بأسىً وألمٍ بزُهدِ كثير من المصلحين في الاهتمام بأحد أهم صمامات الأمان لهذه الأمة “العمل التربوي”؛ بل تجاهل الثغرات الأساس فيه، والعزوف عن المواجهة، حتـى بات العامل الجاد في الميدان التربوي اليوم يعيش غُربةً ما بعدها غربة، في زمنٍ عزَّ فيه الغرباء الذين يصلحون ما أفسدهُ الناس؛ إلا أنَّ المربِّي في زمن الغُربةِ يدافعها بعون من الله، متسلِّحاً بصدقِ النية، والعمل الدؤوب، الذي لا يعرف الكلل ولا الملل.
جبل الرماة اليوم
إن العمل التربوي اليوم يمثِّلُ ـ بحقٍّ ـ مكان “جبل الرماة” في معركة أُحُد؛ سواء أكان ذلك في المكان والمكانة والأهمية، أو الدور الحيوي الذي يقوم به، أو خطورة التفريط في ثغراته، وآثار ذلك على العباد والبلاد.
أوجه الشبه، والقواسم مشتركة:
المكانة والأهمية
يمتاز جبل الرماة بالموقع الاستراتيجي؛ حيث كان يحمي ظهور المسلمين إبَّان المعركة والقتال مع المشركين، فكان حمىً منيعاً، يحمي ظهور المسلمين من التفاف المشركين عليهم وغزوهم من جهته.
وكذلك هو العمل التربوي اليوم، يتسنَّم مكانة إستراتيجية في العملية الإصلاحية، بل يُعدُّ أنجع السبل الإصلاحية؛ ذلك أنه يحمي شباب الأمة من الانحراف الذي يصبو له الأعداء.
الدور الحيوي
كان لجبل الرماة دور حيوي مهم في معركة أحد، وكانت الثغراتُ التي يسدُّها مهمةً من جهتين:
الأولى: حماية ظهور المسلمين من المشركين.
الثانية: مدافعة المشركين بالسهام؛ ولا سيما أن الرماة في مرتفَعٍ؛ فوقوع السهام سيكون أسرع وأعمق أثراً.
وهكذا العمل التربوي اليوم لا تستغني الأمة عن دوره الحيوي من جهتين على الأقل:
الأولى: حماية شباب الأمة من التفاف الأعداء عليهم وإضلالهم.
الثانية: ضربُ الأعداء، وإضعافُهم، وكسرُ شوكتهم؛ عبر تكثير سواد المسلمين، وإعداد الصالحين والمصلحين منهم؛ لتتسع الدائرة، وتقوى شوكة الإسلام والمسلمين.
معرفة الواقع وفقهه
كان لجبل الرماة الدور البارز في معرفة واقع المعركة؛ من حيث الفرص المتاحة، والمخاطر المهدِّدة، ونقاط القوة ونقاط الضعف، وكشف الأعداء، ومواقعهم وتحركاتهم.. كان لكل ذلك دور في تغيير تكتيك المعركة؛ حسب المصلحة والحاجة.
فالتربية أَوْلى بمعرفة الأولويات الإصلاحية عبر الواقع؛ من حيث الفرص والمخاطر، ونقاط القوة والضعف التي تحيط بالشباب، ومعرفة خطط الأعداء، والفئات المستهدفة، ووسائل وطُرق الإفساد، ومعرفة الأساليب القديمة والحديثة في ذلك؛ لأن القريب من الواقع، والمطَّلِع المعايش ينكشف له من الحقائق والتصورات ما لا ينكشف لغيره.
الانتقاء
لقد انتقى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خمسين من الرماة تحت إمرة عبد الله بن جبير، رضي الله عنه. ولا شك أن هذا الانتقاء كان انتقاءً مخصوصاً لرماة متمرسين متدرِّبين على مهارة الرمي؛ حتى يصيبوا الأعداء في مقتل.
وهكذا التربية اليوم؛ ينبغي أن يُنتَقى من يمارسها انتقاءً خاصّاً؛ بحيث يكون مؤهَّلاً لحمل هذه الأمانة، وقادراً على تحمُّل المسؤولية، متمكِّناً من المهارات الدعوية والتربوية.
كلُّنا على ثَغْرٍ وخَيرٍ
ثغور المسلمين كثيرة ومتعددة ومتنوعة، وكل ثغر له أهميته وخصوصيته؛ سواء أكان هذا الثغر ساقةً، أو حراسةً، أو قيادةً، أو غير ذلك؛ فكلٌّ له دورُه المكمِّل لدور الآخرين؛ يقول – صلى الله عليه وسلم -: «طوبى لعبدٍ آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثٌ رأسه، مغبرَّةٌ قدماه؛ إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفَع لم يشفَّع». (1صحيح البخاري، حديث رقم، (2887))
فالعمليـة تكامُلية إذن ولا ينقـدُ أحـد أحـداً، ولا يُعاب من يخدم دين الله في أي مكان وزمان؛ إنما العيب في القعود والتقاعس، والتَّرْك، ولمز وهمز العاملين لدين الله دون تصوُّر الأمور على حقيقتهـا؛ فتجد بعض النـاس يعيب علـى أهل التربية انشغالهم بتربية الشـباب واهتمـامهم بهم، فينسـى فضلهـم.
وآخر قد يعيب على من يهتم بالجانب الاجتماعي والإغاثي، وأن الاهتمام بغيرها أولى وأحرى، وآخرون يظنون أن نجاة شباب الأمة في اهتمامهم بالجانب العلمي البحت فقط، وثمة آخرون يظنون أن النصر والتمكين لن يكون إلا عبر بوابة الجهاد في سبيل الله ويعيبون غير ذلك من الاهتمامات الشرعية الجادة.
ونقول لهؤلاء وهؤلاء: رويداً، رويداً. نحن جميعاً نمثل منظومة واحدة في الإصلاح المنشود؛ فالأمة تحتاج للإداري المحنك، والعالم الرباني الراسخ في العلم، والمربي الفاضل، والمجاهد الصنديد، والباحث الـمُجيد، ومن يقضي حوائج الناس ويشفع لهم.. كُلٌّ على خير وفضل، وكلٌّ ميسَّر لما خُلق له، وقد علم كل أناس مشربهم، فلا تُشمتوا بنا الأعداء، ولن يَتِرَكُم الله أعمالكم.
الدنيا القاسم المشترك في الإفساد
لَـمَّا رأى الرماة ـ رضي الله عنهم ـ هزيمة المشركين، ورأوا الغنائم في أرض المعركة، جذبهم ذلك إلى ترك مواقعهم، ظنّاً منهم أن المعـركة انتهت، فقالوا لأميرهم عبد الله بن جبير، رضي الله عنه: «الغنيمة! أي قومِ الغنيمة! ظهر أصحـابكم؛ فما تنتظـرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبنَّ من الغنيمة). (2صحيح البخاري، حديث رقم، (3039))
وهكذا التربيةُ اليوم عندما يتخلَّى روادها عنها، وتصبح الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم، ويتنافسون على متاعها تاركين وراء ظهورهم ثغوراً لطالما سدُّوها، وفراغات لطالما شغلوها، وأماكن ومفاصل مهمة في صلاح وحماية الشباب لطالما ثبتوا فيها وعليها، وحمىً لطالما كانوا أبطالاً ورجالاً في حمايتها؛ بصدِّ عدوان أعداء الدين، ومنعهم من الالتفاف على شباب الأمة، نعم.
الأثر المشترك من الترْكِ
إن من أعظم الآثار والمساوئ لترك الرماة ثغورَهم وأماكنَهم: التفافُ الأعداء على المسلمين، وطعنُهم في مقتل؛ ومِنْ ثَمَّ الهزيمةَ الصعبةَ التي لحقت بالمسلمين، ومقْتَلُ كثيرٍ من الصحابة، رضي الله عنهم، تلك هي عاقبة التَّرك، وإيثارِ الدنيا على الآخرة.
وهكذا الأعمال التربوية عندما تترك ثغورَها سيصبح شباب المسلمين لقمةً سائغةً في أفواه أعداء الدين، وسيتفننون في سبل إضلالهم وإفسادهم، وستصاب الأمة في مقتل؛ لأن المستهدف هو أعزُّ ما تملكه الأمة: شبابُها الواعد، وسواعدُها الفتية. وستكون الهزيمةُ الساحقةُ عندها؛ إلا أن يتدارك الله هذه الأمة بخيرٍ، فيُحْيي الضمائر، ويقوِّي العزائم، ويجدِّد الإيمان، وتُؤْثَر الآخرةُ على الدنيا.
الغرباء الأولون والآخرون
لقد شعر الصحابي الجليل عبد الله بن جبير، رضي الله عنه ـ وهو أحد القادة الأفذاذ ـ بالغربة تلفُّه، وهو يشاهدُ أصحابه الخمسين ينزلون من ثغورهم رجلاً إثر آخر؛ إلا من رحم الله، وقد بلغ به الحزن والأسى مبلغاً عظيماً.
كيف لا..؟ وهو يرى الثغور تُترك، وإذا القوم قد خلَّفوا بعدَهم فراغاً كبيراً، فصاح فيهم بصوت السمع والطاعة والانقياد لأمر النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم: «أنسيتم ما قاله لكم رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟».
وهكذا المربي في الزمن الصعب، ممن تخلى عنه إخوانه وذووه، وبات وحيداً غريباً، يعمل في ميدان حيوي خصبٍ؛ يعيش اليوم غربةً تجعله يشعر بمرارة الحزن والأسى، ويصيبه الهَمّ والغمّ؛ لِما آل إليه حال شباب الأمة وهو يرى المربِّين والمصلحين في هذا الميدان الحيوي يتخلَّون عن ثغورهم؛ طمعاً في الدنيا، أو رغبةً في الراحة والدَّعةِ، فيصيح فيهم:
أنسيتم عهودكم ومواثيقكم؟ أنسيتم حرصكم على شباب المسلمين وبكاءَكم على من ضلَّ منهم، وفرحَكم بمن أقبل تائباً، وحزنَكم بمن نكص على عقبيه؟
كيف الحال بكم وأنتم اليوم من نكص وترك؟ تبكيكم حلقات القرآن، وتوعيات المدارس، ونشاطات الأحياء، يبكيكم شباب الأمة وسواعدها الفتية.
خاتمة .. ولقد عفا عنكم
إن الرماة الذين أخطؤوا الاجتهاد في غزوة “أُحُد” لم يخرجهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، خارج الصف، ولم يقل لهم: إنكم لا تَصلُحُون لشيء من هذا الأمر بعد ما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف؛ بل قَبِلَ ضعفَهم هذا في رحمةٍ وعفوٍ، وفي سماحة، ثم شمل الله ـ سبحانه وتعالى ـ برعايته وعفوه جميعَ الذين اشتركوا في هذه الغزوة، على الرغم مما وقع من بعضهم من أخطاء جسيمة، وما ترتب عليها من خسائر، فقال، جل ثناؤه:
﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 152]. (3يُنظَر: غزوة أحد دراسة دعوية، د. يا مدحج، (ص217))
ونقول لكل من أخطأ واجتهد، أو فرَّط في ثغر كان عليه، وحِمى كان يحميه، أو ترك مكاناً شاغراً بعده ـ سواءٌ كان عملاً تربويّاً أو غيره من اهتمامات جادة شرعية ـ: عُدْ؛ فالعود أحمد، وعفا الله عما سلف.
عُدْ بِهمّة تعلو الجبال، وطموح يتجاوز الزمن، وعزيمة تفلُّ الحديد؛ مستشعراً معيَّة الله لك، مستعظماً الدور الذي تقوم به، مستصغراً العقبات والعواقب، مؤْثِراً الآخرة على الدنيا. ﴿وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾. [الأعلى:17]
………………………………..
الهوامش:
- صحيح البخاري، حديث رقم، (2887).
- صحيح البخاري، حديث رقم، (3039).
- يُنظَر: غزوة أحد دراسة دعوية، د. يا مدحج، (ص217).
المصدر:
- سالم أحمد البطاطي، مجلة البيان، العدد : 280