(اتَّقوا اللهَ حَق تُقاتِه): أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط، ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم.
واجب التصدي للمفاهيم المغلوطة لبعض آيات القرآن
لقد ساءنا تحريف المحرِّفين لمعاني كلام رب العالمين، وللنتائج الخاطئة التي خرجوا بها منها، والأحكام الباطلة التي بنوها عليها، كما أزعجنا ازدياد نسبة هذه التحريفات في هذا الزمان، وشمولها لآيات ذات أبعاد شتى، سياسية واجتماعية واقتصادية وعلمية.
وقد قرأنا عن مفاهيم لبعضهم زعموها قرآنية مستمدة من القرآن، كما سمعنا كلاماً كثيراً أورد فيه أصحابه مفاهيم ومعاني زعموها قرآنية، مستمدَّة من آيات معينة، وقَبِل بعض الناس بهذا التحريف، وهذه النتائج والمفاهيم.
وحرصاً منّا على بقاء مفاهيم القرآن كما هي في كتاب الله، وعلى الفهم الصحيح لآيات القرآن، وقياماً منّا بواجب الحراسة على حسن الفهم للقرآن، وواجب الدعوة إلى الله والنصح للمسلمين، وواجب تقديم العلم الذي نراه نافعاً للآخرين، فإننا سنورد نماذج حرَّفوها، واستنبطوا منها أحكاماً ومفاهيم زعموها قرآنية.
نماذج لآيات حرَّفوا معناها: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)
قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [التغابن:16].
قد يُقصِّر بعض المسلمين في بعض الواجبات، وقد يرتكبون بعض المحظورات، وقد يترخصون أمام بعض الأحكام، وقد يتفلتون أمام بعض التكاليف، وقد لا يحققون التقوى التي طالبهم الله بها. وهذه الأمور كلها مخالفات قد يترتب عليها عذاب يوم القيامة.
ولكن بعض هؤلاء لا يكتفون بما وقع منهم، بل يضيفون إليه جريمة أشد، قد يترتب عليها عذاب أكثر إيلاماً. إنهم يلجأون إلى هذه الآية، ويحاولون أن يجدوا فيها دليلاً لهم وإعذاراً، ورخصةً وقبولاً لأعمالهم: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
الفهم المغلوط للآية يضييع مبادئ الإِسلام وأحكامه
إنها تأمر المسلم بتقوى الله على قدر استطاعته -كما يقولون- ولهذا يبذل قدر استطاعته في الالتزام بالواجبات وترك المحظورات، وهذا ما طلبه الله منه. أما إذا ترك بعد ذلك بعض الواجبات فلا شيء عليه ولا حرج ولا إثم، وإذا فعل بعض المحرمات والمحظورات فلا ضير ولا إثم كذلك، لأن الآية تعذره، وتقدم له رخصةً ومخرجاً.
ويترتب على هذا الفهم الخاطئ لمعنى الآية، أن يتفاوت التزام المسلمين بالإِسلام أداءً لواجباته، واجتناباً لمحرماته. بحيث يختلف الالتزام بالإِسلام وتطبيقه من شخص إلى آخر حسب استطاعته، فكلٌ منهم يقدم صورةً خاصةً عمليةً عن أحكام الإِسلام، تختلف عن الصور التي يقدمها الآخرون، ويتحول الإِسلام -عملياً- إلى إسلامات. ويتحول تطبيقه إلى عدة تطبيقات. وتضيع مبادئ الإِسلام وأحكامه وسط هذه النماذج والعينات، التي يزعم كلٌ منهم أنه هو على الحق، وأن هذا هو الدين الذي يريده الله. وابحث عن الإِسلام الرباني وسط هذه التطبيقات المتفاوتة، التي تعتمد على ” الهمَّة ” الميتة، والقدرة العاجزة، والاستطاعة المريضة.
قيد “الاستطاعة” والتصور الصحيح له
وحتى يكون فهمنا لمعنى الآية صحيحاً، وتصوُّرنا لقيد الاستطاعة فيها صوابا، لا بد أن نقرن معها آية أخرى، وهي قول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
تأمرنا هاتان الآيتان بتقوى الله، وكل واحدةٍ منهما توضح المراد من الأخرى:
فآية آل عمران تأمر بأن نتَّقي الله حقَّ تقاته. ومعنى حق تقاته: تقوى حقة صادقة مخلصة جادة، بأن نبذل غاية وسعنا، وأقصى استطاعتنا، في تحقيقها وتحصيلها، وأن نبقى على هذه التقوى طيلة حياتنا، بحيث لا يموت الإنسان منّا إلا وهو مسلم.
تقوى الله حق تقاته في آل عمران معناها، بذل الوسع والجهد والاستطاعة في تحصيلها، كما طلبت آية التغابن.
وآية التغابن تأمرنا بتقوى الله بمقدار الوسع والاستطاعة: (فَاتَّقوا اللهَ ما اسْتَطَعْتُمْ)، ويوضح المراد بقوله: (ما اسْتَطَعْتُمْ) قولُه في آل عمران: (حَقَّ تُقاتِه)، فلا يحقق المسلم التقوى بقدر الاستطاعة، إلا إذا كانت هذه التقوى حق التقوى. فكل من الآيتين توضح الثانية وتفسر معناها، وهما متلازمتان متكاملتان، لابد أن تُقرءا معاً، وتُفهما سوياً، وتُؤخذ دلالتهما مجتمعتين، حتى يكون المعنى صحيحاً مقبولاً.
موقف المسلم من الأوامر والأحكام الشرعية
ومما يوضح المراد من الآيتين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. حيث روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعوني ما تركتكم، إنما هلك مَن كان قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم. فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»(1).
يدل هذا الحديث على موقف المسلم من الأوامر والأحكام الشرعية، فما نُهي عنه يجتنبه، لأن الحرام لا يجوز ارتكابه إلا عند الضرورة للمضطر، والضرورة تقدر بقدرها، ويحددها الشرع، وليس الشخص نفسه.
وأما ما أُمر به فإنه ينفذ منه ما يستطيع. والاستطاعة كذلك يحددها الشرع من خلال الرخص الشرعية، وليس الشخص نفسه.
وقد يقول قائل: ها هو الحديث الصحيح يطلب منّا أن نتناول الواجبات بقدر استطاعتنا، وهو ما نقوله نحن في التقوى والتطبيق.
نقول: إنه يجعل تطبيقنا للأوامر بقدر الاستطاعة. لكن مَنْ هو الذي يحدد الاستطاعة ومقدارها؟ ومن هو الذي يصدر الرخصة في ترك أو تغيير صورة بعض الواجبات؟.
إنه ليس الشخص، ليس هو الذي يحدد مقدار استطاعته، ولا هو الذي يحدد صورة الواجب بالنسبة له، ولكنه الشرع. إن الله عز وجل هو الذي يعلم مقدار الطاقة البشرية وحدود الاستطاعة فيها، ولذلك جاءت الرخص في الدين في بعض الحالات ولبعض الأشخاص، مراعاة لبعض الأعذار والأحوال. فالاستطاعة يحددها الشرع، وحالة الاستطاعة يفصِلها الشرع، وصورة الواجب الجديدة يوضحها الشرع.
أفي كل عام يا رسول الله؟
إن الحديث الصحيح الذي أوردناه، هو الذي يدل على ما قلناه ويوحي به، وبخاصة عند ملاحظة سبب وروده.
فقد روى مسلم والنسائي عن أبي هريرة – رضي الله عنه قال: خطبَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس قد فُرض عليكم الحج فحجّوا، فقال رجل: أفي كل عام يارسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً. ثم قال: ذروني ما تركتكم، ولو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم، وإنما أهلك من كان قبلكم كثرُة سؤالهم واختلافُهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء، فأتوا ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه».
إن الحديث في شأن الحج، وورد ردّاً على سؤالٍ لا معنى له لأحدهم: أفي كل عام يا رسول الله؟ فجاء الجواب: «لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم. ثم قال: ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم».
إنها استطاعة بخصوص الحج، الذي نصَّ القرآن على وجوبه على المستطيع: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران:37].
ويمكن أن نعمِّمها على الواجبات الأخرى، التي رخص الشرع فيها لغير المستطيع، مثل إفطار المريض والمسافر، ومثل قصر الصلاة للمسافر، وسقوط الزكاة عن غير القادر، وغير ذلك.
(اتقوا اللهَ حَق تُقاتِه) كما فسرها السلف
(اتقُوا اللهَ ما اسْتَطَعْتُمْ): يفسرها قوله: (اتَقُوا اللًهَ حَقً تُقاتِه)، و (اتقوا اللهَ حَق تُقاتِه): وضَّح معناها سلفنا الصالح.
روى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (اتقوا اللهَ حَق تُقاتِه)، أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر.
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (اتَّقوا اللهَ حَق تُقاتِه): لم تُنسخ. ولكن حق تقاته: أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط، ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم.
ومما تجدر ملاحظته في الآية أنها تركت ” التقوى” مبهمةً مطلقةً: (اتَقوا اللهَ حَق تُقاتِه)، وإبهامها وإطلاقها ليبقى المؤمن مستمراً في تحقيقها والتلبس فيها، وليبقى يتدرَّج في منازلها، ويترقّى في مدارجها، ويتنقَّل في آفاقها.
وليتمّ التفاوت بين المتقين، بمقدار ما يبذلونه من جهد في تحقيقها، والحياة بها، واستمرار التلبس بها.
دعوة للحياة بالإسلام والموت عليه
كذلك يواجهنا تعقيب الآية: (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمون)، حيث تأمر المسلم أن لا يموت إلا وهو مسلم. فكيف يفعل هذا، والموت قادم، يأتيه فجأة بدون سابق إنذارٍ أو وعدٍ أو تهيئة؟!. إن معنى هذا أن يبقى متلبساً بحالة التقوى الحقة، ملتزماً بالطاعة والعبادة، متجافياً عن المعاصي، تاركاً للذنوب. لا يخرج عن هذه الحالة الإيمانية العالية لحظةً من حياته، لأنه يخشى أن يحين أجله في هذه اللحظة، ويفارق دنياه فيها على غير طاعة، فيحبط عمله، وُيختم له بسوء.
اتقوا الله حق تقاته: ليس معناه اتقوه تقوى تليق بجلاله وعظمته سبحانه، -فإن هذا مستحيل- ولكن معناها: اتقوه تقوى حقة، صادقةً جادَّةً دائمة.
الهوامش
(1) أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337).
المصدر
” تصويبات في فهم بعض الآيات” للشيخ صلاح الخالدي، ص94-100.
اقرأ أيضا
تصويبات في فهم بعض الآيات: عليكم أنفسكم
منارات النجاة من الفتن .. بين التقوى والأناة