إن تسليم القلب لأحكام الشريعة أساس الإسلام وقاعدة الإيمان ، فيجب على العبد أن يكون راضيا بها بلا حرج ، ولا منازعة ، ولا معارضة ، ولا اعتراض.
الركن الثاني من أركان التسليم لله رب العالمين
تحدثنا في مقال سابق عن الركن الأول وهو تسليم القلب للأخبار الصحيحة وتصديقه دون اعتراض أو شك أو ارتياب، أما الركن الثاني فهو: تسليم القلب لكل ما حكم به الله عز وجل أو حکم به رسوله صلى الله عليه وسلم من الأحكام الشرعية دون اعتراض عليها بشهوة أو رأي أو ذوق أو سياسة، ودون تقييد لهذا التسليم: بلماذا؟ وبمعرفة الحكمة منها.
ومن أدلة القرآن الكريم على أن الإيمان والتسليم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بالرضا والقبول والتسليم لما شرعه الله عز وجل من الأوامر والنواهي:
– قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ [الأحزاب:۳۶].
– وقوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].
التسليم المطلق للوحي أمرا ونهيا
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (فأقسم سبحانه بأجل مقسم به، وهو نفسه عز وجل، على أنه لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله، حتى يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع موارد النزاع في جميع أبواب الدين. فإن لفظة (ما) من صيغ العموم، فإنها موصولة تقتضي نفي الإيمان، أو يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم. ولم يقتصر على هذا حتى ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه، حيث لا يجدون في أنفسهم حرجا وهو الضيق والحصر من حكمه، بل يقبلوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالتسليم، لا أنهم يأخذونه على إغماض، ويشربونه على قذى، فإن هذا مناف للإیمان، بل لا بد أن يكون أخذه بقبول ورضا وانشراح صدر. ومتى أراد العبد أن يعلم هذا فلينظر في حاله ويطالع قلبه، عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ﴾ [ القيامة: 14-15]. فسبحان الله كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص، وبودهم أن لو لم ترد، وكم من حرارة في أكبادهم منها، وكم من شجى في حلوقهم منها ومن موردها. ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك، بل ضم إليه قوله تعالى: ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:65]، فذكر الفعل مؤكدا بمصدره القائم مقام ذكره مرتين، وهو التسليم والخضوع والانقياد لما حكم به، طوعا ورضا وتسليما، لا قهرا ومصابرة، كما يسلم المقهور لمن قهره کرها. بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده، الذي هو أحب شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه)1(1) زاد المهاجر ص 24-25..
تسليم القلب التزامه للشريعة جملة وعلى الغيب
ويقول في موطن آخر: (إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت نبيها، وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه، وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وإيمانها واستسلامها على معرفته، ولا جعلت طلبه من شأنها، وكان رسولها أعظم في صدورها من سؤالها عن ذلك، كما في الإنجيل: يا بني إسرائيل لا تقولوا: «لم أمر ربنا. ولكن قولوا: بم أمر ربنا»، ولهذا كانت هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولا ومعارف وعلوما لا تسأل نبيها: لم أمر الله بذلك؟ ولم نهى عن كذا ولم قدر كذا؟ وفعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم، وذلك يوجب تعظيم الرب تعالى وأمره ونهيه فلا يتم الإيمان إلا بتعظيمه ولا يتم تعظيمه إلا بتعظيم أمره ونهيه، فعلى قدر تعظیم العبد لله سبحانه يكون تعظيمه لأمره ونهيه، وتعظيم الأمر دليل على تعظيم الآمر، وأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة به رغم القواطع والموانع، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعله لكونه مأمورا به، بحيث لا يتوقف الإنسان على معرفة حكمته فإن ظهرت له فعله وإلا عطله، فهذا من عدم عظمته في صدره، بل يسلم لأمر الله وحكمته، ممتثلا ما أمر به، سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر، فإن ورد الشرع بذكر حكمة الأمر أو فقهها العقل كانت زيادة في البصيرة والداعية في الامتثال، وإن لم تظهر له حكمته لم يوهن ذلك انقياده، ولم يقدح في امتثاله)2(2) الصواعق المرسلة 4/ 1590. .
ويقول سيد قطب رحمه اللہ تعالی عند قوله سبحانه في سورة النساء: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ۸۲]:
(الأمر أن هذه الأداة العظيمة أداة الإدراك البشري – هي بلا شك موضع التكريم من الله – ومن ثم يكل إليها إدراك الحقيقة الأولى: حقيقة أن هذا الدين من عند الله. لأن هناك ظواهر يسهل إدراكها؛ وهي كافية بذاتها للدلالة – دلالة هذا الإدراك البشري ذاته – على أن هذا الدين من عند الله .. ومتى أصبحت هذه القاعدة الكبيرة مسلما بها، أصبح من منطق هذا الإدراك ذاته أن يسلم – بعد ذلك تلقائيا بكل ما ورد في هذا الدين – لا يهم عندئذ أن يدرك حكمته الخفية أو لا يدركها. فالحكمة متحققة حتما ما دام من عند الله . ولا يهم عندئذ أن يرى «المصلحة» متحققة فيه في اللحظة الحاضرة. فالمصلحة متحققة حتما ما دام من عند الله .. والعقل البشري ليس ندا لشريعة الله – فضلا على أن يكون الحاكم عليها – لأنه لا يدرك إلا إدراگا ناقصا في المدى المحدود؛ ويستحيل أن ينظر من جميع الزوايا وإلى جميع المصالح)3(3) في ظلال القرآن الآية (82) من سورة النساء..
تفصيل أقسام المعترضين على أحكام الله الشرعية
وهؤلاء هم أهل الكبر من خلق الله تعالى. وقد أبان حقیقتهم ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله: (التواضع للدين: هو الانقياد لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والاستسلام له والإذعان، وذلك أن لا يعارض شيئا مما جاء به بشيء من المعارضات الأربعة السارية في العالم، المسماة: بالمعقول، والقياس ، والذوق، والسياسة:
فالأول: للمنحرفين أهل الكبر من المتكلمين، الذين عارضوا نصوص الوحي بمعقولاتهم الفاسدة، وقالوا: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل. وعزلنا النقل، إما عزل تفويض، وإما عزل تأويل .
والثاني: للمتكبرين من المنتسبين إلى الفقه، قالوا: إذا تعارض القياس والرأي والنصوص، قدمنا القياس على النص، ولم نلتفت إليه.
والثالث: للمتكبرين المنحرفين من المنتسبين إلى التصوف والزهد، فإذا تعارض عندهم الذوق والأمر، قدموا الذوق والحال، ولم يعبأوا بالأمر.
والرابع: للمتكبرين المنحرفين من الولاة والأمراء الجائرین . إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة، قدموا السياسة، ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة. فهؤلاء الأربعة: هم أهل الكبر. والتواضع التخلص من ذلك کله)4(4) مدارج السالكين 334/2..
الهوامش
(1) زاد المهاجر ص 24-25.
(2) الصواعق المرسلة 4/ 1590.
(3) في ظلال القرآن الآية (82) من سورة النساء.
(4) مدارج السالكين 334/2.
اقرأ أيضا
الشرك في الحكم الشرعي والكوني سواء
التلازم بين الحكم بما أنزل الله، والولاء والبراء .. في القرآن