طرح أحدهم سؤالًا يثير التفكير، يتساءل فيه عن حكمة الله في استمرار معاناة الأطفال وموتهم بدون سبب. يتساءل هذا الشخص كيف يمكن فهم الحكمة من فقدان أكثر من 20 ألف طفلًا، منهم من لم يعش سوى يوم واحد. هذا السؤال يثير قلق العديدين، خاصةً عندما يتعلق الأمر بأطفال غزة والسودان وبورما.

مُحكمات يجب الوقوف عليها

لا شك أن هذا السؤال يمر في أذهان الكثيرين. لماذا يسمح الله بوقوع المصائب والآلام على أطفال غزة والسودان وبورما وأماكن أخرى؟ بدايةً، إذا لم تعرف إجابة هذا السؤال، هل يعني أن إيمانك بالله متوقف على معرفة الحكمة من ذلك؟ الأصل في الإيمان الإسلامي هو الاعتراف بكمال الله تعالى وحكمته ورحمته، حتى وإن لم نفهم كل تفاصيل حكمته.

إن عدم فهمك للحكمة الربانية من ابتلاء الأطفال لا يعني أن هذه الحكمة غير موجودة. نحن كعبيد يجب أن نتعامل مع ربنا بمقام العبودية، مما يعني أننا نقبل بحكمته حتى وإن لم نفهمها بالكامل. إذا اشترطت معرفة كل الحكمة من أفعاله، فهذا يعني أنك تشترط معرفة علم الله، وهو ما يتعدى مقام الربوبية. (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء:23] الله لا يُسأل عما يفعل، بينما نحن نُسأل عن أفعالنا.

في حياتنا اليومية، نثق بأهل التخصص في مجالاتهم دون نقاش كل التفاصيل. فعلى سبيل المثال، عندما يصف الطبيب دواءً أو يقرر إجراء عملية، لا نناقشه في كل تفاصيل عمله لأن مستوانا العلمي لا يسمح لنا بفهم كل ما يقوم به. كيف الحال مع الله، خالق البشر جميعًا؟

هناك حكمة من وراء كل فعل إلهي

أولا، القرآن الكريم يحتوي على قصص وأحداث تُظهر لنا جوانب من حكمته. على سبيل المثال، في سورة الكهف، نجد أن الأحداث التي تبدو ظاهريًا شريرة، مثل موت الأطفال، كانت تحتوي على خير كبير لم يكن يعرفه نبي من أنبيائه، مثل موسى عليه الصلاة والسلام. هذه القصص تبرز لنا أن هناك حكمة من وراء كل فعل إلهي، فشواهد حكمته ورحمته سبحانه أكثر من أن تحصى حتى وإن لم ندركها.

ثانيًا، من رحمة الله بعباده أنه يطلعهم على بعض حكمه في ابتلاء الأطفال، مثل أن هؤلاء الأطفال ليسوا في الحقيقة معاقبين لأنهم غير مكلفين. فالابتلاء ليس عقوبة لهم، بل هو رحمة ووسيلة لفتح أبواب الأجر في الآخرة. في نظر المؤمنين، الحياة الدنيا هي دار بلاء، والآخرة هي دار الجزاء. الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ونحن فيها مثل مسافر استظل بشجرة ثم مضى. إن الله تعالى تكلم عن الموؤده فقال: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) [التكوير:8-9] طفلة بريئة مسكينة توضع في حفرة ويلقى عليها التراب حتى تموت خنقا، ميتة أليمة بشعة، والله تعالى لم يتكلم عن حكمته في ترك هؤلاء الآباء المجرمين يفعلون فعلتهم، لم يكن لدى المسلمين استشكال على الحكمة الربانية في هذا لأنهم فهموا أن الدنيا دار بلاء والآخرة هي دار الجزاء.

يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة:111]

يقول القرطبي في تفسيرها: الرابعة : قال العلماء : كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلفين كذلك اشترى من الأطفال فآلمهم وأسقمهم ; لما في ذلك من المصلحة وما فيه من الاعتبار للبالغين ، فإنهم لا يكونون عند شيء أكثر صلاحا وأقل فسادا منهم عند ألم الأطفال ، وما يحصل للوالدين الكافلين من الثواب فيما ينالهم من الهم ويتعلق بهم من التربية والكفالة . ثم هو عز وجل يعوض هؤلاء الأطفال عوضا إذا صاروا إليه.

يعوضهم الألم والحرق وما يعانونه قبل الوفاة، كله ينسى بغمسة في الجنة.

ثالثًا، من حكم الله في ابتلاء الأطفال أن يكون وسيلة لرفع مستوى الصبر عند الوالدين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث – يعني لم يبلغوا سن التكليف- إلا جيء بهم يوم القيامة حتى يوقفوا على باب الجنة فيقال لهم ادخلوا الجنة فيقلولون حتى يدخل آباؤنا فيقال لهم ادخلوا أنتم وآباؤكم. رواه الطبراني وصححه الألباني.. الأطفال في هذه الحالة يشفعون لوالديهم ويمنحونهم أجرًا عظيمًا في الآخرة.

رابعًا، من حكم الله في ابتلاء الأطفال، خاصة في أماكن مثل غزة والسودان وبورما، أن يبتلينا نحن بهم ليستخرج منا عبوديات مجاهدة المجرمين والظالمين ومن يوالون أعداء الدين، أن يستخرج منا عبوديات نصرة المستضعفين بما نستطيع وأن نصحو من الغفلة رجاء أن يرفع الله الذل عنا، وإلا فإن فائدة ذهاب الأطفال إلى الجنة تصبح ضائعة إذا تخاذلنا في دعمهم ورفع الظلم عنهم.

خامسًا، من حكم الله في ابتلاء الأطفال أن يستخرج منهم هم عبوديات عظيمة من الصبر والاحتساب والرضا، تكون رفعة لهم وحجة على سائر الخلق كيف ينزل الله سكينته على هذه القلوب الصغيرة الطرية، فكم رأينا من أطفال غزة من يصبر ويحتسب وهؤلاء حجة على من لا يصبر من الناس ولا يحتسب، الذين يصبرون يبرهن الله بهم أنه يثبت هذه القلوب الصغيرة على ما يزلزل الجبال وهذا من مظاهر حكمته سبحانه.

سادسًا، أنت يا من تسأل هذا السؤال، أنت ماذا فعلت لما رأيت أطفال غزة أو أطفال السودان أو أطفال آركان وغيرهم يقتلون؟، تتساءل عن أفعال الله تعالى وقد علمت أنه (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء:23] هل معاناة الأطفال أحدثت في نفسك يقظة إيمانية؟..

هل عملت على تعديل محتواك الإعلامي ليكون منضبطًا بشرع الله ويحث الناس على نصرة المظلومين؟ هل أصبحت جهودك متماشية مع رضا الله ورفع الظلم؟

كل ما ذكرناه هو جزء من حكمة الله تعالى: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) [البقرة:255].

الخلاصة، إن الله تعالى له الحكمة البالغة، وهو أرحم بالأطفال والكبار والذكور والإناث منا، وسيجزي من يصبر منهم الجزاء الأوفى.

وما يجب علينا هو التركيز على ما يمكننا فعله لنصرة المسلمين والعمل بما يرضي الله. نسأل الله أن يرحم الأطفال في غزة والسودان وبورما وكل مكان، وأن يعيننا على فعل الخير والعمل بما يرضيه.

المصدر

مقطع فيديو مفرغ بتصرف يسير للدكتور إياد القنيبي.

اقرأ أيضا

لمن يسأل: أينَ الله؟ ولماذا لا ينتقمُ لغزَّة؟!

سُنة الابتلاء للمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين

إلى أهل البلاء؛ شبهة وجوابها .. لابن القيم

ويسألونك لماذا البلاء..؟

التعليقات غير متاحة