إذا أقام الحكام شريعة الله، وأقاموا ولاء الإسلام، ولم ينشروا الفجور ولم ينكّروا الناس ما يعرفونه من دين الله ولم يعرّفوهم ما ينكرونه؛ فلهؤلاء الحكام أو الأئمة حقوق وعليهم واجبات تجاه شعوبهم.

مقدمة

حقوق الراعي والرعية في الإسلام

لقد اهتم الإسلام بشأن المجتمع المسلم، ووضع الأسس والقواعد بناء هذا المجتمع المسلم، وسعى في تحقيق استقراره وثباته واستمرار أمنه، ليعيش الناس في طمأنينةٍ وأمنٍ وراحة بال ويعبدوا الله بنفسٍ مطمئنة وقلبٍ حاضر.

وإن من أعظم الأسس التي يقوم عليها بناء مجتمعٍ قويٍ متماسكٍ متعاون: التلاحم بين الراعي والرعية؛ فكلما وُجِد التلاحم شاعت الرحمة والمودة؛ فلا تستقر أحوال أي مجتمع دون وجود حاكم وولي أمر شرعي، يُقيم القسط، وينشر العدل، ويحوط الأمة في دينها ودنياها، لا يؤْثر نفسه وقرابته وأهله وعشيرته على سائر رعيته، بل يتحرّى العدل في جميع مسالكه بقدر استطاعته، ويتخذ بطانة صالحة، ويُكثر مشاورة الحكماء في نوازل الأمة، فتستقيم أمور دولته، وتحبه رعيته وتدعو له، ويكثر التراحم في المجتمع بين الراعي والرعية.

ولن يأتي الترابط إلا إذا أعطى كلُّ واحدٍ ما له وما عليه، ولن يأتي ذلك إلا من تطبيق شرع الله تعالى؛ فالنصر على الأعداء ـ وعلى رأسهم دولة الكيان الصهيوني إسرائيل ـ لن يأتي إلا بتحكيم شرع الله تعالى. وإنه:

“لما أعرض الناسُ عن تحكيم الكتاب والسنة، والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدَلوا إلى الآراء، والقياس، والاستحسان، وأقوال الشيوخ، عرَض لهم من ذلك فسادٌ في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكَدَرٌ في أفهامهم، ومحْق في عقولهم، وعمَّتْهم هذه الأمور، وغلبتْ عليهم حتى ربِّي فيها الصغير، وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكرًا.

فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن، والنفس مقام العقل، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العمل، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل؛ فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور، وأهلُها هم المشار إليهم، وكانت قبل ذلك لأضدادها، وكان أهلها هم المشار إليهم، وإذا رأيت دولة هذه الأمور قد أقبلت، وراياتها قد نصبت، وجيوشها قد ركبت، فبطن الأرض والله خير من ظهرها، وقلل الجبال خير من السهول، ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس”. (1الفوائد، ص48 لابن القيم)

حقوق الراعي على رعيته

وللحكام وولاة الأمور حقوق على شعوبهم، ومن أبرز تلك الحقوق ما يلي:

السمع والطاعة في المعروف

السمع والطاعة في غير معصية الله تعالى؛ إذ السمع والطاعة في المعروف يجعل المجتمع متوائمًا مع الحكام متسقًا، كنسيج واحد يقف صفًّا واحدًا، غير خارج عن طاعته، ومن ثَم يكون بعيدًا عن الفتن والاضطرابات، وقد أمر الله سبحانه بذلك في القرآن العظيم، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59]، وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أحب أو كره ما لم يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ عَلَيْهِ وَلاَ طَاعَةَ». (2صحيح البخاري 6725)

تبجيلهم وحفظ مكانتهم وإكرامهم

قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إنّ مِنْ إجْلالِ الله إكْرامَ ذِي الشَّيْبَةِ المُسْلِمِ وحامِلِ القُرْآنِ غَيْرِ الغالِي فيهِ والجافِي عَنهُ وإِكْرامَ ذِي السُّلْطانِ المُقْسِطِ». (3سنن أبي داود 4843 وحسنه الألباني)

النصيحة لهم

عن تميمٍ الداريِّ، رضي الله عنه، أن النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، قال: «الدينُ النصيحة»، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابِه ولرسولِه، ولأئمة المسلمين وعامَّتهم». (4صحيح مسلم 55)

روى أبو يعلي عن ضمام بن إسماعيل المعافري، عن أبي قبيل قال:

“خطبنا معاوية رضي الله عنه في يوم جمعة فقال: إنما المال مالنا، والفيء فيؤنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا. فلم يردَّ عليه أحد.

فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يردَّ عليه أحد.

فلما كانت الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام رجل ممَّن شهد المسجد فقال: كلا، بل المال مالنا، والفيء فيؤنا، مَن حالَ بيننا وبينه حاكمناه بأسيافنا.

فلما صلى أمر بالرجل فأُدخل عليه، فأجلسه معه على السرير، ثم أذِن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: أيها الناس، إني تكلمت في أول جمعة فلم يردَّ عليَّ أحد، وفي الثانية فلم يردَّ علي أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا أحياه الله، سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول:«سيأتي قوم يتكلمون فلا يُرَدُّ عليهم، يتقاحمون في النار تقاحم القردة» فخشيت أن يجعلني الله منهم، فلمَّا ردَّ هذا عليَّ أحياني أحياه الله، ورجوت أن لا يجعلني الله منهم”. (5أخرجه أبو يعلي، برقم (7382)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (1790))

عدم الخروج عليهم

من أكثر ما ينشر الفُرقة في المجتمع: مفارقة الجماعة، ونزع اليد من الطاعة.

وإن الخروج على ولاة الأمور محرم في شريعة الله تعالى ما داموا مقيمين للشرع، معظمين للدين، ويقيمون الصلاة، ويوالون المؤمنين لا الأعداء، ولا يضيّعون مقدرات الأمة، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «من فارق الجماعة شبرًا فقد خلع رِبْقَة الإسلام من عنقه». (6سنن أبي داود 4758 وصححه الألباني)

الدعاء لهم

قال صلى الله عليه وسلم: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ ـ والصلاة هنا بمعنى الدعاء ـ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ». (7صحيح مسلم: 1855)

التعاون معهم وتأليفُ القلوب لهم

التعاون معهم، والوقوف في صفهم، وجمع القلوب عليهم، وستر معايبهم، وعدمُ تأليبِ العامَّة عليهم؛ وذلك لتنتظِم مصالِحُ الدين والدنيا، ويظهر المجتمع متماسكًا مما يُضعف مؤامرات الكافرين والمنافقين.

الصبر على ما قد يقع منهم من جور

لا يخلو بشر من نقص، ولا يبعد أحد عن تقصير، حاكمًا كان أو محكومًا، والمنهج الشرعي مع الحاكم المسلم الحافظ لدين الأمة والمعظّم لشرع الله، ألا يقف المسلم على هفواته، بل يصبر على ما قد يحدث من أخطاء فلعلها لم تصله ولم يعلم بها، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئاً يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الجَمَاعَةَ شِبْراً فَيَمُوتُ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». (8صحيح البخاري 6646) (9موقع الخطباء، حقوق الراعي على رعيته وواجباتهم نحوه)

وهذه الحقوق للراعي حينما يوفي بعقده مع الأمة باقامة حكم الله وشرعه فيهم. أما إذا لم يحكمهم بالشرع فلا حق له ولا طاعة.

واجبات الراعي نحو رعيته

إقامة حكم الله فيهم

خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رعيته قائلاً:

«ألا إني ـ والله. ـ ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلِّموكم دينكم وسُنَّتكم؛ فمن فُعِل به شيء سوى ذلك فَلْيرفعه إليَّ؛ فوالذي نفسي بيده إذًا لأقصنه منه.

فوثب عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، أَوَ رأيت إن كان رجل من المسلمين على رعيةٍ، فأدَّب بعض رعيته، أئنك لمقتصه منه؟ قال: إي والذي نفسُ عمر بيده إذًا لأقصّنّه منه، أنَّى لي لا أقصُّه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصُّ من نفسه؟ ألا لا تضربوا المسلمين فتذلّوهم، ولا تُجْمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفِّروهم، ولا تُنزلوهم الغياض فتضيعوهم». (10أخرجه أحمد، رقم (286). والغِياض: جمع غَيْضة، وهي الشجر المُلْتَف؛ لأنهم إذا نزَلُوها تفرَّقوا فيها، فتمكَّن منهم العدوُّ)

فمهمة الوالي ليست التسلط والتطاول على الناس وسلبهم أموالهم، بل الإحسان إليهم، والحفاظ على حقوقهم، وإخراجهم من دواعي العبودية والذلة لغير الله تعالى.

ولهذا توعَّد النبي، صلى الله عليه وسلم، الوالي الذي يُعرِض عن حقوق الناس، ويستهين بحاجاتهم، بقوله: «ما من إمام أو والٍ يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة؛ إلا أغلق الله أبواب السماء دون حاجته وخلته ومسكنته». (11أخرجه أحمد، رقم (18033)، ونحوه برقم (15652)، والترمذي في كتاب الأحكام، رقم (1332). وصحّحه لغيره الأرناءوط في تحقيقه للمسند)

فالوالي بهذا المفهوم أجير عند الناس، يسعى في حاجاتهم ويحوطهم برعايته ومسئوليته، فعن أبي يعلى معقل بن يسار، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيته، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته، إلا حرَّم الله عليه الجنة» وفي رواية: «فلم يَحُطْها بنصحه لم يجدْ رائحة الجنة». (12متفق عليه)

بيّن أهل العلم ما يجب على الخليفة أو الإمام أن يقوم به في رعيته. ومن ذلك ما قاله الماوردي رحمه الله:

والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء:

أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة.

فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة، وبيّن له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود. ليكون الدين محروسا من خللٍ والأمة ممنوعة من زللٍ.

الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النَصَفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.

الثالث: حماية البيضة والذّبّ عن الحريم ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغريرٍ بنفس أو مال.

والرابع: إقامة الحدود لتُصان محارم الله تعالى عن الانتهاك وتُحفَظ حقوق عباده من إتلافٍ واستهلاك.
والخامس: تحصين الثغور بالعُدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغرّة ينتهكون فيها مُحرَّما أو يسفكون فيما لمسلم أو معاهَد دما.

والسادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يُسْلم أو يدخل في الذمة، ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله.

والسابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير خوف ولا عسف.

والثامن: تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرَف ولا تقتير، ودفعه في وقتٍ لا تقديم فيه ولا تأخير.

التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوَّض إليهم من الأعمال ويكلُه إليهم من الأموال لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة والأموال بالأمناء محفوظة.

العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفّح الأحوال لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملّة، ولا يعوِّل على التفويض تشاغلا بلذّة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح”. (13الأحكام السلطانية للماوردي، ص19-20)

خاتمة

تلك حقوق شرعها الله تعالى بين الحاكم والمحكوم، لاتزان المجتمع المسلم واستقراره. وهي كلها قائمة على التعاون على إقامة دين الله وتحصيل مصالح “الأمة” وعدم السماح بالانحراف لفرد الحاكم أو لمجموع الأمة.

فإذا حصل انحراف يمثل خطرا على الدين وعقيدته أو شريعته أو هويته، أو على مصالح الأمة ومقدراتها ووجودها ومقدراتها؛ أوجب تعالى على الأمة الحراك واستدراك ما فرط من الأمور وإقامة ما أمر الله تعالى بإقامته.

عن عقبة بن مالك، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فسلحت رجلا سيفا. قال: فلما رجع، قال: ما رأيت مثل ما لامنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” أعجزتم إذ بعثت رجلا، فلم يمض لأمري أن تجعلوا مكانه من يمضي لأمري؟”. (14مسند أحمد ط الرسالة (28/ 219)، سنن أبي داود (3/ 41))

…………………………..

الهوامش:

  1. الفوائد، ص48 لابن القيم.
  2. صحيح البخاري 6725.
  3. سنن أبي داود 4843 وحسنه الألباني.
  4. صحيح مسلم 55.
  5. أخرجه أبو يعلي، برقم (7382)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (1790).
  6. سنن أبي داود 4758 وصححه الألباني.
  7. صحيح مسلم: 1855.
  8. صحيح البخاري 6646.
  9. موقع الخطباء، حقوق الراعي على رعيته وواجباتهم نحوه.
  10. أخرجه أحمد، رقم (286).. والغِياض: جمع غَيْضة، وهي الشجر المُلْتَف؛ لأنهم إذا نزَلُوها تفرَّقوا فيها، فتمكَّن منهم العدوُّ.
  11. أخرجه أحمد، رقم (18033)، ونحوه برقم (15652)، والترمذي في كتاب الأحكام، رقم (1332). وصححه لغيره الأرناءوط في تحقيقه للمسند.
  12. متفق عليه.
  13. الأحكام السلطانية للماوردي، ص19-20.
  14. مسند أحمد ط الرسالة (28/ 219)، سنن أبي داود (3/ 41).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة