ثمة فروق بين المداهنة المحرمة وبين إظهار الحق بتدرج. كما لا يُقبل من المسلم أن يداهن الباطل ويضيّع الحق لخوف يُراعيه.
مقدمة
أمر الله ببلاغ دينه الى الخلق، وقد يرى العالم والداعية، والمسلم عموما، أوضاعا فيها من الصعوبة والتخويف ما فيها، كما يجد مجتمعات بعيدة ونافرة. ولا بد من استحضار أمرين:
أولهما بلاغ الحق كاملا كما أنزله الله بلا تدليس ولا تراجع.
وثانيهما التلطف والتدرج في البلاغ والبيان؛ فتلك سنة الله سبحانه.
ويجب ألا يكون هذا على حساب ذلك؛ فالتلطف يكون في إظهار الحق وتوصيله لا في إخفائه. وبلاغ الحق لا يعني سوء الخلق أو أن نكلم الناس بما لا يفهمون.
الحق جاء ليَظهر
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعنّ رجلا هيبةُ الناس أن يقول الحقّ إذا علمه» ـ وفي رواية «أو شهده أو سمعه». (1خرّجه الألباني بطرق متتابعة في سلسلة الأحاديث الصحيحة . الصفحة أو الرقم: 1/ 324)
“كلمة الحق كالمطر النازل من السماء؛ حيث تسيل به الأودية، وتفيض به العيون، وتسقى به الأرض بعد موتها، وينتفع بها الخلق منافِع شتَّى.
وأمَّا الباطل فلو كان كثيرًا كثيفًا، فمآله إلى زوال وسفال واضمحلال؛ ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد: 17].
كلمة الحق ما كانت تُقال لِتُقمَع، بل لكي يَظهر أثرُها ويَسْطَع، ويزهق الباطل ويُقلع، ولئن ابتُلي صاحبها فلا بدَّ له من أصدقاء صِدْق يُدافعون عنه، ولا يُبقونه لظلم السجَّان، ولا لطغيان السلطان، ولا لتجاهل الأصحاب والخلاَّن.
كلمة الحق تحتاج لأشخاص يقولونها ويقولون بها، ويَثْبُتون عليها ولا يتراجعون عنها؛ لأنَّها (حق)، والحق لا رجعة فيه”. (2دفق الخواطر حول (كلمة الحق).. خباب الحمد)
وقد تعهد رسول الله إيقاظ خلق الشجاعة في النفوس..
“إن الإنسان لَيجبُن أمام نصرة الحق لما يساوره من خوف العاقبة، كنـزول المنية في ساحاته، أو حلول رزيّة به أقل أنواعها معادات الناس، فقد قيل في عمر رحمه الله: لم يترك له الحق صاحباً، لهذا نرى النبي صلى الله عليه وسلم يوقظ روح الشجاعة فينا من سباتها، ويتعهد صفة الجرأة من نفوسنا بما يفيض عليها من مَعين الإيمان ما يطمئننا من كل ما يتوهمه الجبناء، فيقعد بهم عن الجهر بالحق ومناصرة أهله، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: «لا ينبغي لامرئ شهد مقاماً فيه حق إلا تكلم به، فإنه لن يقدّم أجله، ولن يَحْرمه رزقاً”. (3رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه. من مقال “الجرأة في قول الحق وتأييده” محمد علي شقفة)
ضوابط الاستضعاف
لقد كان بعض المسلمين في المرحلة المكية ـ وهي مرحلة استضعاف ـ يجهر بكلمة الحق، وهذا رد على الذين يحتجون بأن المرحلة التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم هي مرحلة استضعاف، وهذا يعني عندهم أنه ينبغي أن تكون الدعوة سرية خالية من الصدع بكلمة الحق ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ونحن نقول لهم: إننا نتفق معكم في أن المرحلة التي يعيشها المسلمون اليوم هي مرحلة استضعاف، وأنها عظيمة الشَبَه بتلك المرحلة الأولى من دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، التي تسمى “المرحلة المكية” بسبب حُكم الجاهلية المعاصرة التي أقصت حكم الله عن الأرض. وليس معنى ذلك أن ننكر على من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصدع بكلمة الحق. ومن تأمل سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم، عرَف أن الحكمة هي الجهر بالدعوة، والصدع بكلمة الحق”. (4“الدعوة الجهر بكلمة الحق والصدع بها” مجلة البيان، العدد 70، عبد الله بن علي النمري)
يقول الأستاذ محمد قطب رحمه الله:
“لقد أصبح كثير من الناس يتصورون أن الحكمة والموعظة الحسنة تعني التربيت على أخطاء الناس وانحرافاتهم، وعدم مواجهتهم بها خشية أن ينفروا من الدعوة ولا يستجيبوا لها..! فمن أين جاءوا بهذا الفهم لهذا التوجيه الرباني الكريم..؟!
هل هناك مَن هو أكثر فهماً لهذا التوجيه الكريم من الرسل الذين وُجه القول إليهم؟
فكيف فهِم الرسول، صلى الله عليه وسلم، هذا الأمر المنزَّل إليه من ربه أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة..؟ وكيف فهِم موسى وهارون عليهما السلام توجيه الله لهما أن يقولا لفرعون قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى..؟
فأما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقد صدع بما أُمِرَ فقالت عنه قريش: لقد عاب آلهتنا وسفه أحلامنا، وكفر آباءنا وأجدادنا..!!
وأما موسى وهارون عليهما السلام فقد بدآ بأن قالا: «السلام على من اتبع الهدى»، ولم يقولا لفرعون: “السلام عليك!” وفي ذلك إشارة ملحوظة إلى أن فرعون غير متبع للهدى، ثم ثنَّيا بأن قالا: ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ﴾، وفي ذلك تهديد واضح لفرعون وقومه بالعذاب الذي ينتظرهم إن هم كذَّبوهما، وتولوا عن الحق الذي يعرضانه عليهم.
وكان هذا هو القول اللين الذي أُمِرَا بتوجيهه إلى فرعون. إن التلطف واجب ولكنه التلطف في إظهار الحق، وليس التلطف في إخفاء الحق.
فهذا الأخير هو الذي قال عنه تعالى لنبيه، صلى الله عليه وسلم: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾”. (5مقدمة كتاب مقومات التصور الإسلامي لسيد قطب ص 13)
التلطُّف والتدرُّج
رفعٌ للدرجات ودلالة على العلم وأدعى لقبول النفوس.
ذكر تعالى أنه رفع درجات من تلطّف في الوصول إلى مصالح الدين والدنيا.. ففي شأن التوصُّل لمقصودٍ ديني ذكر تعالى أنه رفع درجات إبراهيم حينما تلطّف وتدرَّج في توصيل الحق لقومه بعد ما ناظرهم باحتمال كون النجم ربًا فأبطله، ثم القمر فأبطله، ثم الشمس فأبطلها، ثم قرّر التوحيد وتحنّف تاركًا أوجه الشرك كلها.. ثم علا حينئذ بحجته عندما رفض الخوف من المشركين وآلهتهم، واستنكر كيف يخاف المُوحِّد بينما لا يخاف المشرك وهو على خطرٍ عظيم، بينما المؤمن في الركن الآمِن، ثم قرّر أن الأمن والهداية لصاحب الإيمان والتوحيد.. فقال تعالى عقب هذا: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام:83].
وذكر تعالى وصول يوسف للاحتفاظ بأخيه أن جعل السقاية في رحله ثم نادى المنادي بفقدان السقاية، وقبل التفتيش قرّرهم بعقوبتهم هم لمن وَجد في رحله، فقالوا أن العقوبة عندنا أن يُسترق صاحب السرقة؛ فقرّرهم بأخذ أخيه والاحتفاظ به، ثم تدرّج أن بدأ بأوعيتهم لإبعاد الشبهة ثم كان استخراج المتاع من رحل أخيه متأخرًا.. فقال تعالى بعدها: ﴿كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف:86].
فذكر تعالى رفع الدرجات لكليهما، ووصفهما بالعلم في تلطُّفهما وتدرُّجهما؛ هذا لمصلحة الدين، وهذا لمصلحة الدنيا.. فعُلِم أن التدرّج والتلطُّف والمقدمات المُفضية لنتائج طبيعية هي الطريق المعتمَد، وهي لِأُولي العلم، لا الهجوم على النفوس والعقول فتنفر أو تستنكر.
ومن هذا أنه قبل أن يقلِب الله تعالى عصا موسى حيةً قال له: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ﴾ [طه:17]، وقبل بيان إبراهيم لقومه الشرك سألهم: ﴿مَا هَـٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ [الأنبياء:52].
ومن هذا ما قدّره تعالى بميلاد يحيى من أبٍ كبير وأمٍ عاقر عجوز إرهاصًا ومقدمة وتلطُّفًا بين يدي ميلاد المسيح عليه السلام بدون أب.. وقَبْلهما ما كان يجد زكريا عندها من الرزق المخالف لقانون الأسباب والمسببات المعتادة.
خاتمة
إنها قاعدة في الدعوة، وفي التربية، وفي السياسة، وفي الإعلام، وفي النظام الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية، بل هي قاعدة الحياة وطبيعتها وتدرُّجها.. وهذا لا ينفي ولا يتعارض مع بيان الحق كاملًا بلا غبش أو ميوعة أو تفريط أو قوة، فهو التلطُّف في إظهار الحق لا في إخفائه.. تلطّف في المحاجة عن الحق وعَرضه كما أنزله الله تعالى بلا تنازل وبلا تراجع.. فافهم أخاه ذلك.. واركزه في وعيك وتصرّف على مقتضاه، فردًا وجماعات..”. (6التلطُّف والتدرُّج، مدحت القصراوي، طريق الإسلام)
…………………………….
الهوامش:
- خرّجه الألباني بطرق متتابعة في سلسلة الأحاديث الصحيحة . الصفحة أو الرقم: 1/ 324.
- دفق الخواطر حول (كلمة الحق).. خباب الحمد.
- رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه. من مقال “الجرأة في قول الحق وتأييده” محمد علي شقفة.
- “الدعوة الجهر بكلمة الحق والصدع بها” مجلة البيان، العدد 70، عبد الله بن علي النمري.
- مقدمة كتاب مقومات التصور الإسلامي لسيد قطب ص 13.
- التلطُّف والتدرُّج ، مدحت القصراوي، طريق الإسلام.