الخطوات العملية الواقعية ضمن أفق الدولة القطرية للتغلب على الخطاب الوطني.

نقد الوطنية لا يكفي: لماذا نحتاج إلى أطروحات عملية للتعاطي مع الدولة القطرية؟

من الأسئلة التي أحاول الإجابة عنها فيما أكتب مؤخرا: كيف تدير دولة قُطرية حديثة بلا خطاب وطني ولا واجب وطني ولا شعارات وطنية. والحديث عن دول فيها غالبية مسلمة وأقليّات تعيش معها.

كتبتُ سابقًا في نقد النزعة الوطنية كتابا كاملا هو أول ما صدر لي وكان بعنوان “الهوية والشرعية: دراسة في التأصيل الإسلامي لمفهوم الهوية ورفع الالتباسات عنه” (2011)، لكنّ نقد الوطنية والتأصيل للهوية الإسلامية لا يكفي مع أهميّته، والمرحلة الحالية تستوجب من العاملين والدعاة والمفكرين تقديم أطروحات عملية واقعية للتعاطي مع الواقع الذي نعيش، خصوصًا في ظلّ الدولة القطرية التي يبدو أننا مضطرّين للتعاطي معها في الأفق القريب.

بين المثالية والاستسلام: تجاوز إشكالية الخطابين السائدين حول الدولة

والمشكلة أننا نصطدم بنوعين من الخطاب: خطاب مثالي يصرّ على تجاهل الواقع والحديث “عمّا ينبغي أن يكون” فحسب، ظانًّا بذلك أنّه قد أدّى مهمّته، فيحكم باستحالة إقامة أي وضع شرعي ضمن الدولة القُطرية، وينتظر واقعًا مثاليّا ليشيّد عليه دولته المنشودة!

وخطاب آخر غارق فيما يظنّه “واقعية”، يحاول شرعنة المفاهيم الحديثة ومن بينها “الوطنية” أو قبولها وعدم مقاومتها باعتبار أنها “أمر واقع”، ويتعامل مع مفرزات الاستعمار الغربي كما لو كانت “حتميات”!

“حكومة الظل” الإسلامية: من حلم “ما ينبغي” إلى خطة “ما يمكن”

والخطاب الذي أدعو إليه: هو خطاب يجمع بين الإجابة عن سؤال “ما ينبغي أن يكون” وسؤال “كيف نتعامل مع ما هو كائن”. فعلينا الانتقال من التفكير بطريقة الأحلام والخيالات إلى التفكير بطريقة “حكومة الظلّ”، والفارق كبير؛ فأنت حين تحمل أحلامًا جميلة فحسب، دون رؤية وأجندة وتصوّر واقعي تطبيقي؛ سينتهي بك الأمر عند خوض المعترك السياسي أو استلام دولة إلى الخضوع للمفاهيم الشائعة لأنّك لا تمتلك التصور حول كيفية التخلّص من شرنقتها، بينما حين تفكّر بطريقة حكومة الظلّ تحاول بناء نموذج واقعي قابل للحياة، وفي الوقت نفسه يفكك شرنقة المفاهيم المخالفة للإسلام ومن أبرزها الوطنية.

ويساعدنا في هذا النظر في التجارب الحية في آخر قرنين، فلم تكن كل الدول التي عمّرت لعقود طويلة دولًا قومية وطنية ترتكز على هذا الخطاب (الدول الشيوعية، إسرائيل)، كما أن الدول القومية ليست جميعها على المستوى نفسه من الارتكاز على الخطاب الوطني وضخّه في المجتمع بكل السبل. ودراسة هذه التجارب تفتح لنا الباب في آفاق الممكن الراهن.

والخلاصة أنه لا يوجد ارتباط مصيري بين النزعة الوطنية أو القومية وبين الدولة الحديثة، والذي يقول بالارتباط هو تنظيرات أكاديمية لا تصمد أمام الواقع الذي كثيرًا ما يمزّق أوراق المنظّرين الهانئين في مكاتبهم العامرة بالكتب!

تفكيك الوطنية: أفكار عملية لترسيخ الهوية الإسلامية في إطار الدولة القطرية

وهذه بعض الأفكار العملية لأي فئة تمارس السياسة أو تصل إلى الحكم في بلاد المسلمين؛ للتخفف من وطأة الأيديولوجية الوطنية بشكل متدرّج بغية الوصول إلى الأوضاع الشرعية المنشودة بإذن الله:

إلغاء النشيد الوطني والطقوس الرمزية

العلَم مجرد شعار رسمي للدولة، والتقليل من رمزيّته وإلغاء تحيّته وما شابه من طقوس أيديولوجية وطنية جاهلية.

إلغاء النشيد الوطني، أو تغييره بنشيد عام لا يحمل تعزيز النزعة الوطنية المرتكزة على القُطر كرمز وحضن وأم وبطيخ، بل يقبس من الهوية المشتركة للأمة الإسلامية، وهذا له أبلغ الأثر في التلاميذ الصغار، فالكلمة الملحّنة لها أثرها العظيم في قلوب النشء.

التخفُّف من رموز الدولة الوطنية التي تعزّز الأيديولوجية الوطنية؛ كاستدعاء التاريخ بمختلف مراحله (حتى الوثنية منها) طالما أنّه حدث ضمن حدود القُطر الذي رسمته بريطانيا أو فرنسا قبل نحو قرن وجعْله تاريخًا للشعب الفلاني أو الدولة الفلانية! فهذا – فضلا عن كونه حمقًا – تلويث للعقول وتشويه للبداهة!

التركيز على الدولة باعتبارها دولة رعاية وحفظ حقوق وصيانة حرمات لجميع سكانها، بدلا من إضفاء الرموز الوطنية وكونها مركز الانتماء لشعب خاصّ. أما في سياق “الهوية” فتناوُل سكان هذا القُطر باعتبارهم جزءًا من أمة أكبر، هي الأمة الإسلامية أو الحضارة الإسلامية أو ما شابه، لا باعتبارهم هوية محليّة خاصّة. ولدينا نماذج لمفكرين مسيحيين عرب لا يتورّعون عن الانتماء إلى الحضارة الإسلامية بل يفخرون بذلك.

إعادة صياغة المناهج التعليمية لتعزيز الهوية الإسلامية

تعزيز الانتماء للأمة والهوية الإسلامية في مناهج التعليم وفي البرامج الإعلامية والدراما بذكاء وحكمة. وهذا أمر يمكن فيه الاستفادة على مستوى التطبيق من تجارب كالاتحاد الأوروبي التي اعتمدتْ ثقافة مشتركة، فقد أعيدت كتابة المناهج الدراسية منذ الستينيات لتعزيز “التاريخ المشترك” بين الأقطار الأوروبية، وأنشئت مشروعات ثقافية تعيد سرد تاريخ أوروبا باعتباره رواية مشتركة.. هذا والقوم يختلفون في اللغات وفي أحيان كثيرة في الطائفة الدينية، ونحن لدينا دول عديدة بلغة واحدة ودين واحد وطائفة واحدة لغالبيّة سكانها الساحقة وأحيانا قبائل واحدة وبيننا ما صنع الحداد!

تفعيل جهد سياسي يخفّف من تعقيدات الانتقال بين الدول العربية والمسلمة، ويعزز من التبادلات الثقافية والأكاديمية والاقتصادية والمشاريع المشتركة. ومن شأن بناء غرف تجارية مشتركة مثلا أن يقلّص من مركزية الخطاب الوطني في الاقتصاد، وهو عصب مهم في بناء الهوية.

هذه بعض الأفكار، ويظلّ المجال مفتوحًا للإبداع مع كل تجربة لتفكيك الهويات الوطنية وبناء معالم الهوية الإسلامية في الأجيال الجديدة.

الخطر الأعظم: استسلام “الإسلاميين” للأيديولوجية الوطنية

أما الخنوع للأيديولوجية الوطنية الشائعة واستمداد مفرداتها والبناء عليها من قبل “إسلاميين” بلحى كانوا يرفعون رايات “التوحيد” و”الشريعة” و”الولاء والبراء”؛ فهي مهزلة وكارثة سيحمل آثامها كل من تولّى كِبَر الاستسلام لهذه الخطابات واستيعابها وبثّها في الأجيال!

المصدر

صفحة الأستاذ شريف محمد جابر، على منصة ميتا.

اقرأ أيضا

الشريعة المغيّبة: بين كذبة “التطبيق” وواقع العلمانية في الدول العربية

أفول الدَّولة الوطنيَّة العربيَّة

الرايـات الجـاهلية

التعليقات غير متاحة