الظلم من أكبر عوامل سقوط الحضارات، لأنه يؤدي إلى فقدان التوازن في كافة مجالات الحياة وعلاقة الإنسان مع نفسه ومع الله ومع غيره، وعن هذا تنبثق ظواهر نفسية واجتماعية واقتصادية مرضية، وتصورات فاسدة عن الوجود كله، فيعم الفساد الحياة الإنسانية بأسرها…

الحرب على غزة وبداية سقوط الحضارة الغربية

لقد انقلبت الموازين الدولية، وعند الغرب خاصة؛ انقلبت موازين الأخلاق والقيم، والديموقراطية ومفهوم الحضارة والتحضر. فكان ذلك سببا رئيسا في بداية سقوط الحضارة الغربية.

والمتتبع لما يحدث الآن في غزة من تقتيل للأبرياء وتهجير للمدنيين، ومحاصرة أكثر من مليوني نسمة، وحرمانهم من الاحتياجات الأساسية والضرورية، وتدمير شامل للبنية التحتية، ليدرك جيدا أن الإنسان المعني والمقصود في قضايا حقوق الإنسان هو الإنسان الغربي بالأساس، أما انتهاكات حقوق الإنسان غير الغربي فلا تدخل تحت هذه المواثيق المنمقة التي تقر بالحقوق والحريات للإنسان بغض النظر عن عرقه وجنسه ودينه ولونه.

وفي هذه الحرب على أهل غزة نسمع دائما نتانياهو والرئيس الأمريكي وعدد من رؤساء الدول الأوروبية ونسمع الصحف المؤيدة للصهاينة يكررون مقولة؛ “إن انتصار غزة تهديد للحضارة الغربية”.

فما علاقة الحرب على غزة بسقوط الحضارة الغربية؟

1- على ماذا تعتمد الحضارة الغربية؟

لقد بنت أمريكا واوروبا حضارتهم على حساب الشعوب الضعيفة، و”الدول النامية” كما يسمونها، حيث كان من أهم نتائج الاستعمار الغربي أن الدول الغربية نهبت ثروات الشعوب في آسيا وأفريقيا، فازدادت الدول الغربية غنى بينما ازدادت الشعوب فقرا وجوعا وتخلفا، فمن المؤكد أن التقدم الغربي مصنوع بثروات تم نهبها، وكان على حساب الشعوب الضعيفة التي يسخر منها الغرب ويصفها بالتخلف.

ولم يسلم العرب والمسلمون من هذا الاستغلال البشع فقد قسم الغرب الدول العربية والإسلامية من أجل إضعافها وزرع العداوة والبغضاء بينها ونهب ثرواتها وإضعاف قوتها. كما يسعى إلى تهجير الأدمغة من العرب والمسلمين نحو دول الغرب، بالترغيب أو الترهيب، لبناء حضارته وليبقى دائما في الريادة والسبق العلمي والحضاري والتكنولوجي.

فالغرب يسرق ثروات الشعوب العربية والمسلمة، ويعطي جزءا منها للعدو الذي زرعوه خنجرا في خاصرتنا، والتطبيع يضيف للكيان ثروات هائلة ويؤمن الخط الممتد من الهند الى إسرائيل عبر دول الخليج ثم الى أوروبا على حساب قناة السويس. وتشتغل الأنظمة العربية التي زرعوها بتفانٍ لكي تحرس هذا الكيان، وتعمل على تأمين هذه المصالح الغربية العليا، ولو على حساب مصالح شعوبها.

2- تداعيات وأسباب سقوط الحضارات

الظلم وتفتت البنية الداخلية للإنسان

الظلم من أكبر عوامل سقوط الحضارات، لأنه يؤدي إلى فقدان التوازن في كافة مجالات الحياة وعلاقة الإنسان مع نفسه ومع الله ومع غيره، وعن هذا تنبثق ظواهر نفسية واجتماعية واقتصادية مرضية، وتصورات فاسدة عن الوجود كله، فيعم الفساد الحياة الإنسانية بأسرها، قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:116]. ومن الظلم السعي إلى التدمير والفساد في الأرض؛ من أجل تحقيق الترف، وجمع المال، والوصول إلى السلطة، فالسبب الرئيس لسقوط الدول في التاريخ القديم والحديث، عند عالم الاجتماع ابن خلدون هو تفتت البنية الداخلية للإنسان، فتسيطر عليه مقومات الحضارة وتتمكن منه وتتلاشى القيم الروحية عنده، ويسود المرض داخل المجتمع ويتفشى الترف، والأنانية، وحب المال، والطمع، وحب الدعة، والراحة، والوصول إلى السلطة، وحب الملك والرئاسة، وبالتالي تسقط الحضارة.

سحق القيم والأخلاق

ومن أبرز أدوات التدمير والإفساد عند الغرب؛ سحق القيم والأخلاق، وتخريب الضمائر والذمم، لأنهما العاملان الرئيسان اللذان بُنيت عليهما حضارات، وعلى أساسهما تدشن الحضارات المعاصرة، وتنهض الأمم. ثم عمل الغرب على نشر الرذيلة وهدم الأخلاق، وعيا منهم بأن الأمم تبقى ما بقيت الأخلاق فإذا أصيبت في أخلاقها انهارت وسقطت.

إغراق الشعوب في الإباحية والشهوات

وقد اخترع الغرب الماسونية والصهيونية ما يسمى بـ”الجندر” وذلك لتعزيز الشذوذ الجنسي واسترجال النساء في الغرب، وتم تسخير الأمم المتحدة لهذه الغاية وبالتحديد لغزو بلادنا العربية. ومن الوسائل التي اعتمدوها في غزوهم الفكري هي جمعيات الNGO التي ترفع لواء الدفاع عن المرأة والطفل. وقد ضخوا مئات مليارات الدولارات لها، والهدف من ذلك تنشيط المافيات الطبية وانعاش شركات الأدوية والمستلزمات الضرورية للمتحولين جنسيا، وأيضا السعي إلى إغراق كل الشعوب في الإباحية والشهوات وتدمير روح التغيير والمقاومة فيها وإبعادها تماما عن كل ما يمت للدين بصلة.

إن ما يقع اليوم هو تدمير الأخلاق ونشر للرذيلة وهدم للفضيلة. ومما ركز عليه “حكماء صهيون” في بروتوكولاتهم وأولوه العناية والاهتمام؛ نشر الرذيلة وهدم الأخلاق في دول العالم.

3- بداية سقوط الحضارة الغربية

لقد تناول العلامة ابن خلدون مفهوم الحضارة من الناحية الاجتماعية والخلقية والسياسية، وربطها بمفهوم العمران، وبين مظاهرها، عوامل قوتها، وأسباب اندثارها، وانحطاطها، وأكد على تأثير القيم الروحية في قيام الحضارة، وأن الانحطاط الأخلاقي، وتخريب القيم والأخلاق من أهم أسباب سقوط الحضارات.

ويعتبر نشطاء الماسونية والحركات الفوضوية، ودعاة المساواة، أول من دشن للسفالة والسفاهة، والانحطاط الأخلاقي، وسلاحهم؛ تخريب القيم والأخلاق، وإفساد الضمائر والذوق السليم. ولذلك يُلاحظ أن الإنسان كاد يفقد المعنى والغاية من وجوده. حتى يُصبح صوت الوعي الأخلاقي الفطري والمتوارث باهتا في ضمير الإنسان المعاصر، فيتراجع معه الإحساس بأهمية الأخلاق القيم والفضائل.

ونسي الغرب أن من نتائج تدمير القيم والأخلاق سقوط الحضارات، ومن ذلك:

– الخراب الأخلاقي يعظم من حجم التدهور، فالفساد يراكم الفساد وينتج فسادا، والجرأة على الحرمات يهتك أستار المجتمعات.

– السعي إلى نشر الفساد؛ نظرا لوجود علاقة طردية بين انتشار الفساد وتدهور الأخلاق وبين التخلف والانحطاط، وسقوط الحضارات، فما تدهورت الأخلاق والقيم الفضلى إلا وتدهور الوضع العام في الأمة، وانتشرت نوازع الشر واختفت نوازع الخير.

– إشاعة الفساد لترويج الانحطاط والتهاون بالقيم الفاضلة يدمر ما بقي من ممانعة ذاتية للمجتمع الإنساني، حتى تستوطنه الأمراض والأسقام الأخلاقية وهي أشد تأثيرا وتدميرا من أمراض الجسد وعلله.

ووضع المؤرخ الأمريكي؛ “ويليام ديورانت” انهيار منظومة القيم الدينية والأخلاقية في طليعة أسباب سقوط الحضارات، ومن مقولاته الشهيرة؛ الحضارات العظيمة لا تنهزم إلا عندما تدمِّر نفسها من داخلها”، وقدم مثالا بالحضارة الرومانية حين قال: والأسباب الرئيسة لانهيار روما مثلاً والحضارة الرومانية؛ تكمن في شعبها وأخلاقياته”.

خاتمة

إننا نعيش مرحلة تاريخية استثنائية. من كورونا إلى حرب أوكرانيا… واحتمال غزو الصين لتايوان احتمال جدّي. والحرب الباردة بين الكوريتين. ثمّ الآن المغامرة الكبيرة لغزة.

بينما يحدث هذا ظهرت قبل أسابيع نذر حرب خطرة بأمريكا الجنوبية، أي بين فنزويلا وغويانا، بسبب إقليم إيسيكيبو. وفي حال حدثتْ هذه الحرب فعلاً فستنجرّ لها البرازيل وفرنسا وبريطانيا وأمريكا، بشكل أو بآخر، فتصبح حرباً قاريّة.

هكذا نلاحظ أن الأحداث تتسارع، وأن المشاهد في هذا العالم تشتعل بالنار من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. يشعر المؤمن الموقن بربه عز وجل بأن؛ الأقدار الإلهية العظيمة تسوق البشرية كلّها نحو مصير لا يعلمه إلا الله، وبأن الله سبحانه هو الفاعل؛ فالأمر كلّه بيده، وكل شيء عنده بمقدار.

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

المصدر

مجلة المنار، الدكتور أحمد الإدريسي.

اقرأ أيضا

بين الحضارة النيّرة والحضارة ﺍﻟﻐﺮﺑﻴﺔ المظلمة .. مختارات من “المسلمون والحضارة الغربية” (9)

تيمور لنك .. انهيار الحضارة وتأخير الثورة الصناعية للمسلمين

التحرر والتقدم والحضارة في میزان الله عز وجل

التغيرات العالمية؛ وسؤال “أين المسلمون”؟

التعليقات غير متاحة