تأخر دخول المغول في الإسلام، وإن تقدم إسلام بعضهم. ومنهم من انتسب للإسلام بفكرة فصل الدين عن الدولة؛ فأذاقوا أهل الإسلام ما أذاقه لهم أجدادهم الوثنيون المحض.

مقدمة

انطلق بلاء المغول بوثنيتهم، وميل بعضهم الى المسيحية ـ لزواج أحد أبناء “جنكيز خان” بنصرانية ـ وعداءٍ شديد للإسلام فدمّروا ما وقع تحت أيديهم حتى قال بعض المؤرخين لفظاعاتهم “ليت أمي لم تلدني”.

ولكن بعد فترة دخل الكثير منهم في الإسلام؛ منهم من صدق فيه مثل “بركة خان” رحمه الله والقبيلة الذهبية، ومنهم من انتسب اليه انتسابا بدون أن يخضع لشريعته كاملة فتمسكوا بالياسق بدلا من حكم الله ورسوله، وحاربوا مدائن الإسلام حتى آذوا المسلمين إيذاء شديدا وارتكبوا فظاعات وويلات لا تقل عما ارتكب الوثنيون الصرحاء.

ومن هذا البلاء كان الزنديق الهالك “تيمور لنك” الذي جاء متأخرا بعد دخول الكثير من عموم المغول في الإسلام، ولو بالانتساب اليه؛ فتسبب في مذابح في بلاد المسلمين وتأخير حضارتهم وأهلك حواضرهم في حلب ودمشق وفي السلطنة العثمانية.

فقد تعرَّض العالم الإسلامي لغزوات همجية من قِبَل المغول في القرن السابع الهجري، عصفت بالبلاد وألقت الفزع في القلوب، فسقطت بغداد في أيديهم، وكان سقوطها كارثة هائلة ألمَّت بالمسلمين وزلزلت كيانهم وأضعفت ثقتهم في أنفسهم، لولا أن تدارك السلطان “سيف الدين قطز” هذا الموقف بانتصاره الخالد على المغول في “عين جالوت“؛ فردَّ الروح، وأعاد الثقة، وأوقف الزحف المغولي الكاسح، ورده ودفع خطره.

وبعد مرور نحو قرن ونصف القرن من هذا الإعصار المدمر الذي حمله “هولاكو” على الشرق عاد الإعصار مرة أخرى على يد “تيمورلنك”.

من هو تيمورلنك؟

كان تيمورلنك (736 – 807هـ/1336- 1405م) من سلالة أحد وزراء المغول، ففي إحدى قرى مدينة “كش” ولد تيمور في (25 من شعبان 736 هـ = 8 من إبريل 1336م). ومدينة كش هي اليوم مدينة “شهر سبز”، أي المدينة الخضراء بالفارسية، وتقع جنوبي سمرقند في أوزبكستان.

وكان مولده بإحدى قرى سمرقند في وسط آسيا، يعود نسبه إلى أحد القبائل المغولية القديمة التي كانت تدين بالطاعة لجنكيز خان وأولاده، لُقّب تيمور بالأعرج وتعني “لنك”، لعرج وشلل كان في قدمه، ورغم تلك الإعاقة تميز منذ نشأته الأولى بالشجاعة والجرأة وحب المغامرة.

التحق تيمور بخدمة حاكم سمرقند وهو أحد خانات المغول، وتدرج في المراتب السياسية والعسكرية حتى تمكن من إخضاع سمرقند لنفوذه وحكمه.

وبدأ في التوسع لدولته الجديدة فضم خوارزم وهراة وسستان سنة (785)هـ، وكذلك شمالي فارس بعدها بسنة، ثم أذربيجان وجورجيا بين عامي (788) و (790)هـ، وبلاد مغول القفجاق المعروفة ببلاد الدشت الواقعة على جانبي حوض نهر الفولجا جنوب روسيا اليوم، بل قاد تيمور حملة عسكرية على روسيا ذاتها سنة (797)هـ، ثم تحرّك نحو العراق وأطراف الدولة المملوكية في الشام وجنوب الأناضول.

أبشع مجازره خلال نصف قرن

كان تيمورلنك يُؤْمِن أنه ما دام يُوجد في السماء إلهٌ واحد، فيجب أن يُوجد في الأرض ملكٌ واحد؛ فكان يَحْلُم بالسيطرة على العالم!

قام تيمور بتنظيم جيش ضخم ، وبدأ يتطلع إلى بسط نفوذه، فاتجه إلى خوارزم، وغزاها أربع مرات، بعث ابنه ميران شاه الى إقليم خراسان، وكان في الرابعة عشرة من عمره، فنجح في السيطرة على الاقليم كله، وبحستان وأفغانستان، ثم اتجه إلى مازندران، فاستسلمت دون قتال، ثم انطلقت جيوش تيمورلنك تفتح أذربيجان، وتستولي على إقليم فارس، وتُغِير على أصفهان التي كانت قد ثارت على نوابه، وبلغ عدد القتلى فيها سبعين ألفًا، أقام تيمورلنك من جماجمهم عدة مآذن.

ثم لما سمع بموت فيروز شاه ملك الهند من غير ولد وحصول اضطرابات بعده، استغل فترة الضعف هذه، وعزم على غزو الهند  واحتل “دلهي” عاصمة دولة “آل تغلق”، وقام بتدميرها وتخريبها. وبلغ من بشاعة التدمير أنها لم تنهض مما حلَّ بها إلا بعد قرن ونصف القرن من الزمان.

حملة السنوات السبع

ثم بدأ ما سمي بحملة السنوات السبع؛ حيث بدأ “تيمورلنك” غزواته باكتساح قراباغ بين أرمينيا وأذربيجان فقتل وسبى. ثم توجه إلى تفليس عاصمة الكرج (بالقوقاز) ونهبها ثم توجه إلى “سيواس” وقبض على مقاتلتها وهم ثلاثة آلاف نفر، فحفر لهم سرداباً وألقاهم فيه وطمهم بالتراب، ثم وضع السيف في أهل البلد وأخربها حتى محا رسومها.

ثم سار تيمور إلى “عينتاب”  فغلب أهلها، واتجه إلى حلب، فسقطت بسبب رفض مماليك مصر مساعدة أهل الشام نتيجة صراعهم على الحكم. وبلغ عدد القتلى فيها عشرين ألفاً والأسرى أكثر من ثلاثمئة ألف.

وبعد عمليات النهب والحرق والسبي والتخريب التي قام بها تيمورلنك وجيشه اتجه إلى حماة والسلمية، ولم يكن حظهما بأحسن حال من حلب، وواصل زحفه إلى دمشق التي بذل أهلها جهودًا مستميتة في الدفاع عن مدينتهم، لكن ذلك لم يكن كافياً لمواجهة جيش جرار يقوده قائد محنك، فاضطروا إلى تسليم دمشق. ولمَّا دخل تيمورلنك المدينة أشعل فيها النار ثلاثة أيام حتى أتت على ما فيها، وأصبحت أطلالاً. وبعد أن أقام بها ثمانين يوماً، رحل عنها مصطحبًا أفضل علمائها وأمهر صُناعها، واتجه إلى طرابلس وبعلبك فدمرهما. وعند مروره على حلب أحرقها مرة ثانية وهدم أبراجها وقلعتها. ثم دمر ماردين.

واتجه تيمورلنك بعد ذلك إلى بغداد، وكانت تحت حكم الدولة الجلائرية؛ فهاجمها هجومًا شديدًا، ودمر أسوارها، وأحرق بيوتها، وأوقع القتل بعشرات الآلاف من أهلها، ولم تستطع المدينة المنكوبة المقاومة فسقطت تحت وطأة الهجوم الكاسح في أيدي تيمورلنك. وألزم جميع من معه أن يأتيه كل واحد منهم برأسين من رؤوس أهل بغداد. فكانت عدة من قتل في هذا اليوم من أهل بغداد تقريباً مئة ألف إنسان. وهذا سوى من قتل في أيام الحصار، وسوى من قتل في يوم دخول تيمور إلى بغداد، وسوى من ألقى نفسه في دجلة فغرق، وهو أكثر من ذلك.

ولم تُشبِع هذه الانتصارات طموح تيمورلنك الجامح وإسرافه في الغزو وشغفه بفتح البلاد والمدن، فانطلق نحو آسيا الصغرى فاقتحم “سيواس” والأناضول، واصطدم بالدولة العثمانية الفتيَّة.

واستعد بايزيد لملاقاة الغازي الجامح الذي تقدم بجيش جرار قوامه 300 ألف جندي، وبعد أن استولى على سيواس التقى بالجيش العثماني بقيادة بايزيد الأول في معركة هائلة عُرفت باسم “معركة أنقرة” في (19 ذي الحجة 804 هـ = 20 يوليو 1402 م)، وانهزم بايزيد هزيمة ساحقة، ووقع في الأسر هو وأحد أبنائه، ولم يتحمل السلطان العثماني ذل الأسر فمات كمدًا في (15 شعبان 805 هـ = 10 مارس 1403م)، في مدينة “أمد شهر”، حيث كان تيمورلنك عائدًا بأسراه إلى عاصمته سمرقند.

ولم يكد يستقر في سمرقند حتى أعد العدة لغزو الصين في خريف (807 هـ = 1404م)، وكان الجو شديد البرودة حين خرج لغزوته الأخيرة، وعانى جيشه قسوة البرد والثلج، ولم تتحمل صحته هذا الجو القارس، فأصيب بالحمى التي أودت بحياته في (17 من شعبان 807 هـ = 18 من فبراير 1405م)، بعد أن دانت له البلاد من “دلهي” إلى “دمشق”، ومن “بحيرة آرال” إلى “الخليج العربي”، وبعد وفاته نقل جثمانه إلى “سمرقند” حيث دفن هناك في ضريحه المعروف بـ “كور أمير”، أي “مقبرة الأمير”.

تيمورلنك في التاريخ

صوّرت المصادر العربية والفارسية شخصيته على نحو مخيف فهو بالغ القسوة، جامد القلب، يميل إلى سفك الدماء وإقامة المذابح، وهو بالفعل كذلك.

وبالإضافة إلى شغفه بالعلوم والفنون شارك بالتأليف والكتابة، فوضع مجموعة من القوانين التي أطلق عليها اسم “تزوكيات”.

ويعد “تيمورلنك” عند الشعوب التركستانية وعند الأوزبك بطلاً قوميًّا، ورمزًا للشجاعة والعدل ومراعاة المبادئ الإسلامية. لكن هذا مجافٍ للحقيقة وخلل عميق فـ (17) مليونًا هذا الرقم المذكور هو تقدير بعض المؤرخين لعدد ضحايا حملات تيمور لنك. العسكرية على مدار حوالي نصف قرن من جهوده التي لم تنقطع لإقامة إمبراطوريته الشخصية، وهذا الرقم كان يمثل أكثر من (5%) من مجمل سكان العالم في ذلك الوقت.

أثر تيمور لنك على الإسلام وأهله

كان لتيمور لنك أثر بالغ السوء على الإسلام وأهله..

1) فقد تسبب في تأخر السلطنة العثمانية وفقدانها لقوتها عقودا طويلة؛ مما أضعفها في مواجهة أوروبا؛ وكان يمكن لها أن تتقدم مبكرا ويرسخ الإسلام في أوروبا أسرع وأعمق. استغرقت السلطنة العثمانية عقودا لتستعيد قوتها ووحدتها. لكن هذا الانهيار أعطى للعدو نفَسا طويلا لينمو ويقوى ثم يأتي هو بكفره ليهاجم المسلمين وحواضرهم، بل التف حول العالم الإسلامي الى شرق إفريقيا وامتد الى الخليج وشرق الجزيرة ثم الى الهند المسلمة آنذاك.

2) كما تسبب في التأخر الحضاري لحواضر المسلمين بتدمير مقارب لما قام به هولاكو؛ مما تسبب في تأخر ما كان يُرجى للمسلمين من ثورة صناعية كانت لتقوم مبكرا جدا، لما كان عند المسلمين من علوم وبداية ميكنة. وكان لها أن تجعل مركز الحضارة العالمية والقوة والسيطرة للمسلمين وأن تبدأ الثورة الصناعية من العالم الإسلامي وليس أوروبا. وكان لهذا أن يجنّب المسلمين فترات الاستعمار، وما تسبب فيه من قتل ومذابح، وإهانات وسرقة ثروات المسلمين ومقدرات بلادهم.

3) والأهم من ذلك أنه كان ليجنب المسلمين الهزيمة النفسية والحضارية أمام الغرب مما تسبب في ضعف إقامة الإسلام كشريعة وهوية ونظام ومنهج حياة متكامل. كان يمكن لهذا أن يجعل الغرب هو المنبهر بالمسلمين لا العكس كما يعاني المسلمون اليوم.

4) كما أنه تسبب في ضعف الشام ضعفا شديدا فجعلها عرضة لنزول الصليبيين بها وافتقادها القوة لردهم منذ أول نزولهم؛ حتى أقاموا مستوطناتهم وجاؤوا أفواجا عبر قرن من الزمان في حملات متتالية. وحملات الهالك “تيمور لنك” هي التي مهّدت لهذا البلاء الطويل ومذابحه التي كانت تصل الى قتل (70) ألف مسلم في يوم أو أيام يسيرة كما حدث في القدس الشريف.

5) أنها أطمعت الصليبيين في الإجهاز على الإسلام تماما؛ ومن رحمة أرحم الراحمين وفاة هذا الهالك قبل قدوم وفد صليبي اليه كان يريد ترتيب الإطباق على العالم الإسلامي بترتيب التزامن بين الصليبيين من الغرب و”تيمور لنك” من الشرق. وهي رحلة معروفة في أدبيات الغرب بـ “الرحلة الى طشقند”. يبكي عليها الغرب الى اليوم.

خاتمة

ما من بلاء إلا وقد أصاب الإنسان ما تسبب فيه، وقد فرّط المسلمون وتعدوا وأصابوا ما كان مثل هذا المبير السفاح عقوبة على هذا، كما كان “هولاكو” من قبل. وقد روى ابن تيمية عن بعض العلماء أن “هولاكو” للمسلمين كان بمثابة “بختنصر” لبني إسرائيل. وكذلك “تيمور لنك” وكذلك كل طاغية يتسلط ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ (الشورى:30) صدق الله العظيم.

كما أن لكل حدث حكمة، وحكمة الله شاملة من وراء كل حدث. فالحمد لله رب العالمين.

…………………………..

المصادر:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة