لا تغني المعارف في الأذهان، والعلوم على الألسنة قولا ودلالة، حتى تصبح في قلب صاحبها معنى وحالا، قائمة به، وهو قائم على مقتضاها، فينتفع صاحبها وتنتفع به الأمة.
بين العلم والعمل، وبين المعرفة والحال
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .. أما بعد:
فالمقصود من هذه المقالة التفريق بين من يعلم حقيقة التوحيد، ومقوماته، وأنواعه ونواقضه مجرد علم نظري مع ضعف في تطبيقه والتحرك به، وبين من يجمع مع العلم العمل والتطبيق، وظهور آثار التوحيد في حاله وأعماله ومواقفه.
يبين الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ هذه المعاني عندما تحدث عن التوكل وحقيقته، والفرق بين مجرد العلم به وبين التحرك به عملاً وحالاً؛ فيقول:
“فكثير من الناس يعرف التوكُّل وحقيقته وتفاصيله، فيظن أنه متوكل. وليس من أهل التوكل، فـ “حال التوكل” أمر آخر من وراء العلم به.
وهذا كمعرفة المحبة والعلم بها وأسبابها ودواعيها. وحال المحب العاشق وراء ذلك.
وكمعرفة علم الخوف. وحال الخائف وراء ذلك.
وهو شبيه بمعرفة المريضِ ماهيةَ الصحة وحقيقَتها. وحاله بخلافها.
فهذا الباب يكثر اشتباه الدعاوى فيه بالحقائق، والعوارض بالمطالب، والآفات القاطعة بالأسباب الموصلة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم”. (1مدارج السالكين 2/ 125)
وحري بهذا الكلام أن تعقد عليه الخناصر، وتُعض به النواجذ، وأن يهتم به المربُّون مع أنفسهم ومن تحت أيديهم..
العلماء لا يركنون الى شهرة العلم
فلقد كان من مضى من العلماء الصالحين الربانيين يخافون على أنفسهم من الضعف العملي، أو ضعف الحال مقابل ما عندهم من العلم الكثير.
وكانوا لا يركنون إلى شهرتهم العلمية؛ بل كانوا يكرهون أن يتضخم علمهم ويشتهروا به بين الناس وليس في قلوبهم وأحوالهم ما يكافئ ذلك من الأعمال الصالحة، والأحوالِ الشريفة، والتي هي مقتضى الفهم والعلم.
ولنا أن نتساءل ونفكر؛ أيهما أسعد حالاً ومنـزلة عند الله، عز وجل؟
رجل أوتي من العلم ما يتمكن به من حشد النصوص الدالة على فضل قيام الليل والأسباب المعينة على ذلك ثم هو لا يقوم الليل..؟ وآخر لا يعلم من ذلك إلا أن قيام الليل مستحب وأجره عظيم فاجتهد ليله بين يدي ربه، تعالى، ساجداً وقائماً، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه؟
فالمرء لا يكون قائماً الليل بمجرد علمه بفضل ذلك وأحكامه، ولا يكون ورعاً بمجرد علمه بالورع، ولا يكون صابراً بمجرد علمه بالصبر وتعريفاته وأنواعه، ولا يكون متوكلاً بمجرد علمه بالتوكل وأقسامه.
العلم ونوازل الأمة
واليوم بات يؤرق كل مسلم صادق، ويشغل بال كل موحِّد لله، عز وجل، نوازل الأمة من خلال عدوان أعداء الله عليها، في غزة وفلسطين والقدس، بالتحالف الصهيو صليبي، أو في سوريا أو العراق أو الانقلاب العلماني في مصر ومذابحه، وفي غيرها من بلاد المسلمين.
وكل ذنب المسلمين أنهم “مسلمون”، يريدون الحرية، وتحرير إرادتهم وإقامة دينهم وتحكيم شريعتهم واستعادة هويتهم، وأنهم رافضون لمؤامرات الذلة والاستسلام التي تعترف لليهود بالاحتلال وتقرهم على مقدسات المسلمين وابتلاع القدس، ويعلنون ولاءهم لله، عز وجل، ولدينه وللمسلمين، كما يعلنون براءتهم من الكفر والكافرين .
غياب الكلمة وقت الحاجة
وإن مما يقضّ المضاجع ويثير الأشجان أن تغيب كلمة الحق عند كثير من دعاة المسلمين وعلمائهم في هذا الأحداث التي تمتحن فيها العقيدة، وبخاصة الأصل الأصيل لكلمة التوحيد ألا وهو الولاء والبراء، والذي هو واضح في هذا الصراع غاية الوضوح وجلي أشد الجلاء.
وإن المسلم ليحتار ويتساءل أين ما كنا نتعلمه من ديننا وعقيدتنا من أن كلمة التوحيد إنما تقوم على الولاء والبراء؛ الولاء لله، عز وجل، وعبادته وحده، ومحبة ما يحبه ومن يحبه، والبراءة من الشرك وأهله ومن كل ما يبغضه ـ سبحانه ـ ومن يبغضه، وإعلان العداوة له.
وهذه هي وصية الله ـ تعالى ـ لهذه الأمة ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ (الممتحنة: 4).
إي والله إنه لسؤال محير: أين دروس المساجد؟ وأين محاضرات أهل العلم، وأشرطتهم المسجلة، وبيانهم للناس فيها عقيدة التوحيد القائمة على الولاء والبراء؟
أين الاعتزاز بدعوة المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة من بعده، والذين كان جُل كلامهم ورسائلهم في شرح هذه العقيدة ولوازمها والتحذير مما يخالفها وينقضها؟
أين نحن، وأين علماؤنا من بيان هذا الحق الأصيل للناس؟! أين هم عن ذلك والأمة تمر في ساعات عصيبة تحتاج مَنْ يبعث فيها عقيدة الولاء والبراء، وبناء المواقف في ضوئها..؟
الفرق بين العلم والسلوك
إن هناك فرقا بين تناول التوحيد كعِلْم مجرد وبين أخذه علماً وحالاً وسلوكاً.
إن المواقف المتخاذلة اليوم أمام أمريكا الكافرة وربيبتها دولة اليهود، وعدم الصدع والجهر بعداوتها والبراءة منها ومن يتولاها من المنافقين من بني جلدتنا لهو أكبر دليل على أن التوحيد عند الكثير منا بقي في حدود العلم المجرد ، أما أخذه علماً وحالاً وعملاً فإنه – ويا للأسف – أصبح مغيَّباً عن الأمة، ومغيَّباً عن المواقف والممارسات.
إن هذا الدين يرفض اختزال المعارف الباردة في الأذهان المجردة
إن العلم في هذا الدين يقتضي العمل، ويتحول في قلب المسلم إلى حركة وأحوال ومواقف؛ إذ لا قيمة للمعرفة المجردة التي لا تتحول لتوِّها إلى حركة ومواقف.
نعم؛ لا قيمة للدراسات الإسلامية في شتى مناهجها ومعاهدها، ولا قيمة لاكتظاظ الأدمغة بمضمونات هذه المعارف إن لم يصحبها عمل ومواقف.
إن العلم المجرد حجة على صاحبه إذا لم يقتضِ عنده العمل.
مزاولة العلم
إن العلم بالدين لا بد أن يزاوَل في الحياة، ويطبَّق في المجتمع، ويعيش في الواقع؛ وإلا فما قيمة الدروس المكثفة عن الولاء والبراء وأنواعه، وما يضاده من الشرك وما ينقضه من النواقض..
ثم لما جاءت المواقف التي نحتاج فيها إلى تطبيق ما تعلمناه من مشائخنا فإذا بالسكوت، بل والتشنيع على من ترجم ما تعلمه إلى سلوكٍ وحالٍ مع أعداء الله، عز وجل؛ فأعلن براءته وصرَّح بما تعلمه من علمائه ومشائخه من أن تولي الكفار ومناصرتهم على المسلمين رِدَّة وناقض من نواقض الإسلام..؟
……………………………………………..
هوامش:
- مدارج السالكين 2/ 125.