حاز الأنبياء على سموّ الأخلاق ومعاليها، وكانوا تطبيقا فائقا للأخلاق والقيم؛ حتى كانوا تمثيلا صادقا لما أمر الله به ومدحه، وجعلهم للخلق أسوة.
مقدمة
تتعدد الصفات والأخلاق التي امتثلها الأنبياء لربهم تعالى وكانوا فيها قدوة للبشرية الى يوم القيامة. وهنا ننظر في صفة الوفاء التي تميزوا بها؛ فصفة الوفاء صفة بارزة في حياة الأنبياء عليهم السلام الذين بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة وجاهدوا في الله حق جهاده.
إبراهيم الذي وفَّى
فمنهم إبراهيم عليه السلام الذي قال عنه ربه تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ﴾ [النجم: 37]؛ قال الإمام ابن کثیر رحمه الله تعالى:
“قال سعيد بن جبير والثوري : أي بلغ جميع ما أمر به، وقال ابن عباس وفى ما أمر به، وقال قتادة : وفى و طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه. وهذا القول هو اختیار ابن جرير وهو يشمل الذي قبله”. (1تفسير ابن كثير عند الآية (37) من سورة النجم)
وقد ربط بعض المفسرين بين هذه الآية في مدح إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبين الآية التي في سورة البقرة وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ…﴾ [البقرة: 124].
قال الإمام ابن کثیر رحمه الله تعالى:
“يقول تعالى منبها على شرف إبراهيم خليله عليه السلام، وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد، حتى قام بما كلفه الله تعالی به من الأوامر والنواهي ولهذا قال: ﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ أي: واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليها وإنما الذي هو عليها مستقیم، فأنت والذين معك من المؤمنين ـ اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم، أي: اختباره له بما كلَّفه به من الأوامر والنواهي و ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾، أي: قام بهن كلهن، كما قال تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ﴾، أي: وفي جميع ما شرع له، فعمل به صلوات الله عليه..
وقال عبدالرزاق أيضا: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: ﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ قال: ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد.
في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء.
وروي عن سعيد بن المسيب، ومجاهد، والشعبي والنخعي، وأبي صالح وأبي الجلد نحو ذلك.
قلت وقريب من ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قال رسول الله: عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء. ونسيت العاشرة إلا أن تكون: المضمضة»”. (2تفسير ابن کثیر، ط الشعب (1/ 237))
وفاء فريد وممتد الى الذرية
وعودة مرة أخرى إلى إمام الحنفاء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في نموذج آخر من نماذج الصدق والصبر على الوفاء بالعهد والوعد مع الله عز وجل؛ وذلك في قصته عليه الصلاة والسلام عندما أمر بذبح ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وذلك في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات: 102 – 106] يقول العدوي ـ أثابه الله ـ في كتابه “دعوة الرسل”:
“من عادة القرآن أن يحذف من القصة ما لا تدعو إليه العبرة، ولا يتوقف عليه الفهم اعتمادا على فطنة السامع؛ فيرينا الله تعالى أنه بعد أن بشره بغلام ووهبه ذلك الغلام، ثم نشأ وترعرع حتى وصل إلى سن يستطيع معه أن يسعى قال له: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ﴾ وهي استشارة تحمل في حناياها لواعج الألم ومثيرات الحزن والأسى، استهلّها نبي الله بقوله: ﴿يَا بُنَيَّ﴾ وكأنه يقول: يا بني، ويا فلذة كبدي، الذي وهبك الله لي بعد دعائي إياه أن يهب لي ذرية صالحة، تعاونني في الدعوة وتناصرني في إقامة دين الله، إني أرى في المنام أني أذبحك، فما الذي أنت فاعل في ذلك البلاء..؟ وبأي عزيمة تلقى تلك المحنة..؟ وإنها لمحنة ما أشدها على نفس الوالد والولد فماذا كان جوابه عن ذلك السؤال الرهيب وتلك الاستشارة الموجعة..؟
ولو أن ملكا من ملوك الدنيا بعث إلى رجل من رعیته برسوله يبلغه أن ذلك الملك المطاع أمر أن تصادَر أملاکه ويعيش صفر اليدين، أو أمر أن يُنفى من بلده ويحال بينه وبين مواطنيه. لو أن رجلا من الناس بلغه ذلك على لسان رسول لا يكذب لكان من شأن ذلك الخبر أن ينخلع له قلب ذلك الرجل عند سماع القصة، فكيف بصبي يبلغه عن ربه، بواسطة أبيه ـ وأبوه رسول لا يَكذب، مطيع لا يَعصي ـ أن يحرمه من هذه الحياة، ويحول بينه وبين أن يعيش..؟ كيف بصبي يبلّغه أبوه رؤياه المنامية أنه يذبحه..؟! ماذا تكون نفسه التي بين جنبيه في ذلك الحين..؟ وماذا يكون قلبه..؟ وماذا تكون إجابته؛ (وقد استشير)..؟
ولو أن الأمر كان من طريق القسر لكان أهون على النفس وأخف في الاحتمال. كان جواب ذلك الصبي أن يقول قالة الراضي المطمئن: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾.
وكأنه يقول لأبيه: إنني أقدر قيمة ألمك لتلك التضحية، وجهاد نفسك في ذلك العمل الشاق، لأني قطعة منك، ولكن حق الله عليك فوق حق الأبناء والأحفاد، وإجابتك لداعيه أهم من إجابتك لدواعي الفطرة، فأجِب داعي الله، وتغاض عن داعي الشفقة والحنان، واصدع بأمر الله إرغاما للشيطان. فإذا كنت قد ناديتني بقولك: ﴿يَا بُنَيَّ فإني أناديك بقولي لك: يَا أَبَتِ﴾، وأقول لك قول الراضي بقضاء الله وحكمه: ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ وسوف لا تراني ممتعضا بذلك البلاء: ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾. فلم يكن من نبي الله إبراهيم وولده سوى استسلامهما لأمر الله، فأخذ إبراهيم ينفذ أمره، وأخذ ولده يصبر لقضاء الله وحكمه. فحينما أسقطه على التل، ناداه الله: أن يا إبراهيم قد حققْت الرؤيا؛ فاغتبِط وأبشِر بالفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، ولا تعجب من ذلك، فإن هذه سنتنا في جزاء المحسن”. (3“دعوة الرسل”، محمد العدوي ص 60، 61)
ولذلك مدح الله سبحانه نبيه إسماعيل عليه الصلاة السلام بقوله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا﴾ [مريم: 54]. قال الإمام ابن کثیر رحمه الله تعالى:
“وقال بعضهم: وإنما قيل له ﴿صَادِقَ الْوَعْدِ﴾ لأنه قال لأبيه: ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ فصدق في ذلك”. (4تفسير ابن كثير عند الآية (54) من سورة مريم)
وفاء كليم الله موسى
ومنهم موسى عليه الصلاة السلام وما وفّى لربه سبحانه في تبليغ بني إسرائيل دعوة الله عز وجل وصبره على أذاهم وتعنتهم وسوء أدبهم، وقد كان له موقف وفاء قبل بعثته، ألا وهو موقفه عليه الصلاة والسلام مع شیخ مدين حينما آجر نفسه عشر سنين، وهي أتم الأجلين، عند الشيخ والد البنتين حتى يتزوج إحداهما، وكان قد خیره بين الثمان سنين والعشر فاختار أكمل الأجلين.
عن سعيد بن جبير، قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى فقلت: لا أدري. حتى أقدم على حبر العرب فأسأله. فقدمت فسألت ابن عباس فقال: “قضي أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل”. (5البخاري: (2684) في الشهادات)
خاتمة
لولا الإطالة لذكرنا أمثلة أخرى عن الأنبياء؛ ولكن من اليقين أن هذه الصفة بخصوصها ممتدة فيهم جميعا بلا محاشاة ولا استثناء لأنها صنو الأمانة، وهم أهلها، الذين بلغوا رسالات الله ويخشونه ولا يخشون سواه. ومن البلاغ أن يبلغوا قولا وعملا، سمتا وخُلقا؛ فيذكر الخلق أقوالهم وينظرون أفعالهم ويرمقون مواقفهم؛ فلله درهم وقد ألقى عليهم سلامه يذكرون به في العالمين الى يوم القيامة وفي جنات الخلد؛ فالحمد لله على نعمه، والرسالات من أجل النعم. وبقي علينا واجب التأسي فهم كنوز جعلها الله لنا للاقتداء والتأثر.
………………………….
الهوامش:
- تفسير ابن كثير عند الآية (37) من سورة النجم.
- تفسير ابن کثیر، ط الشعب (1/ 237).
- “دعوة الرسل”، محمد العدوي ص 60، 61.
- تفسير ابن كثير عند الآية (54) من سورة مريم.
- البخاري: (2684) في الشهادات.