سِمة التوازن الأصيلة في هذا الدين تبرز في أعمال القلوب، وفي النظر الى تعلق القلوب بالله والعمل الإيجابي الذي أمر به؛ فهو مطلوب بين الخوف والرجاء، والدنيا والآخرة، والأخذ بالأسباب والتوكل على الخالق سبحانه.
مقدمة
بعض القلوب منغلق وموغل في الابتعاد عن ربه تعالى؛ قد قسا قلبه وأُشرب بحب الدنيا فلم يطلب ربه تعالى ولم يَسْع اليه..
وبعض القلوب يطلب ربه تعالى؛ لكن يأخذ بجانب يغلب على قلبه ويغفل جوانب أخرى يحتاجها في المسير اليه؛ ولهذا كان العلم فارقا ومهما، وكان التوازن ملبّيا لحاجات القلوب. وهذا مما يجب أن يعلمه سالك الطريق.
وعند طلب رب العالمين لا بد من:
التوازن بين الخوف والرجاء
وهذا كثير في القرآن الكريم والسنة الصحيحة؛ فقلما تأتي آيات الوعيد والتخويف وذكر عظمة الله عز وجل وبطشه إلا ويسبقها أو يلحقها ذكر آيات الوعد والرجاء، وذكر رحمة الله تعالى وبره ولطفه.
ومن نزع إلى آيات الخوف والوعيد ونسي آيات الوعد والرجاء فإنه مجانب للعدل والوسطية وفيه شَبه من الخوارج الوعيدية، ومن نزع إلى آيات الرجاء والوعد ونسي آيات الوعيد والتخويف؛ فإنه أيضًا يعد مجانبًا للعدل والوسط وفيه شَبه من المرجئة.
والمذهب الوسط الحق هو مذهب أهل السنة والاتباع الذين يجمعون بين الأدلة كلها ويُقبلون على الله عز وجل بجناحي الخوف والرجاء: خوف يسوقهم ورجاء يحدوهم.
وبهذا التوازن المنضبط يسير العبد إلى ربه عز وجل محبًّا له، خائفًا منه ومن عقابه، طامعًا وراجيًا في ثواب ربه سبحانه، محسنًا الظن به عز وجل، ولذا نجد أن مَن هذا شأنه يسعى بالعمل والكدح في فعل ما يحبه الله عز وجل، وترْك ما يسخطه حبًّا لله تعالى، وخوفًا من عقابه، ورجاء ثوابه، أما إذا تغلب جانب على آخر فإن النتيجة ترك العمل أو ضعفه، وإساءة الظن بالله تعالى.
الوسط والتوازن بين التوكل على الله عز وجل وفعل الأسباب
فقد اضطربت الأمور على بعض السالكين فترك الأخذ بالأسباب، بينما الأخذ بالأسباب هو عين التعبد المشروع والمأمور به، والذي علّق تعالى به دخول الجنة ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون﴾ (الزخرف: 72) ﴿هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (الطور:19) وقال ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الواقعة: 24) وغيرها من عشرات الآيات تعلق دخول الجنة بأعمال العباد كسبب للدخول.
فإهمال السبب هنا هو عين الانصراف عن المطلوب، ولا يفعل هذا إلا مدخول العقل.
وخلال القرون المتأخرة انتشرت بين المسلمين آفة ترك الأسباب “توكلا..!” فكانت سببا لتأخرهم وأخذ الكفار بزمام العلوم ومن ثَم القوة، ومن ثم وقعت الأمة في التبعية.
فوقع الناس في تأخر شخصي في طلبهم النجاة في الآخرة، ووقعت الأمة عموما في خلل عام.
فثمة من يترك الأسباب المأمورة محتجا بالتوكل، وفي المقابل ثمة من يعطي للأسباب حجما زائدا، فيلوم الأسباب إن لم تنتج مراده متحسّرا، ويفرح بها إن حصل مراده غافلا عن الخالق المقدِّر سبحانه؛ فلا يصبر عند المصاب ولا يشكر عند النعمة
ولبيان الأمر والجمع بينهما؛ يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى:
“وهذا موضع انقسم فيه الناس طرفين ووسطًا: فأحد الطرفين عطَّل الأسباب محافظةً على التوكل، والثاني: عطَّل التوكل محافظة على السبب.
والوسط: علم أن حقيقة التوكل لا تتم إلا بالقيام بالسبب، فتوكل على الله في نفس السبب، وأما من عطَّل السبب وزعم أنه متوكل فهو مغرور مخدوع متمنٍّ؛ كمن عطَّل النكاح والتسري وتوكل في حصول الولد، وعطّل الحرث والبذر وتوكل في حصول الزرع، وعطل الأكل والشرب وتوكل في حصول الشبع والري؛ فالتوكل نظير الرجاء، والعجز نظير التمني”. (1)
ويقول سيد قطب، رحمه الله تعالى:
“والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال؛ فهي تردُّ الأمر كله إلى الله؛ ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع.
أما أن تتحقق تلك النتائج فعلًا أو لا تتحقق فليس داخلًا في التكليف؛ لأن مردَّ ذلك في النهاية إلى تدبير الله، ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل يصلي قائلًا: توكلت على الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكل».
فالتوكل في العقيدة مقيَّد بالأخذ بالأسباب، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله”. (2)
التوازن والوسط بين الدنيا والآخرة
“لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس، وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها؛ فتنمو الحياة وتتجدد، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض؛ ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يُشغلون بالمتاع عن تكاليفها، والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم، وتقبُّل لعطاياه، وانتفاع بها، فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى.
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادلَ والتناسقَ في حياة الإنسان، ويمكِّنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، التي لا حرمان فيها، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة”. (3)
خاتمة
قد نهى تعالى عن أي جموح، وأمر بالتوسط والاعتدال في كل أمر.. حتى في الإيغال في الخير والسبق اليه، شرع الاعتدال لكي يستطيع العبد الوصول اليه تعالى، كما في موقف سلمان الفارسي مع أبي الدرداء.
فقد «آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وبين أبي الدرداء، فزارسلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال: ما شأنك متبذلة..؟! قالت: إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا.
قال: فلما جاء أبو الدرداء، قرب إليه طعاما، فقال: كل، فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل، ذهب أبو الدرداء ليقوم، فقال له سلمان: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال له: نم، فنام، فلما كان عند الصبح، قال له سلمان: قم الآن، فقاما فصليا.
فقال: إن لنفسك عليك حقا، ولربك عليك حقا، ولضيفيك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، فأعطِ كل ذي حق حقه.
فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرا ذلك؛ فقال له: صدق سلمان». (4)
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن العبد بتوسطه واعتداله يصل الى ربه أسرع من غيره، ويزكو أسبق من غيره، ويحقق من التربية ما يفوق كل من سلك الطرق الجامحة والمبتدعة على السواء.
والله تعالى الهادي الى صراط مستقيم.
………………………………………
هوامش:
- «الروح» (ص 541).
- «في ظلال القرآن» (5/2758).
- «في ظلال القرآن» (5/2711).
- أخرجه البخاري (1968).