ما سعد امرؤ ولا استقام حاله إلا بالاستسلام لربه وترك منازعة العقل والشهوة والهوى، والتسليم المطلق لله تعالى إيمانا ويقينا بعلمه وحكمته، وعدله ورحمته.
الوسائل الجالبة بإذن الله تعالى للتسليم والقلب السليم
إن أعظم منة يمن الله عز وجل بها على من يشاء من عباده منة استقرار الإيمان واليقين والتسليم لله عز وجل في القلب، حتى يكون القلب سليما ممتلأ بما يحبه الله عز وجل ويرضاه. وصاحب هذا القلب هو صاحب النفس المطمئنة، التي تأتي ربها راضية مرضية، تنعم برضوان الله تعالى وجنته، نسأل الله عز وجل أن يمن علينا بفضله ورحمته بالقلب السليم والنفس المطمئنة.
بعض الأسباب المعينة على تحلي العبد بالقلب السليم واستقرار التسليم لله عز وجل في قلبه:
أولا: دعاء الله عز وجل واللجوء إليه والتضرع بين يديه وسؤاله القلب السليم ..
وهذا السبب هو أعظم الأسباب ومفتاحها، لأن القلوب بید الله عز وجل وهو سبحانه العليم الحكيم الهادي النصير الرحیم الودود، يوفق من يشاء بفضله ورحمته، ويخذل من يشاء بعدله وحكمته. وما دام التوفيق والتسديد والهداية بيده سبحانه ولا يملكها غيره فلا جرم كان سؤال ذلك ممن يملكها وحده هو المتعين. والله سبحانه وتعالى لا يرد دعاء من دعاه بصدق ويقين وإرادة ورغبة ورهبة. ولذلك كثر في دعائه عليه الصلاة والسلام طلب صلاح القلب وسلامته وثباته على الحق واليقين، ومن ذلك:
– قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم»1(1) النسائي (1304) ترقيم أبي غدة. وقد سبق تخريج الحديث..
– ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اقسم لي من خشيتك ما تحول به بيني وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغني به جنتك، ومن اليقين ما تهون به على مصائب الدنيا»2(2) الترمذي (3502) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2783) والمعجم الكبير للطبراني (7135)..
– ومن الأدعية التي فيها سؤال الله عز وجل التسليم والإسلام لله عز وجل، ما ذكره الله عز وجل في كتابه عن إبراهيم وإسماعيل عليها السلام في دعائهما: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 128]، إلى قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 131]. والمقصود أن الدعاء والإلحاح على الله عز وجل بطلب القلب السليم لمن أنفع الأسباب وأنجعها إذا صاحب ذلك صدق الطلب وصحة العزيمة.
ثانيا: التفكر في عظمة خلق الله عز وجل في الآفاق وفي الأنفس، التي تدل على عظمة الخالق
يقول الله عز وجل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53].
إن التأمل في عظمة هذا الكون الذي خلقه الله عز وجل ، وفي خلق الإنسان العجيب، وما في ذلك من الدقة والنظام والقوة والقهر والحكمة واللطف والرحمة، ليدل ذلك على عظمة الله عز وجل وسعة علمه وحكمته ولطفه ورحمته وقوته وقدرته، وهذا كله يقود إلى امتلاء القلب من تعظيم الله عز وجل ومحبته وإجلاله والخوف منه والتوكل عليه وحده . وإذا امتلأ القلب بهذه الأعمال القلبية الشريفة تمكن التسليم التام لله عز وجل من القلب، وفاز العبد بالقلب السليم المخبت لله عز وجل. وهذا ما أثنى به الله عز وجل على أصفيائه من خلقه، وذلك في قوله سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 190 – 191].
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية:
(والقرآن يوجه القلوب والأنظار توجيها مکررا مؤكدا إلى هذا الكتاب المفتوح؛ الذي لا تفتأ صفحاته تقلب، فتتبدى في كل صفحة آية موحية، تستجيش في الفطرة السليمة إحساسا بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب، وفي تصميم هذا البناء، ورغبة في الاستجابة لخالق هذا الخلق، ومودعه هذا الحق، مع الحب له والخشية منه في ذات الأوان. وأولو الألباب؛ أولو الإدراك الصحيح يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية، ولا يقيمون الحواجز، ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات. ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قياما وقعودا وعلى جنوبهم، فتتفتح بصائرهم، وتشف مداركهم، وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله إياه، وتدرك غاية وجوده، وعلة نشأته، وقوام فطرته بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود)3(3) في ظلال القرآن 1/ 544..
وهذا ما انتهى إليه إبراهيم عليه السلام بعد نظره في ملكوت السموات والأرض، حيث أعلن لقومه ما ذكره الله عز وجل في كتابه عنه بقوله: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 78 – 79].
عن جبير بن محمد بن جبیر بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتی رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ويحك! أتدري ما تقول» وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال «ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك. ويحك! أتدري ما الله؟ إن عرشه على سمواته لهكذا». وقال بأصابعه مثل القبة عليه «وإنه لیئط به أطيط الرحل بالراكب»4(4) أبو داود (4728) وسبق تخريجه ..
ثالثا: التفكر والنظر في آلاء الله عز وجل ونعمه التي لا تحصى
قال الله عز وجل في سورة النعم: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النحل: 18] وقال في وسط السورة بعد أن عدد أنواعا أخرى من نعمه سبحانه على الإنسان في خلقته ومطعمه ومشربه ومسکنه وملبسه: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ۙ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ [النحل: 80 – 81]. فذكر الله عز وجل في ختام هذه الآية أن من أسباب إسلام العباد لله عز وجل والتسليم له إتمام نعمة الله على عباده وإسباغه عليهم نعمه الظاهرة والباطنة ﴿كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ [النحل: 81]. لذا فإن التفكر والتأمل في نعم الله علينا التي لا تحصى لمن أسباب تحقق التسليم في القلوب له سبحانه والإخبات والإذعان له، وهذا كله من ثمرة محبة المنعم ، حيث إنه لا منعم على الحقيقة ولا محسن إلا الله ، فينبغي أن يكون له الحب كله، وله التعظيم كله، وله التسليم كله، يقول الشيخ الشعراوي عن آية النحل السابقة، وهي قوله تعالى: ﴿كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ [النحل: 81].
وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾: أي تلقون زمام الاستسلام إلى الله..، وأنت لا تلقي زمامك إلا لمن تثق فيه .. والإنسان قد يلقي زمامه في أمر لا يجيده إلى إنسان مثله يجيد هذا الأمر، فإذا كنت في حاجات نفسك تلقي زمامك لمن هو مثلك، ويساويك في قلة المعلومات، ويساويك في قلة الحكمة، ومع ذلك تسلم إليه أمرك لمجرد أنه يجيد شيئا لا تجيده أنت، أفلا تلقي زمامك وتسلم أمرك إلى ربك وخالقك، وخالق كل هذه النعم من أجلك. إذن: جاء ذكر هذه النعم، ثم الأمر بإسلام الوجه لله والتسليم له سبحانه، حتى نسلم عن يقين واقتناع، فالحق تبارك وتعالى ليس له مصلحة في طاعتنا، ولا تضره معصیتنا، إن أطعناه فلن نزيد في ملکه سبحانه، وإن عصيناه فلن ننقص من ملکه سبحانه .
إذن: تسليمنا الأمر والزمام لله من مصلحتنا نحن.. فالإنسان حينما يسلم زمامه إلى غيره قد يكون للغير مصلحة تلوي رأيه في المسألة، إنما ربنا سبحانه حينما يوجه إلينا حكما فليس له مصلحة فيه فلا يلوى، لا يكون إلا لصالحك، وبعد أن عدد هذه النعم في الذات والمحيطات وفي الإنسان وفي الانطباعات، قال: إياك بعد ذلك أن تسلم زمامك لغيري .. لذلك نقول: لا عبادة كالتسليم، لأن التسليم لحكمه تسليم لحكيم)5(5) تفسير الشعراوي 1/ 4996 (باختصار). .
رابعا: الفقه في أسماء الله الحسنى وآثارها والتعبد له سبحانه بها
إن الفقه في أسماء الله الحسنى وفهم معانيها والتعبد لله سبحانه بها، لتثمر في قلب العبد ثمرات وعبودیات عظيمة، ينعم بها في الدنيا والآخرة، أعظمها عبودية التسليم والرضى والإخبات والانقياد والخوف والرجاء، وتفويض الأمور إليه سبحانه والتوكل عليه وحده.
يقول العز بن عبدالسلام رحمه الله تعالى: (فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من الخوف والرجاء والمهابة والمحبة والتوكل، وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات)6(6) شجرة المعارف ص1..
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (فإن الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه إذا أراد أن يكرم عبده بمعرفته وجمع قلبه على محبته، شرح صدره لقبول صفاته العلا، وتلقيها من مشكاة الوحي، فإذا ورد عليه شيء منها قابله بالقبول، وتلقاه بالرضا والتسليم، وأذعن له بالانقياد، فاستنار به قلبه، واتسع له صدره، وامتلأ به سرورا ومحبة، فعلم أنه تعریف من تعريفات الله تعالى، تعرف به إليه على لسان رسوله، فأنزل تلك الصفة من قلبه منزلة الغذاء أعظم ما كان إليه فاقة، ومنزلة الشفاء أشد ما كان إليه حاجة، فاشتد بها فرحه، وعظم بها غناؤه، وقويت بها معرفته، واطمأنت إليه نفسه، وسكن إليها قلبه، فجال من المعرفة في میادینها، وأسام عين بصيرته في رياضها وبساتينها، لتيقنه بأن شرف العلم تابع لشرف معلومه، ولا معلوم أعظم وأجل ممن هذه صفته، وهو ذو الأسماء الحسنی، والصفات العلى، وأن شرفه أيضا بحسب الحاجة إليه، وليست حاجة الأرواح قط إلى شيء أعظم منها إلى معرفة بارئها وفاطرها، ومحبته وذكره، والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه، والزلفى عنده، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلما كان العبد بها أعلم كان بالله أعرف، وله أطلب، وإليه أقرب، وكلما كان لها أنکر کان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد. والله ينزل العبد من نفسه حيث ينزله العبد من نفسه)7(7) شرح قصيدة ابن القيم الشافية الكافية 1/24..
فالعالم بالله تعالى وبأسمائه وصفاته الحسنى يستدل بما علم من صفاته وأفعاله سبحانه على ما يفعله ويخبر به ويشرعه من الأحكام، لأنه سبحانه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته. وأفعاله دائرة بين العدل والفضل والحكمة، ولا يشرع ما يشرعه من الأحكام أو يقضيه من الأقضية إلا على حسب ما اقتضاه حمده وحكمته وفضله وعدله، فأخباره كلها حق وصدق، وأوامره ونواهيه عدل وحكمة ورحمة، وكل هذه المعارف تثمر في قلب العبد التسليم والرضا والحب لله عز وجل والخضوع له، وكم لهذه الآثار من سلامة للقلوب والأخلاق.
وكم في الجهل بها أو تعطيلها من آفات وأمراض للقلوب والأخلاق. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (أي شيء عرف من لم يعرف الله ورسله، وأي حقيقة أدرك من فاتته هذه الحقيقة، وأي علم أو عمل حصل لمن فاته العلم بالله والعمل بمرضاته ومعرفة الطريق الموصلة إليه، وما له بعد الوصول إليه)8(8) هداية الحياری ص 591..
الهوامش
(1) النسائي (1304) ترقيم أبي غدة. وقد سبق تخريج الحديث.
(2) الترمذي (3502) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2783) والمعجم الكبير للطبراني (7135).
(3) في ظلال القرآن 1/ 544.
(4) أبو داود (4728) وسبق تخريجه .
(5) تفسير الشعراوي 1/ 4996 (باختصار).
(6) شجرة المعارف ص1.
(7) شرح قصيدة ابن القيم الشافية الكافية 1/24.
(8) هداية الحياری ص 591.
اقرأ أيضا
أصل الإسلام والتسليم .. لماذا الحديث عنه؟
التسليم لله رب العالمين..ثمار وآثار (1)
التسليم لله رب العالمين..ثمار وآثار (2)