للمصطلح ـ مع قلة كلماته ـ أهمية في دلالاته، وعقيدة التوحيد، والولاء والبراء ينخدع الناس عنها بمصطلحات موهمة. والحق في كتاب الله خلاف ذلك.
التلاعب بالمصطلحات
إن من صور التلبيس والتضليل الذي يمارسها أعداؤنا من كفار ومنافقين في إعلامهم الموجَّه ما يحصل من تلاعب بالمصطلحات واستخدامها في تحسين القبيح وتقبيح الحسن، وفي حرف ثوابت هذا الدين وأصوله عن حقائقها.
إن حرب المصطلحات لَمن أشد أنواع الحروب لأنها من أشد العناصر الثقافية والعلمية فتكًا في ثقافات الأمم وعقائدها، ومع أن “المصطلح” لا يتجاوز كلمة أو كلمتين أو ثلاثًا ولا يتعدى في ذلك إلا نادرًا؛ إلا أن هذه الكلمة بمدلولها الذي يرمي إليها المتلاعبون بها لها أثر في تفريغ العقول والقلوب وملئها، ولها مفعول السحر الذي يستعصى فهمه على منطق العقل؛ وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
“وكم من مسألة ظاهرها جميل وباطنها مكرٌ وخداعٌ وظلم؟ فالغبيّ ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة يتفقّد مقصدها وباطنها؛ فالأول يروج عليه “زغل المسائل” كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم، والثاني يُخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقود”. (1اعلام الموقعين (4/ 229))
مصطلحات مُحدثة مقابل الولاء والبراء
وإن من المصطلحات الخطيرة التي يتلاعب بها اليوم تلك المصطلحات التي يلبَّس على الناس بها لهدم عقيدة “الولاء والبراء” وتفريغها من قلوب المسلمين، تلكم العقيدة التي تقوم على المعاداة والموالاة في الله عز وجل، والخصومة والخصام فيه؛ بحيث يحب من أحبه الله من عِباده الموحدين ويبغُض ويعادي ويخاصم من عاداه الله من الكفار والمنافقين، وأصبحنا نسمع مصطلحات خطيرة انطلت على كثير من الناس، ومنهم بعض الدعاة وطلاب العلم بسبب عرضها في قوالب مزخرفة تُطرح في وسائل الإعلام المختلفة في الليل والنهار وبصورة مكثفة ومكررة بل ويُعقد لها المؤتمرات والندوات والحوارات.
ومن هذه المصطلحات الخطيرة مصطلح “السلام” و”نشر المحبة” و”نبذ الكراهية مع بني الإنسان” حتى يعيش الناس في عالم مسالم مطمئن بعيدًا عن الحروب والعداوة والخصومات.
إن أعداء هذا الدين من كفار ومنافقين يريدون طرح هذه المصطلحات وأمثالها ودعوة المسلمين إليها لتمييع الدين في نفوس أهله وتفريغه من مضمونه بإبطال عقيدة الولاء والبراء؛ فلا براءة ولا عداوة ولا خصومة ولا كره للكافرين لأنهم إخواننا في “الإنسانية” وهذا مما يقف عثرة في إحلال السلام والتسامح بين بني البشر..!!
إن الذين يحاولون تمييع المفاصلة والخصومة بين المسلمين والكفار بحجة التسامح والعدل والسلام يخطئون في فهم دين الله الحق، وفهْمِ الأديان الباطلة؛ كما يخطئون في فهم معنى “التسامح” و”العدل” و”السلام”، وفهمِ الواقع الأليم. ومصدر هذا كله الجهل بكتاب الله عز وجل وما جاء فيه من حسم صارم لهذه المسألة، وأنه لا سلام ولا محبة للكافر حتى يكون الدين لله؛ فيُسْلم من يُسلم ويكون من إخواننا في الدين ويكفر من يكفر ويعاند من يعاند فيكون عدونا وخصمنا، ومن استسلم يعطي الجزية عن يد وهو صاغر ويعيش بذلك تحت الدولة الإسلامية في سلام وأمان.
حقيقة المقصود من هذه المصطلحات
إن الكفار وإخوانهم من المنافقين بطرحهم لهذه المصطلحات الكفرية والمناداة بالسلام ونبْذ الكراهية يريدون منها أن يتسامح المسلمون من طرف واحد ويتقبّلوا عُدوان الكفار عليهم وتقتيلهم واحتلالهم لديار المسلمين دون أدنى مقاومة أو جهاد لهم وإنما الاستسلام والخنوع لأعداء الدين الذين لا يرْقُبون في مؤمن إلًا ولا ذمة بل الحقد والقتل والتدمير للأخضر واليابس والصغير والكبير لأنه جاء بزعمه لنشر الحرية والعدل والسلام!!
وفي هذا المقال نتناول ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان خطر هذا المصطلح الخطير الخبيث مستعينًا بالله عز وجل في بيان بطلانه ومصادمته لكلمة التوحيد، وأصلِ هذا الدين، مستنيرًا بكتاب الله عز وجل وما فيه من الأدلة البينات الواضحات على هدم هذه الدعوة الخبيثة.
يقول الله عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ۩ * هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ (الحج: 18- 24).
في هذه الآيات الكريمات بين الله عز وجل أن مخلوقاته سبحانه ينقسمون إلى فريقين:
فريق يسجد لله عز وجل ويعبده لا شريك له وهم كل من في السموات والأرض من الملائكة والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس.
وفريق كفر بالله ولم يعبده؛ بل جحده أو عبد معه غيره وهم كفار الثقلين من الجن والإنس ومنافقيهم.
والشاهد من هذه الآيات قوله سبحانه بعد ذكر العابدين له والكافرين به ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ أي أن العلاقة بين المؤمن والكافر ليست علاقة مودة ووئام وسلام؛ وإنما هي خصومة وعداء ومفاصلة.
هذا كلام ربنا سبحانه؛ فلا التقاء بين المؤمنين والكافرين بل لا بد من المواجهة والعداوة والخصومة بين الفريقين، فكيف يأتي من الملبّسين والمتلاعبين بأصول هذا الدين ويطالب أن يكون بين الفريقين التسامح والسلام ونبذ العداوة والكراهية، أليس في هذا مصادمة لكلام ربنا سبحانه فاطر السموات والأرض؟؟!! بلى والله.
يقول البقاعي رحمه الله تعالى في تنظيم الدرر:
“ولما قسّم الناسَ إلى مخالف ومؤالف أتبعه جزاءهم بما يرغّب الموالف ويرهّب المخالف على وجه موجِب للأمر بالمعروف ـ الذي من جملته “الجهاد لوجهه خالصًا” ـ فقال: “هذان”. وحمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله وعبيدة بن الحارث وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم الذين هم أول من برز للمخاصمة بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم”. (2نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (5/ 142))
وقال ابن عطية رحمه الله تعالى في تفسيره لقوله تعالى ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ﴾:
“والمعنى أن الإيمان وأهله، والكفرَ وأهله؛ خصمان مُذ كانا إلى قيام الساعة بالعداوة والجدال والحرب”. (3المحرر الوجيز (6/ 228))
وهذا نص كلام الطبري في تفسيره:
“وأوْلى هذه الأقوال عندي بالصواب، وأشبهها بتأويل الآية، قول من قال: «عني بالخصمين جميع الكفار من أيّ أصناف الكفر كانوا وجميع المؤمنين”.
وإنما قلت ذلك أولى بالصواب، لأنه تعالى ذِكْره ذكَر قبل ذلك صنفين من خلقه: أحدهما أهل طاعة له بالسجود له، والآخر: أهل معصية له، قد حقّ عليه العذاب، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ ثم قال: ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾، ثم أتبع ذلك صفة الصنفين كليهما وما هو فاعل بهما، فقال: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ﴾ وقال الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾; فكان بيِّنا بذلك أن ما بيّن ذلك خبر عنهما.
فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما رُوي عن أبي ذرّ إنَّ ذَلكَ نزل في الذين بارزوا يوم بدر؟ قيل: ذلك إن شاء الله كما روي عنه، ولكن الآية قد تنزل بسبب من الأسباب، ثم تكون عامة في كل ما كان نظير ذلك السبب، وهذه من تلك؛ وذلك أن الذين تبارزوا إنما كان أحد الفريقين أهل شرك وكفر بالله، والآخر أهل إيمان بالله وطاعة له، فكل كافر في حكم فريق الشرك منهما في أنه لأهل الإيمان خصم، وكذلك كل مؤمن في حكم فريق الإيمان منهما في أنه لأهل الشرك خصم.
فتأويل الكلام: هذان خصمان اختصموا في دين ربهم، واختصامهم في ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الآخر ومحاربته إياه على دينه.
وقوله: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ﴾ يقول تعالى ذكره: فأما الكافر بالله منهما فإنه يقطع له قميص من نحاس من نار، والمؤمن يُدخله جنات تجري من تحتها الأنهار”. (4تفسير الطبري (18/ 590))
وقد ذكر الله سبحانه في نفس السورة (الحج) بعد عدة آيات من آية “الخصمان” قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾. وبين الآيتين تناسب يوضحه الشيخ الشعراوي في تفسيره فيقول:
“صَدْر الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحج: 38]. يُشْعِرنا أن هناك معركة، والمعركة التي يدافع الله فيها لا بُدَّ أنها بين حقٍ أنزله، وباطلٍ يُواجهه، وقد تقدَّم قبل ذلك أن قال تبارك وتعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ [الحج : 19]. وما دام هناك خصومة فلا بُدَّ أنْ تنشأ عنها معارك، هذه المعارك قد تأخذ صورة الألفاظ والمجادلة، وقد تأخذ صورة العنف والقوة والشراسة والالتحام المباشر بأدوات الحرب. ومعركة النبي صلى الله عليه وسلم مع معارضيه من كفار مكة لم تقف عند حَدِّ المعركة الكلامية فحَسْب، فقد قالوا عنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : ساحر، وكاهن، ومجنون، وشاعر، ومُفْتر..إلخ. ثم تطوَّر الأمر إلى إيذاء أصحابه وتعذيبهم، فكانوا يأتون رسول الله مَشْدوخين ومجروحين؛ فيقول لهم صلى الله عليه وسلم: «لم أومر بقتال، اصبروا اصبروا، صبراً صبراً..». إلى أنْ زاد اعتداء الكفار وطفح الكَيْل منهم أَذن الله لرسوله بالقتال، فقال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج: 39). فقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (الحج: 38).
صيغة “يدافع”: مبالغة مِنْ “يدفع”.
معنى يدفع يعني: شيئاً واحداً، أو مرة واحدة، وتنتهي المسألة، أمّا يدافع فتدل على مقابلة الفعل بمثله، فالله يدفعهم وهم يقابلون أيضاً بالمدافعة، فيحدث تدافع وتفاعل من الجانبين، وهذا لا يكون إلا في معركة. والمعركة تعني: منتصر ومنهزم”. (5تفسير الشعراوي ص:66041)
خاتمة
بقيت “المدافعة” طبيعة تفرضها العقيدة وسعة اختلاف بين الموقفين؛ موقف مَن يؤمن بربه ومن يكفر به.
وطبيعة الكافرين أنهم لا يقفون عند المسالمة وترك أهل الإيمان لإقامة دينهم؛ بل يحملون من الرفض ما ﴿يؤزّهم أزا﴾ نحو مواجهة الاسلام وأهله، يكادون يسطون بمن يتلو آيات الله، وتكاد أبصارهم تزلق رسوله وورثته، أفعالُهم كيد وتآمر ومجازر لا تفتر ولا تنتهي، وكتائب لتبرير قتل المسلمين، ومراحل وعقود متتالية من صراع الى آخر، حتى يطمئنوا الى بسط الهيمنة وضمان التبعية للمسلمين لهم، وترك هوة كبيرة من الفرق بين القوى والتكنولوجيا والسلاح ما يطمئنون به الى تبعية المسلمين لهم، واحتياجهم الدائم، لتكون تبعيّةً ذاتية.
ولا بد من معرفة أن التعايش السلمي الذي يطلبه الغرب مقصود به أن يرضى المهزوم أمامهم بحالة الهزيمة ويترك جميع أشكال المقاومة.
ولا بد للمسلمين من موقف حاسم يهتدي بنور الوحي، ويعرف طبيعة العقيدة، بل العقائد وما تفرضه على أهلها، وطبيعة الصراع البشري واستيعاب دروس التاريخ وحقائق الواقع.
الهوامش
- اعلام الموقعين (4/ 229).
- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (5/ 142).
- المحرر الوجيز (6/ 228).
- تفسير الطبري (18/ 590).
- تفسير الشعراوي ص:66041.