إن تكالب الأعداء على أمة الإسلام، بدءًا من اليهود الصهاينة، والصفويين، والأمريكان، والغرب، والروس؛ حيث تُمارَس أعمال القتل لأبناء الأمة في فلسطين والعراق وسوريا ولبنان واليمن، وكثير مِن بقاع الأرض ، ما كان ليحدث لولا ضعف أكثر الأمة وتخاذلها أمام الأعداء.
محق الكافرين لابد أن يسبقه تمحيص المؤمنين
بالنظر إلى ما يدور من الأحداث الخطيرة والمتسارعة والغزو المكثف لبلدان المسلمين اليوم، وما نشأ عنه من صراع بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر والنفاق، سواء ما كان منه غزوا عسكريا للمسلمين في عقر دارهم، كما هو الحال في بلاد العراق وفلسطين وسوريا وأفغانستان، وما صاحب ذلك من التداعيات، أو ما كان منه غزوا فكريا أو أخلاقيا كما هو الحاصل في عامة بلدان المسلمين ، أقول: بالنظر لهذا الغزو والصراع في ضوء سنة الابتلاء والتمحيص نرى أن هذه السنة الربانية الثابتة تجري وتؤثر أثرها بقدر الله عز وجل وحكمته ؛ ألا وهو تمحيص المؤمنين وتمییز الصفوف، حتى تتنقى من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة؛ وحتى يتعرف المؤمنون على ما في أنفسهم من الثغرات والعوائق التي تحول بينهم وبين التمكين لهم في الأرض، فيتخلصوا منها، ويغيروا ما بأنفسهم، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، فإذا ما تميزت الصفوف وتساقط المتساقطون في أتون الابتلاء، وخرج المؤمنون الصادقون منها كالذهب الأحمر الذي تخلص من شوائبه بالحرق في النار حينها تهب رياح النصر على عباد الله المصطفين الذين يستحقون أن يمحق الله من أجلهم الكافرين، ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وقبل هذا التمحيص والتمييز فإن سنة محق الكافرين وانتصار المسلمين التي وعدها الله عباده المؤمنين لن تتحقق.
هكذا أراد الله عز وجل وحكم في سننه التي لا تتبدل: أن محق الكافرين لابد أن يسبقه تمحيص المؤمنين، ولذلك لما سئل الإمام الشافعي رحمه الله: أيها أفضل للرجل أن يمکن أو يبتلى؟ كان من دقيق استنباطه وفهمه لكتاب الله عز وجل أن قال: «لا يمكن حتی يبتلى»1(1) ذكر هذا الأثر الإمام ابن القيم في زاد المعاد (1/208) .، ولعله فهم ذلك من قوله – تعالى -: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [عمران:141]. فإن الله عز وجل ابتلى نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- فلما صبروا مكنهم.
المواقف المختلفة من غزو الأعداء
وللتدليل والتأكيد على أن مجتمعات المسلمين تعيش اليوم حالة شديدة من الابتلاء والتمحيص والفتنة في هذه النوازل: أذكر بعض المواقف التي أفرزتها هذه السنة – أعني سنة الابتلاء والتمحيص – في خضم هذه الفتن المتلاطمة، ولم يكن هذه المواقف أن تعرف ويعرف أهلها قبل حصول هذه الفتن، وقد ظهرت هذه المواقف مع أننا في أول السنة وبداية الابتلاء، فكيف يكون الحال في آخر الأمر، نعوذ بالله أن نرجع على أعقابنا أو أن نفتن، وفي ذكر هذه المواقف نصيحة وتحذير لنفسي ولإخواني المسلمين من الوقوع فيها والاستعانة بالله عز وجل في الخروج منها لمن وقع فيها.
• الموقف الأول: موقف المنافقين والمرجفين
النفاق داء عضال في الأمة، ولقد عانت الأمة في تاريخها الطويل ما عانت من الخيانات ومظاهرة الكافرين وكشف عورات المسلمين لأعدائهم، ومن عادتهم أنهم لا يظهرون إلا في أيام المحن الكبيرة والنوازل العظيمة التي تمر بالمسلمين، حيث يظهر الله عوارهم ويفضحهم ويكشف أسرارهم، وهذا من رحمة الله عز وجل وحكمته في حصول الابتلاءات، ومن ذلك ما كان منهم يوم الأحزاب يوم أن أحاط المشركون وحلفاؤهم بالمدينة، ونقضت اليهود عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزلزل المسلمون زلزالا شديدا، وعند ذلك نجم المنافقون والمرجفون والمعوقون من كانوا مندسين في الصف المسلم، ويكفينا في وصف حال المنافقين في هذه الغزوة قول الله عز وجل: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ۚ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا) [الأحزاب:12-14] إلى قوله – تعالى: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ۖ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا) [الأحزاب:18].
الشماته بالمؤمنين، والتحريض عليهم وإشاعة اليأس والإرجاف
وها نحن في هذا الزمان نشاهد فريقا منهم يقفون نفس الموقف الذي وقفه إخوانهم يوم الأحزاب؛ وذلك عندما رأی منافقو زماننا ما أحاط بالمسلمين من النوازل، ورأوا إخوانهم من الصليبيين يحيطون ببلدان المسلمين، فظهر نفاقهم وبدا للناس ما كانوا يخفون من قبل، وأصبحنا نسمع منهم الإرجاف وتردید ما يقوله الكفرة الغزاة عن المجاهدين والدعاة الصادقين، وراحوا يحرضون عليهم ويشمتون بما يصيبهم من المحن والمصائب، وصاروا يبثون في الأمة اليأس من مقاومة الغزاة، ويحسنون الكفرة الغزاة في عيون المسلمين، ويستبشرون بمجيئهم ويساندونهم في تنفيذ مخططاتهم لغزو العقيدة والأخلاق، قال الله – تعالى – في وصف سلفهم من المنافقين الأولين: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الحشر:11].
وقال سبحانه وتعالى- عن شماتتهم بالمؤمنين، وإشاعة اليأس والإرجاف، وإساءة الظن بالله عز وجل ووعده: (بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا) [الفتح:12].
ولم يعد خافيا على أحد ما يطرحونه في وسائل الإعلام المختلفة، وبكل وقاحة ودون حياء ولا خوف من الله عز وجل أو من الناس، وذلك فيما يتعلق بثوابت الدين، أو ما يتعلق بالمرأة وتغريبها والتحريض على خروجها ومخالطتها للرجال، والزج بها في أعمال لا تناسب طبيعتها، مما فيه مخالفة للفطرة والشريعة.
فضح المنافقين من الرافضة الباطنية أو العلمانيين والليبراليين
وليس المقصود هنا تتبع ما يفعله المنافقون والمرجفون في هذه السنوات الأخيرة، والمحن العصيبة التي تمر بالمسلمين، وإنما المقصود التدليل على أن سنة الله عز وجل في الابتلاء والتمحيص أنها تكشف وتفضح المنافقين، وتبرزهم في مجتمعات المسلمین، کما فضح الله إخوانهم وسلفهم في غزوة الأحزاب، وغزوة أحد، وغزوة تبوك التي أنزل الله فيها سورة كاملة، هي سورة التوبة التي من أسمائها الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين وميزتهم، وهذه من الحكم العظيمة، والفوائد الجليلة لسنة الابتلاء؛ إذ لو بقي المنافقون في الصف المسلم دون معرفة لهم؛ فإنهم يشكلون خطرا وتضليلا وتلبيسا للأمة، أما إذا عرفوا وفضحوا وتميزوا، فإن الناس يحذرونهم، وينبذونهم ويجاهدونهم بالحجة والبيان، أو بالسيف والسنان إن ظهر انحيازهم للكفار ومناصرتهم لهم، ووجدت القدرة على ذلك، وبذلك يتخلص المسلمون من سبب كبير من أسباب الهزيمة والفشل، ويتهيئون لنصرالله عز وجل وتأييده.
وها هي الأحداث في سوريا ومصر كم كان فيها من الخير في فضح المنافقين من الرافضة الباطنية أو العلمانيين والليبراليين الذين أظهروا کرههم وحقدهم للمسلمين الصادقين، وانحيازهم إلى خندق الكافرين المجرمين (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
• الموقف الثاني: موقف اليائسين والمحبطين والمخذلين
لما کشف أعداء هذا الدين من الكافرين وبطانتهم من المنافقين عن عدائهم الصريح وحربهم المعلنة على الإسلام وأهله، وعندما تعرض كثير من المسلمين ومؤسساتهم الدعوية والخيرية للمضايقة والأذى من الكفرة والمنافقة، شعر بعض المسلمين حينئذ بشيء من اليأس والإحباط والخوف، وبخاصة لما قام شياطين الإنس والجن يبثون وساوسهم وشبههم في تضخيم قوة الأعداء وأنها لا تقهر، وأن المنكرات عمت وطمت، ووسائلها سيل جارف لا يمكن مقاومته عندها: سیطر على بعض النفوس اليأس من ظهور هذا الدين والتمكين لأهله؛ فكان منهم فئة ظهر ضعف يقينها ومرض قلوبها في هذه الابتلاءات فشكت في ظهور هذا الدين، واهتز يقينها بوعد الله – تعالى – بنصرة دينه، وهؤلاء على خطر يهدد إيمانهم، ويخشى أن يقعوا في فتنة المنافقين الظانين بالله ظن السوء.
الاستسلام للواقع أو اعتزاله، وانتظار معجزة ربانية
وفئة أخرى لم يساورها الشك في ظهور دین الله – تعالى -: ونصره لأوليائه، وإنما أصابها اليأس من ذلك في هذا الزمان، حيث رأت أن المسلمين اليوم غير قادرين على المواجهة لعدم تكافؤهم مع عدوهم، وعليه فلا داعي للمقاومة التي لا تفيد شيئا، وإنما هي بمثابة المحرقة التي تحرق المسلمين وبخاصة المجاهدين منهم، والحل عند هؤلاء: الاستسلام للواقع أو اعتزاله، وانتظار معجزة ربانية من الله عز وجل كانتظار المهدي أو المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام- !! ولا يخفى ما في هذا التصور من الانحراف والشطط، وكم هو مفرح للكفرة والمنافقين مثل هذا التفكير ومثل هذه المواقف المستخذية التي تبث اليأس في نفوس المسلمين، وتعيقهم عن بذل الجهد في الدعوة ومدافعة الفساد والأخذ بالأسباب الشرعية والمادية للنصر على الأعداء.
سنة الابتلاء والتمحيص وكشفها لأمراض النفوس الكامنة
وإن مواقف الخوف واليأس والإحباط ما كانت لتعرف لولا سنة الابتلاء والتمحيص. وظهور هذه السنة وعملها اليوم في حياة المسلمين هي التي أفرزت وأظهرت مثل هذه المواقف، وفي ظهورها فائدة لأصحابها لعلهم أن يراجعوا أنفسهم، ويقلعوا عن هذه المواقف بعد أن اكتشفوا هذا المرض الكامن في نفوسهم بفعل هذه السنة، كما أن فيه فائدة أيضا لغيرهم ليحذروا من هذه المواقف، ويحذروا ممن ينادي بها؛ قال الله -تعالى- في تحذير عباده المؤمنين من الوهن واليأس والإحباط: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:139].
وقال سبحانه وتعالى – في وصف عباده الصابرين والموقنين بنصره عز وجل: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:146-148].
وقال سبحانه وتعالى- في وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لما تحزبت عليهم الأحزاب: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب:22].
• الموقف الثالث: موقف أهل الدنيا الراكنين إليها اللاهثين وراء حطامها، المتنافسين عليها
وأهل هذه المواقف هم الذين لا هم لهم إلا هذه الدنيا والتمتع بلذاتها، ولا هم لهم إلا أنفسهم وأسرهم، وتوفير متاع الدنيا الزائل لهم.
أما ما يتعرض له الدين وأهله من أذى وإفساد وابتلاءات فقد كشفت سنة التمحيص أن هذا ليس من همهم، بل قلوبهم باردة ساكنة ما دامت مساكنهم ومطاعمهم ومشاربهم سالمة لهم. ودورهم في نوازل الأمة أن يسألوا عن أخبارهم وما حل بهم، ولا يتجاوز الأمر ذلك، قال الله عز وجل عن أمثال هؤلاء: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا ۖ وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ ۖ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا) [الأحزاب:20].
• الموقف الرابع: موقف المسايرين للواقع أهل الحلول الوسط
وهم الذين نظروا إلى شدة ما يصيب المسلمين في هذه الأزمنة من الأذى والتضييق والابتلاءات المتنوعة، فرأوا أن الثبات والصمود على ثوابت هذا الدين والصبر على أحكامه الشرعية، ومصادمة الواقع مما يصعب في مثل هذه الظروف؛ لأن أعداء هذا الدين لا يرضون بذلك، بل يوجهون حربهم إلى هؤلاء الثابتين الذين يطلقون عليهم تارة: الأصولية، وتارة: المتشددين، وتارة: الإرهابيين، والخطير في هذه المواقف الانهزامية أنها تغطى بشبه شرعية، ويحاول أصحابها أن يؤصلوا ضعفهم ومواقفهم هذه بأدلة، يزعمون أنها قواعد شرعية مع أنها غير منضبطة بضوابط الشرع ولا ملتزمة بمقاصده؛ کاستدلالهم مثلا بالضرورة وأحكامها، وقواعد التيسير ورفع الحرج، وبالمصالح المرسلة وغيرها، مما هي صحيحة في أصلها لكنها فاسدة في تطبيقها2(2) للرد على هذه الشبهات انظر كتاب «فاستقم كما أمرت» للمؤلف..
وعلامة أصحاب هذا الموقف أنهم يصفون أنفسهم أو يصفهم غيرهم بالمعتدلين أو التنويريين، وهذه المواقف ما كانت لتعرف لولا سنة الابتلاء التي تمحص وتمیز الصفوف، ويكشف الله بها كوامن النفوس التي يعلمها الله مسبقا، لكنه -سبحانه- يظهرها للناس بفعل سنة الابتلاء والتمحيص، وصدق الله العظيم: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران:179].
آثار الاستعجال واستبطاء النتائج
يقول الأستاذ إياس المزني واصفا لهذه الحالة:
(تسربت إلى الساحة الإسلامية، واعترت الفهم الإسلامي في الدعوة الاستعجال واستبطاء النتائج. ومن أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الحال، ضغط الجاهلية، وقوة وسائلها في الحيلولة دون الدعوة والوصول إلى أهدافها.
فإلى ماذا أدى هذا الموقف؟
الملاحظ: أنه أدى ببعض العاملين إلى الانسحاب والنكوص عن طريق الدعوة.. أما هذه النتيجة فليست من مقاصد الكلام، لأنها نتيجة واضحة، والموقف منها تبعا لذلك لا يحتاج لكثير بيان، فهي إذن ليست محلا للبحث في «میزان الحكمة»..
إن النتيجة الخطيرة والدقيقة لهذه العلة تتمثل فيمن يبقى مستمرا في طريق الدعوة، لا يصرح بالخروج عنها، ولكنه يصاب بالملل من التمسك بالثوابت التي قام في الأصل يدعو إليها! والغطاء المستخدم عادة في مثل هذه التحولات هو التنازل المبرر!…
… ومن المهم التوضيح أن هذا الموقف يبرز عندما تحمل الجاهلية من أساليب القمع والسجون، لأنها ترسخ التمسك بالدعوة، وتميل إلى ما هو أخطر، وهو محاولة الاحتواء وتمييع الطرح الإسلامي.
وتعلن الجاهلية: تفضلوا، اعملوا للإسلام من خلال مؤسسات الدولة! واعرضوا برامجكم على الناس، ولتحققوا ما تستطيعون من مکاسب.
إن دعوة الجاهلية الدعاة إلى الإصلاح من خلال مؤسساتها، تمثل إغراء تصعب مقاومته، وتؤثر سلبا على المنهج السليم في التغيير..
لقد واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا الموقف. واقع صعب ضاغط، وعروض من الجاهلية توهم بالتنازل: كن ملكا، كن أغنانا، کن سیدنا.. فلم ينثن صلى الله عليه وسلم، ولم ينسحب إلى التأويل، بل بقي ثابتا على مبادئه «النظرية» التي بدأ بها..
.. إن أمام الدعاة طريقا طويلا وصعبا، وإن بداية الفتنة تأويل، ووضوح الغاية المنسجمة مع القدرات المرحلية حاجز أمام الفتنة، ومانع من أن يقف لك أحدهم كالشوكة في الحلق ؛ ليرد عليهم قائلا: «هناك فرق بين التنظير والواقع.. وكلامك نظري»3(3) مجلة السنة العدد (67)..
أمثلة لدعوة الجاهلية الدعاة إلى الإصلاح من خلال مؤسساتها
وتأييدا لهذا الكلام فلتنظر إلى تجربة جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر، وتجربة حماس في غزة، وآخرها وأشدها مأساة تجربة الإخوان في مصر وانقلاب السيسي وزمرته العلمانيين على حكومة الإخوان المنتخبة، وتحويل البلاد إلى حمام دم ومعتقلات.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المتمسك بدينه في آخر الزمان يعد غريبا بين الناس، ووصفه بأنه كالقابض على الجمر، وهذا الوصف لا يقدر عليه إلا أولوا العزم من المؤمنين الصابرين ؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء» قيل: ومن هم یا رسول الله؟ قال: «الذين يصلحون ما أفسد الناس»4(4) تحفة الأحوذي (2361) ( 539/6 )، وقال الترمذي: حديث غريب. وقال الأرناؤوط في «جامع الأصول» : له شواهد يرتقي بها..
وقال صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر»5(5) الترمذي (2/42) ، وابن بطة في «الإبانة» (1/173)، وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وصححه الألباني بشواهد في «السلسلة الصحيحة» (957)..
ولا يخفى على من يراقب اليوم كثيرا من الفتاوى والحوارات التي تقوم بها بعض الصحف والمجلات والقنوات الفضائية ما تحمل من هذه المواقف المتميعة، والتي يحاول أصحابها أن يتشبثوا بأدنى شبهة أو أدنى قول شاذ، يخالفه الدليل الصحيح من الكتاب والسنة، وهذه المواقف والفتاوى لم تقتصر على الأحكام فحسب، بل وصلت إلى أصول العقيدة وأركانها والتميع في تناولها، وبخاصة ما يتعلق بمسائل الإيمان والكفر وحدودهما، أو بمسائل الولاء والبراء، أو ما يتعلق بالجهاد وأحكامه، والمقصود أن سنة الابتلاء والتمحيص التي نعيشها هذه الأيام قد أفرزت مثل هذه المواقف، ولله الحكمة في ذلك؛ لأن في ظهورها خيرا لأهلها، لعلهم يحاسبون أنفسهم فيتخلصون منها كما أن فيها خيرا أيضا لغيرهم حتى يحذروها ويحذروا منها.
الهوامش
(1) ذكر هذا الأثر الإمام ابن القيم في زاد المعاد (1/208) .
(2) للرد على هذه الشبهات انظر كتاب «فاستقم كما أمرت» للمؤلف.
(3) مجلة السنة العدد (67).
(4) تحفة الأحوذي (2361) ( 539/6 )، وقال الترمذي: حديث غريب. وقال الأرناؤوط في «جامع الأصول» : له شواهد يرتقي بها.
(5) الترمذي (2/42) ، وابن بطة في «الإبانة» (1/173)، وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وصححه الألباني بشواهد في «السلسلة الصحيحة» (957).
اقرأ أيضا
المواقف المختلفة من غزو الأعداء (2-2)
أنواع الغزو الذي يتعرض له المسلمون اليوم
سنة المدافعة والصراع بين الحق والباطل