قد يعصي إنسان في خاصة نفسه، مستحييا مستغفرا يتوب ولا يتعدى بشؤم معصيته. وقد تعصي الجماعة والمجتمع فيتعدى الشؤم وتتنزل العقوبة.
مقدمة
“المعصية الفردية” يرتكبها صاحبها مستتراً، يتوارى من المجاهرة بها افتخاراً وتحدياً لمشاعر الجماهير، وقد يرتكبها وهو معتقد أنها حرام، وأنه ينتهك بارتكابها شرع الله؛ فيتوارى بفعلته تلك عن الأنظار ويصدّه الحياء عن تحدي المجتمع بذلك.
وإذا ما لاحقه شؤم فعله فافتضح فإنه يذهب يلتمس المعاذير التي يعتذر بها عادةً المقصرون، وقد يتوب إلى الله فيتوب الله عليه، ويُردف السيئة بالحسنات؛ فينسى الناس ما كان بدر منه ﴿ومَن تَابَ وعَمِلَ صَالِحاً فَإنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ مَتَاباً﴾ (الفرقان:71)
هذا النوع من المعاصي خطْبه سهل مقارنةً بالنوع الثاني ـ وهو المعصية الجماعية ـ فشؤمه وعواقبه الوخيمة تقتصر على مرتكبه، ودائرته الضيقة التي يتحرك فيها.
أما “المعصية الجماعية” فلها شأن آخر، فهي من حيث “التطبيق” ينتظم فيها عدد كثير يتواطؤون على فعلها ولا يزال هذا العدد يكبر ويكبر حتى يشمل المجتمع كله.
ومن حيث “صورتها” يجاهَر بها على رؤوس الأشهاد، وقد يصبح فعلها مجال فخر وخيلاء اعتزاز وتطاول على الآخرين؛ فقد تتخذها الجماعة أو الشعب شعاراً وتعتقد أنه يجلب لها المجد والرفعة.
ومن حيث “أثرها السيئ”، فإن نتيجتها لا تحيط بأهلها فقط بل بالمجتمع كله حتى مع وجود أناس قد يشمئزون من فعلها في ذلك المجتمع.
أثر المعصية الجماعية
إن أثر المعصية الجماعية مدمِّر ومخيف؛ لاتّساع المساحة التي يظهر فيها شؤم هذا الأثر؛ فهي تعرّض المجتمع الذي فشت فيه بأسره لغضب الله وانتقامه، وتجعله فاقد المناعة، يهوي ويندثر عند تعرضه لأدنى هزة.
هذا مع أنه قد يعجب الناظر إليه، ويَخدع الذي لا يتعمق في تفحص جوهره، فيحسبه سليماً متماسكاً، وهو المعلول الذي يعد الحكماء والأطباء ـ وما أقلهم ـ له الأيام والساعات.
لقد قص الله، عز وجل، علينا في القرآن الكريم خبر كثير من الأمم التي أهلكها بسبب المعاصي الجماعية، وذكر لنا جريمتهم التي استحقوا بها ذلك العقاب، مثل قوم عاد: ﴿وتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وعَصَوْا رُسُلَهُ واتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ (هود: 59)
ومثل قوم لوط: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ومَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ (هود: 82-83)
ومثل قوم شعيب: ﴿ولَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وأَخَذَتِ الَذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ (هود: 94-95)
ثم يبين الله، تعالى، سُنته المطردة في عقوبة المجتمعات التي تفشو فيها المعاصي التى يتواطأ عليها المجتمع ويقرها أهله فيقول ـ عز مِن قائل :﴿وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى وهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ (هود: 102)، ﴿ومَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ (هود: 117)
صور للمعصية الجماعية
بقي أن نزيد “المعصية الجماعية” تعريفاً وتحديداً، بالننظر في واقعنا ـ نحن المسلمين ـ لنرى هل لأمثال هذه المعاصي وجود؟
فنقول: المعصية الجماعية هى التى يقترفها جماعة من الناس (شعب، قبيلة، أهل مدينة، أو قرية،…) وتصبح شيئاً مألوفاً عندهم، وقد يفعلها الجيل بعد الجيل منهم، ولو استنكرها عليهم أحد واجهوه بالإنكار عليه ومحاربته حرباً جماعية أيضاً؛ لأنهم يرون فيه تهديداً لوحدتهم، بل لوجودهم أحياناً!
وهكذا يصبح هذا المنكر أمراً معروفاً ومطلوباً، وقد يصبح شعاراً لهم يُعرفون به، ويفتخرون به، ويمتازون به عن غيرهم.
ولو نظرنا في واقعنا اليوم لوجدنا كثيراً من هذه المنكرات التى أصبحت قوانين ودساتير محمية بقوة السلاح وبسلطة الدولة. وأن من يتجرأ على نقدها وبيان عيوبها وخطئها وخطرها يعرض نفسه لحرب شاملة على كل صعيد: مادياً ومعنوياً.
وليس المقصود بهذه المنكرات ما يتبادر إلى أذهان الكثيرين لأول وهلة كالزنا وشرب الخمر مثلاً؛ بل إن دائرة المنكرات دائرة واسعة؛ تشمل هذه، وتشمل غيرها من المبتدعات التى فرّقت المسلمين وأضعفت صفوفهم وأذهبت ريحهم وجعلتهم طعمة لكل طامع، وضحكة لكل ساخر، ولعبة لكل عابث، كالنعرة القومية والقبلية والإقليمية، والجنسية، والحزبية، والمذهبية، والتعصب لهذه الأصنام التى لا تقل خطراً عن الأصنام التي حطمها أبو الحنيفية “إبراهيم الخليل” وحطّمها من بعده محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم؛ بيده يوم فتح مكة وهو يتلو: ﴿وقُلْ جَاءَ الحَقُّ وزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾ (الإسراء: 81)
عقوبات المعصية الجماعية
والعذاب والبأس الذي أنزله الله بمن يتعارفون ويتميزون بهذه المنكرات ويفتخرون بها ويبذلون الأموال الطائلة في استنباتها وترسيخها بين الناس؛ قد يكون من الكوارث والجوائح التي تجعلهم نكالاً لمن يأتي مِن بعدهم كما عذّب القرون السابقة.
وقد يكون غير ذلك من البلاء والفتن التى تسلبهم نعمة الأمن والاستقرار وتضربهم بالخوف والجوع والذلة والمسكنة كما قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ (الأنعام: 65)
وفي الصحيحين عن النبى، صلى الله عليه وسلم؛ أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ﴾ قال: «أعوذ بوجهك، ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قال: أعوذ بوجهك، ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ﴾؛ قال: هاتان أهون» .
وقد بيَّن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن الله لن يستأصل هذه الأمة كما استأصل الأمم السابقة، بل سيكون عقابه لها في الدنيا أن يلبسهم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض.
فقد قال، صلى الله عليه سلم: «إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وأن مُلك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وإني أُعطيت الكنزين الأبيض والأحمر وإني سألت ربي، عز وجل، أن لا يهلك أمتي بسَنة عامة، وأن لا يسلّط عليهم عدواً فيهلكهم بعامة، وأن لا يلبسهم شيعاً ولا يذيق بعضهم بأس بعض.
فقال: يا محمد: إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني قد أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسَنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سواهم فيهلكهم بعامة حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وبعضهم يقتل بعضاً، وبعضهم يسبي بعضاً.
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين، فإذا وُضع السيف في أمتي لم يُرفع عنهم إلى يوم القيامة». (1انظر مزيداً من الروايات في تفسير الآية رقم (65) من سورة الأنعام في تفسير ابن كثير)
والناظر في حال الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل إلى اليوم يرى محنتها الرئيسية ليست المجاعات، ولا الفقر، ولا تسلط الأعداء عليها؛ بل تسلط بعضهم على بعض، وتفرق كلمتهم، والتيه الذي يعيشون فيه بسبب الدعوات الهدامة المفرقة لأهدافهم، المشتتة لجهودهم.
خاتمة
إن المسلمين لم يؤتَوا من ضيق ذات اليد، ولا من نقص في الموارد بل أُتُوا من غفلتهم عما يسبب التفرق لهم من نكبات، ومن قِصَر النظر الذي يجعلهم يفضلون الأدنى على الأبقى، ويضحّون بالمصلحة العامة في سبيل المصلحة الخاصة، ومن إخلالهم بتطبيق قاعدة الولاء والبراء، واضطرابهم في فهم الأولويات؛ فتراهم يصرفون الجهود العظيمة على السُنن والمندوبات ويهملون الفروض والواجبات..
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ ولَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ﴾ (الأعراف: 96 ـ 99)
……………………………..
هوامش:
- انظر مزيداً من الروايات في تفسير الآية رقم (65) من سورة الأنعام في تفسير ابن كثير.
المصدر:
- مجلة البيان، صفر ـ 1411هـ، سبتمبر ـ 1990م، (السنة: 5)